«التبادلُ اللامتكافئ» مِن أهمّ أسباب تخلُّفنا وتقدُّمهم (2)
استطاعت الرأسمالية تنفُّس الصّعداء لنحو أربعين عاماً الماضية عن طريق اقتصاد السوق الحر والخصخصة (النيوليبرالية). وشهدت خلال العقود الثلاثة الأولى من العولَمة النيوليبرالية، نقلاً متزايداً للقيمة عبر التبادل غير المتكافئ الذي نهَبت بواسطته الشعوبَ الفقيرة لصالح قلّةٍ من البلدان الأغنى. لكن مقاومة الرأسمالية كانت تختمر تحت السطح، فمع تراجع الهيمنة الأمريكية، وصل النظام العالمي المستقطب إلى نقطة تحوُّلٍ لم يشهدها في مئة عام. فمع صعود الصين كقوة صناعية رائدة وتطوّر نظام عالمي متعدد الأقطاب، نشهد كسراً لآلية التبادل اللامتكافئ لأوّل مرة منذ 150 عاماً.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
بحفاظها على مشروعها الوطني وتطويره، تحولت الصين من كونها منبعاً لنقل القيمة، إلى منافسٍ للشمال العالمي (البلدان الأغنى) في السوق العالمية. وبدأ نقل القيمة عبر التبادل غير المتكافئ من الجنوب إلى الشمال في التراجع لأوّل مرة منذ 150 عاماً. يُعَدُّ ارتفاع مستويات الأجور في الصين عاملاً رئيسياً يُسهم في هذا التراجع: «بين عامي 1978 و2018، كانت ساعة عمل واحدة في الولايات المتحدة تُقابل وسطياً 40 ساعة عملٍ صيني تقريباً. ومع ذلك، منذ منتصف التسعينيّات لاحظنا انخفاضاً ملحوظاً في التبادل غير المتكافئ، دون أن يختفي تماماً؛ ففي عام 2018، صارت ساعة عمل أمريكية واحدة تُقابل 6.4 ساعات من العمل الصيني». (بحسب بحث «الحرب التجارية الأمريكية-الصينية: هل انكشفَ اللصّ الحقيقي أخيراً؟»، لونغ وفينغ وهيريرا، عام 2000).
إنّ المركز الرأسمالي لم يعد يتمتع بميزة احتكار الإنتاج الصناعي عالي التقنية، وهو يفقد قبضته على التمويل والتجارة العالميَّين. وللحفاظ على هيمنتها، تعمل الولايات المتحدة على تقسيم وتآكل السوق العالمية النيوليبرالية السابقة من خلال الحروب التجارية والعقوبات والحصار، فتقضي بيديها على دجاجتها التي كانت تبيض ذهباً.
مقاومة التبادل غير المتكافئ
يُمثّل نقل القيمة من خلال التبادل غير المتكافئ ركيزةً أساسية من ركائز النظام الرأسمالي العالمي الحالي. يُسهم هذا في تفاقم التناقضَين الرئيسيَّين الحاليَّين في العالَم: التناقض بين تراجع الهيمنة الأمريكية وصعود الصين وظهور نظام عالمي متعدّد الأقطاب، من جهة، والتناقض بين نمط الإنتاج الرأسمالي والأنظمة البيئية للأرض، من جهة ثانية. إنَّ التبادل غير المتكافئ اقتصادياً وبيئيّاً مُضمَرٌ في التجارة الدولية وسلاسل الإنتاج العالمية.
في موجة معاداة الإمبريالية في سبعينيّات القرن الماضي، طالَبَ «العالَمُ الثالث» بنظام اقتصادي عالَمي جديد، وهو ما لم يُؤتِ ثماره، إذْ لم تكن قوّة التحرُّر الوطني والطموح إلى بناء الاشتراكية كافيَين لقَطْع قنوات نقل القيمة الإمبريالية. ولم تكن الدول الثورية حديثة العهد تملك القدرة على تغيير ديناميكية الاستقطاب الناجمة عن التبادل غير المتكافئ، ولا القدرة على زيادة أجور وأسعار المواد الخام والمنتجات الزراعية التي تُورِّدها إلى السوق العالمية. ومهما كانت تطلُّعات الدول المستقلة حديثاً آنذاك، فإنّ اقتصاداتها خضعتْ إلى حدٍّ كبير إلى السوق العالمية الرأسمالية المهيمِنة.
انتقال «الجنوب» إلى موقِع الهجوم
اليوم، بدأت دول الجنوب العالمي بناءَ نظام اقتصادي عالَمي جديد، مُنشِئةً أنماطاً تجارية ومؤسسات مالية بديلة، ومستخدمةً عملاتها الخاصة بدلاً من الدولار الأمريكي. إنّ تراجع الهيمنة الأمريكية وصعود نظام عالَمي متعدد الأقطاب يفتحان «نافذة/فرصة»، مما يُتيح مساحةً للدول والحركات التقدمية التي تُواجه الاستغلال الإمبريالي الجاري عبر التبادل غير المتكافئ. لا تزال الولايات المتحدة قوةً مؤثرة، لكن الجنوب في موقفٍ هجوميّ. فبينما استندت قوّة التغيير للعالم الثالث في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى «الروح الثورية» -أي إلى محاولة الهيمنة الأيديولوجية على التنمية الاقتصادية- فإنّ قوّة التغيير الحالية للجنوب العالمي تستند إلى قوته الاقتصادية.
نحو تحالفٌ عالَمي ضدّ التبادل اللامتكافئ
يمكن أن تُوفِر مواجهة التبادل غير المتكافئ أساساً لتحالُف عالَمي يُنشِئ نظاماً دولياً جديداً. ومع ذلك، فقد أدّى حكم الإمبريالية وتأثير التبادل غير المتكافئ إلى تقسيم الطبقة العاملة على أسس هرميّة وشاقولية قائمة على الجنسية والمواطنة والعِرق والإثنيّة والجنس. كما أشار ماركس: «ليس وعي البشر هو ما يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم»، وبالتالي، فإنّ القوى المحركة الرئيسية للنضال ستكون في دول الجنوب العالَمي، ففيها تتركّز المصلحة المادية المباشرة في التخلُّص من التبادل غير المتكافئ.
في ثمانينيات القرن الماضي، نصحَ الاقتصادي سمير أمين دولَ العالَم الثالث بفكِّ ارتباطها بالنظام الاقتصادي الإمبريالي، لوقف انتقال القيمة الناتجة عن التبادل غير المتكافئ. ومع ذلك، وكما أشار أمين، فإنّ فكَّ الارتباط لا يعني العُزلة، بل إعادة توجيه العلاقات الاقتصادية الدولية وإخضاعها للاحتياجات الاجتماعية والبيئيّة للجماهير الكادحة. ويتطلّب ذلك عمليةً تكاملية وداعمة متبادَلة، بين الصراع الطبقي في كل دولة لصالح الطبقة العاملة من جهة، وتهيئة ظروف سياسية عالمية خارجية تُمكِّن من استعادة السيادة الشعبية الوطنية من جهة أخرى. إنّ بناء جبهة مناهضة للإمبريالية على مستوى الدول، ومواجهة هيمنة الولايات المتحدة في النظام العالمي، تُعَدّ جزءاً لا يتجزأ من مشروع التحرير الوطني. لا يمكن للدول منفردةً السعي إلى وضع حدٍّ للتبادل غير المتكافئ بمعزلٍ عن بعضها بعضاً. وستكون القوة الدافعة هي الدول التي تسعى إلى بناء الاشتراكية، وحركات التحرُّر الوطني والاجتماعي في بلدان الجنوب العالمي.
وللحد من انتقال القيمة، يجب على هذه البلدان استعادة سيادتها الاقتصادية التي تآكلت بفعل العولَمة النيوليبرالية. كما أنّها بحاجة إلى إعادة توجيه نمط تجارتها الموَجَّهة «من الجنوب إلى الشمال» ليصبح «من الجنوب إلى الجنوب». وفيما بين بلدان الجنوب لا تزال هناك فروق في الأجور، ولكنها أقلّ تفاوتاً بكثير من التفاوت بالأجور بين الشمال والجنوب، كما أنّها بحاجة إلى تطوير قواها الإنتاجية لتحرير نفسها من الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، وتطوير نظامها المالي والمصرفي الخاص لتجنب التبعيّة لصندوق النقد والبنك الدوليَّين، وخاصةً أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تستعمل النظام المالي كسلاحٍ من خلال العقوبات والحصار. كما أنّ بلدان الجنوب بحاجة إلى اعتماد وسائل دفع دولية جديدة للحد من قوة الدولار في الأسواق العالمية.
ومن الأمثلة على هذه التدابير مجموعة البريكس. فالتعاون بين البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والذي توسّع عام 2023 بانضمام دول جديدة، يُشكّل الآن 46% من سكان العالم و36% من الاقتصاد العالمي، مُوازِناً مجموعة السبع (الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، واليابان)، التي تُشكّل 10% فقط من سكان العالم و30% من الاقتصاد العالَمي.
مع ذلك فإنّ «بريكس بلس» ليست منظمةً مُناهضةً للرأسمالية عموماً، حيث يتألف النظام العالمي متعدّد الأقطاب الناشئ من مجموعةٍ مُعقَّدةٍ من التيّارات المُتناقِضة - بين الهيمنة ومُناهضة الهيمنة، والقوى المُحافِظة والتقدّمية، والقوى الرأسمالية والاشتراكية. علينا أنْ نضع في اعتبارنا كلمات ماركس: لا يزول أيّ نظام اجتماعي قبل تطوير جميع القوى المُنتجة التي يُمكنها أن تتطوّر فيه. نحن نقترب من هذه النقطة. ثم -كما يواصل ماركس- تأتي فترة الثورة الاجتماعية.
نمط الإنتاج الرأسمالي لم يعد هو الأكثر فعالية في تطوير القوى الإنتاجية، بل أصبح قوة تدميرية عالمية، سواء على مستوى المجتمعات البشرية أو البيئة الطبيعية. لم تعد الولايات المتحدة قادرة على منافسة الصين، التي أصبحت القوة الاقتصادية الرائدة عالَمياً في الابتكار. الدول الرأسمالية الرائدة لا تفعل سوى إثارة الصراعات والحروب في محاولة للحفاظ على هيمنتها، ممّا يجعل التوصل إلى حلول عالمية للمشاكل الاجتماعية والبيئية التي تواجه البشرية مستحيلاً.
إننا نقترب من نقطة يمكن فيها لأنماط إنتاجٍ انتقاليّة أن تظهَر، متحرّرةً من القيود الدوليّة المتبقّية والأساليب الداخلية للرأسمالية، وتتحول إلى نمط إنتاج اشتراكي أكثر تطوراً. لن يحدث هذا التحوُّل في العام المقبل، بل في العقود القادمة. ولن يحدث تلقائياً، بل في صراع طبقي دولي ووطني صعبٍ وخطير.
* النصّ هو جزء مُختار من مقال أطول للكاتب توركل لاويسين نشره مؤخراً في عدد شهر آذار 2025 من مجلة «مونثلي ريفيو» بعنوان «آرغيري إيمانويل والتبادل اللامتكافئ».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1220