«التبادلُ اللامتكافئ» مِن أهمّ أسباب تخلُّفنا وتقدُّمهم (1)
أدى نصف القرن الماضي من اشتداد الاستغلال الإمبريالي للعالَم إلى إبراز «التبادل اللامتكافئ» كأحد أهم سمات وآليات النهب الإمبريالي. كما غيّرت العولمة النيوليبرالية الاقتصاد العالمي جذرياً في الربع الأخير من القرن العشرين. وأتاح تطور القوى الإنتاجية (الحواسيب، والهواتف المحمولة، والإنترنت، وأنظمة اللوجستيات الجديدة) التحكم في الإنتاج وإدارته عالمياً. وأصبحت المسافة بين مكان الإنتاج والسوق أقل أهمية، وتم نقل الإنتاج الصناعي على نطاق واسع من دول الشمال العالمي إلى دول الجنوب العالمي ذات الأجور المنخفضة بحثاً عن أرباح أعلى. ونشأ تقسيم دولي جديد للعمل.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
لم يعد الأمر يقتصر على المواد الخام والمنتجات الزراعية الاستوائية من العالم الثالث التي تتنافس مع المنتجات الصناعية من الشمال. في خمسينيات القرن الماضي، لم تشكل السلع الصناعية سوى 15% من صادرات ما يسمى بدول العالم الثالث مجتمعة. بحلول عام 2009، ارتفع الرقم إلى 70%، وكان هذا نتيجة لجميع أنواع الإنتاج الصناعي، من الإلكترونيات عالية التقنية والسيارات إلى الغسّالات والملابس الجاهزة، المنظَّمة في سلاسل إنتاج عالمية تمتد من الشمال العالمي إلى الجنوب والعودة مرة أخرى.
بقي تمويل ومراقبة العملية برمّتها والبحث والتطوير في الشمال العالمي. تمت الاستعانة بمصادر خارجية لعملية الإنتاج إلى الجنوب العالمي. كانت الأسواق الرئيسية للاستهلاك لا تزال تقع في الشمال العالمي، حيث العلامات التجارية والمبيعات والخدمة. في كثير من الأحيان، يتم إنتاج المكونات الفرعية للجهاز الإلكتروني أو السيارة في بلدان مختلفة في الجنوب العالمي، حيث تكون ظروف الربح مثالية، قبل التجميع. وبالتالي، لم يحدث نقل القيمة فقط في التجارة الدولية بين البلدان ولكن أيضاً من خلال تشكيل سعر المنتج داخل الأقسام المختلفة للشركة.
«القيمة المُضافَة» بين مَزاعم الإمبريالية والمفهوم الماركسي
إنّ انخفاض مستوى الأجور في الجنوب لا يخلق معدَّل ربح عالمي أعلى ممّا يمكن الحصول عليه بخلاف ذلك فحسب؛ بل يؤثِّر أيضاً على سعر السلع المنتَجة في الجنوب. في الاقتصاد السائد، يُمكن وصف تشكيل أسعار سوق الهواتف الذكية، مثلاً، من خلال سلسلة الإنتاج، بأنه «منحنى مبتسِم» [مقعَّر للأعلى] لما يُسمى بالقيمة المضافة؛ حيث يُزعَم أنّ «القيمة» المضافة تُعادِل ببساطة تكلفةَ الإنتاج المضافة في كل مرحلة من مراحل سلسلة الإنتاج بالأسعار التقليدية، فيُحتَسَب أنّ «القيمة» المضافة مرتفعة في الجزء الأول من السلسلة، حيث تقع عمليات البحث والتطوير والتصميم والإدارة المالية عالية الأجر في الشمال، بينما ينخسف المنحني من المنتصف، حيث تقوم العمالة منخفضة الأجر في الجنوب بإنتاج المنتوج المادي، وترتفع «القيمة» المضافة مجدداً نحو نهاية المنحنى، حيث تُجرى عمليات العلامات التجارية والتسويق والمبيعات في الشمال، وذلك على الرغم من أن أجور عمال التجزئة من بين الأدنى في تلك البلدان. وهكذا فإنّ فرضية «المنحنى المبتسم» هذه تزعم بأنّ الجزء الرئيسي من قيمة المنتوج يُضافُ في الشمال العالَمي (البلدان الغنية)، بينما لا تُساهِم العَمالة في الجنوب العالَمي الفقير في تصنيع السلع سوى بنسبة ضئيلة فقط!
على النقيض من ذلك، تُعرَّف القيمة، وفقاً للماركسية، بأنّها مجموع وقت العمل الضروري اجتماعياً المُستغرَق في إنتاجِ سلعةٍ ما. وبالتالي، إذا رسمنا وفقها منحني المفهوم الماركسي للقيمة المضافة، في سلسلة إنتاج هاتفٍ ذكيّ مثلاً، فسوف نجد أنه يتخذ الشكل المعاكس تقريباً لـ«منحنى الابتسامة»، أيْ يتخذ شكل «ابتسامة مقلوبة أو مريرة»، مما يبرز الأهمية الأساسية والأكبر لعمّال الجنوب العالَمي في إضافة القيمة للمنتوجات.
في المجمل، زادت القوى العاملة العالمية المنخرطة في الإنتاج الرأسمالي بنسبة 61% بين عامي 1980 و2011. ويعيش ثلاثة أرباع هذه القوى العاملة في الجنوب العالمي. وتمثل الصين والهند وحدهما 40% من القوى العاملة في العالم. وهذا يعني أنه كان هناك توسُّع في الرأسمالية بحجمٍ تاريخي، وتحوّل في التوازن بين الشمال والجنوب العالميين. في عام 1980، كان عدد العمال الصناعيين في الجنوب والشمال متساوياً تقريباً. وفي عام 2010، كان هناك 541 مليون عامل صناعي في الجنوب العالمي، و145 مليوناً فقط في الشمال العالمي. وبالتالي، لم يعد مركز الثقل للإنتاج الصناعي العالمي يقع في الشمال بل في الجنوب. وعلى الرغم من هذا التغيير، لا يزال مستوى الأجور منخفضاً في الجنوب. تتركّز القوة الاستهلاكية القادرة على استيعاب الإنتاج لتحقيق الربح والتراكم المستمر بشكل رئيسي في دول الشمال العالمي. وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت دول المركز تعتمد على الإنتاج في دول الأطراف، بينما تعتمد دول الأطراف على الاستهلاك في دول المركز. ويمكن الإشارة إلى هذين الاقتصادَين باسم «اقتصادات المنتجين» مقابِل «اقتصادات المستهلِكين»، المترابطين عبر سلاسل إنتاج عالمية.
قياسٌ حديث لحجم التبادل اللامتكافئ
قامت دراسة حديثة نسبياً أجراها جيسون هيكل ومورينا هانبري ليموس وفيليكس باربور بقياس حجم التبادل غير المتكافئ عالَمياً. وقدَّم الباحثون حججاً على أنّ الدول الغنية تستولي بشكلٍ كبير على العمالة والموارد من بقية العالَم عبر التبادل غير المتكافئ في التجارة الدولية وسلاسل السلع العالمية. ففي عام 2021 استحوذت اقتصادات الشمال العالَمي على 826 مليار ساعة من العَمَل المجسَّد من الجنوب العالمي، عبر جميع مستويات المهارة والقطاعات. وبلغت قيمة أجور هذا العمل الصافي ما يعادل 16.9 تريليون يورو بأسعار الشِّمال، مع مراعاة مستوى المهارة، ويؤدي هذا لاستنزاف الجنوب من القدرة الإنتاجية، ولولا هذا الاستنزاف لكان بإمكان هذه البلدان الفقيرة استخدام هذه القدرة الإنتاجية لتلبية احتياجات شعوبها وتنميتها. وهكذا فإنّ التبادل غير المتكافئ مدفوعٌ جزئياً بالتفاوت المنهجي في الأجور. فأجور الجنوب أقلّ بنسبة 87–95% من أجور الشمال مقابل العمل المتساوي في المهارة. ورغم أنّ عمّال الجنوب يساهمون بنسبة 90% من القوى العاملة التي تُحرّك الاقتصاد العالمي، فإنّهم لا يحصلون إلّا على 21% من الدخل العالمي.
الهجرة بوصفها «تبادلاً غير متكافئ»
في السنوات الأخيرة، أُدرجت هِجرة العمالة كأحد أشكال التبادل غير المتكافئ، وبرز ذلك خصوصاً في كتاب إيمانويل نيس «الهجرة كإمبريالية اقتصادية» حيث قال: «يُدرِك هذا الكتاب الواقعَ الصارخ للهجرة والإمبريالية النيوليبرالية، واستمراريتها المتجذِّرة في التبادل غير المتكافئ بين الشمال والجنوب العالميَّين، والذي نشأ في المشروع الاستعماري الأوروبّي لاستخراج الموارد على مدى القرون الثلاثة الماضية».
بما أنّ الفرق بين القيمة العالمية للعمل ومستويات أجوره المختلفة هو النقطة المحورية في نظرية التبادل غير المتكافئ، فمن المنطقي ربطه بهجرة العمالة. يمكن نقل القيمة من خلال هيكل الأسعار عندما تتبادل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبياً السلعَ مع الدول ذات الأجور المرتفعة نسبياً، ولكن يمكن أيضاً نقل القيمة من خلال هجرة القوى العاملة من الأطراف إلى المركز لإنتاج السلع وتقديم الخدمات بأجورٍ أقلّ مما تكسبه الطبقة العاملة التي تنتمي إلى بلدان المركز.
في الماضي، أخذ المستوطنون الأوروبيون مستويات أجورهم المرتفعة نسبياً معهم عندما استقرّوا في محيط النظام العالمي في القرون الماضية، ممّا أدى إلى تحويل أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا إلى جزء من المركز عبر الإبادة شبه الكاملة للسكان الأصليين. كما حوّل المستوطنون الأوروبيون جنوب إفريقيا وناميبيا وروديسيا والكونغو البلجيكية وكينيا والجزائر وفلسطين إلى نسخة مصغَّرة من النظام العالمي المستقطَب، من خلال إنشاء قوة عاملة منقسمة بشكلٍ حادّ من حيث الأجور ومجتمع منظَّم للفصل العنصري، وكلاهما قائم على العنصرية الوحشية.
وبالمثل، في الهجرة من المحيط إلى المركز، استمرت أسعار قوة العمل في الانخفاض. بالنسبة لعمل العبيد الأفارقة لم يكن هناك أجرٌ على الإطلاق. بالنسبة للعمالة المتعاقدة الصينية والهندية في نصف الكرة الغربي، كانت الأجور أقل بكثير من أجر المستوطنين الأوروبيين. نرى النمط نفسه اليوم؛ حيث تؤدي هجرة العمالة، «الشرعية» و«غير الشرعية»، من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إلى المركز، إلى حصول العمّال على أجور أقلّ بكثير من القوى العاملة المحلية، وهو فرقٌ تُعزِّزه المواقف والبنى العنصرية في المركز.
* هذا النصّ جزء مُختار من مقال أطول للكاتب توركل لاويسين نشره مؤخراً في عدد شهر آذار 2025 من مجلة «مونثلي ريفيو» بعنوان «آرغيري إيمانويل والتبادل اللامتكافئ». وسيناقش في جزئه الثاني أزمات الإمبريالية ومقاومة التبادل اللامتكافئ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1219