خَصخصة المَعرِفة العامَّة وتحويل العُلماء إلى مُقاوِلِين
برابير بوركاياستا* برابير بوركاياستا*

خَصخصة المَعرِفة العامَّة وتحويل العُلماء إلى مُقاوِلِين

بسبب استمرار سيطرة الأسواق ومتطلبات رأس المال العالمي على العلم وتقدُّمه، لا تُلبّي الممارسة العِلمية الحالية أهدافَ تطوير نِظام المعرفة، ولا أهدافَ تلبية احتياجات النّاس، وخاصّة الفقراء. ويُضحَّى بالمعرفة وبالأهداف الاجتماعية الأوسع لصالح النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي لا يهتم سوى بالربح الفوري كمحرِّك للعِلم. وفي حين يُمكن الحديث عن «اقتصاد المعرفة» لكن يجري إجهاض مساهمته في تنميةٍ حقيقية بسبب خصخصة مخرَجات البحث العلمي واستيلاء القطاع الخاص على ما تمّ تمويله أصلاً من القطاع العام ونظامِه التعليمي.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

قبل نشر أيّ نتيجة، ينشغل العلماء بالفعل بمستلزمات تسجيل براءات الاختراع. لم يعد ناتج البحث العلمي يقتصر على الأوراق البحثية المنشورة في المجلّات العلمية التي تُوسِّع آفاق المعرفة، بل يشمل براءات الاختراع التي يُمكِن تحويلها إلى أموال.

تحويل العُلماء إلى مُقاوِلين

أدّى هذا إلى هدفٍ جديد داخل الجاليات العِلمية: خلق فئة جديدة من العلماء الذين يتصرّفون كمُقاوِلين (أو ما يسمّى روّاد أعمال)، والذين غالباً ما يعملون ضمن مؤسسات علمية عامّة، لكنهم أصبحوا مُقاوِلين علميّين بدافع التربُّح الخاصّ من مخرَجات أبحاثهم. لم يعد هدفُ البحث إنتاج المعرفة، بل خلق احتكارات إمّا لرأس المال الخاص أو للعالِم بوصفه «رائدَ أعمال/مُقاوِلاً». إنَّ احتكار المعرفة، سواءً استُخدم لبيع برنامج كمبيوتر أو دواء أو بِذرة زراعية...إلخ، يُترجَم إلى القدرة على تحقيق أرباح هائلة. كما أنّه يُجهِضُ إمكانية تطوير العِلم من خلال شبكةٍ مفتوحة.

ومن المفارقات أنّه في حين أنّ الإنترنت والوصول المفتوح إلى المعرفة قد مكّنا مجموعات كبيرة من الناس حول العالم من التعاون المشترَك وتحقيق تقدّم كبير في العلوم، فإنّنا نشهد أيضاً عصراً تُحشَر فيه المعرفةُ في جيوبٍ ضيقة، ممّا يسلب ثمار التعاون الاجتماعي لصالح حفنة أفراد.

أظهرت حركة البرمجيّات الحرّة (كمشاعٍ معرفيّ) في ثمانينيّات القرن الماضي قوّةَ الهياكل الشبكية الجديدة في إنشاء البرمجيات، وتفوُّقها على القطاع الخاص (تطوير البرمجيات المخَصخَصة). لم يسبق للمجتمع من قبل أنْ امتلكَ القدرة على جمع جاليات علمية وموارد متنوّعة بهذا الحجم. لقد رأينا ما يمكن للتعاون أنْ يحقّقه عند تسخيره للأنشطة العلمية مثل فيزياء الجسيمات تحت الذرّية أو علم الفلك. إذن، ما الذي يَحُول دون تحرير هذه القوة الهائلة للعمل المشترَك من أجل توليد معارف وفنون جديدة؟ مِن أبرز العوائق حقوقُ الاحتكار والاستيلاء الخاص المتأصِّل في نظام حقوق الملكية الفكرية الخاصّة.

ميزةٌ هامّة للمَشاع المعرفي مقارنةً بالطبيعي

إنّ إدراك ضرورة استعادة العِلم كممارسةٍ مفتوحة وتعاونية قد أدّى إلى ولادة حركة «الموارد المشتركة/مَشاع الموارِد». وبينما حاربت الحركات البيئية والإيكولوجية خصخصةَ الموارد المُشتركة، فإنَّها ضيّقَت قَصَرَتْ نظرتَها إلى الموارد المَشاع على أنّها «المشاعات الطبيعية» فقط، مثل المراعي والغابات ومصايد الأسماك والمحيطات والغلاف الجوي. هذه الموارد المشتركة هي موارد طبيعية كان يُعتقد سابقاً أنّها غير محدودة، ويُفهَم الآن أنّها محدودة، وقابلة للاستغلال المفرِط والتدهور. تختلف الموارد المشترَكة المعرفية (المَشاعات المعرفيّة) اختلافاً جوهرياً من حيث أنّها لا تتدهور أو تُستَنفَد مع الاستخدام المتكرِّر، بل على العكس؛ فاستخدامها المفتوح على نطاق واسع يُثري المعارف العامَّة ويطوّرها كمّاً ونوعاً.

ومن وجهة النظر إلى العِلم كمَشاع، تُعدّ حقوق الملكية الفكرية الخاصّة محاولاتٍ لاستبعاد الناس من نطاق المعرفة عبر حصرها، على غرار حصر مَشاع القُرى الذي جرى على مدى الخمسمائة عام الماضية. ويُستخدم هذا حيلةً قانونيةً تُسمَّى «حقوق الملكية الفكرية» لخصخصة المعرفة التي لطالما كانت مُلكاً عامّاً. إنَّ حصر المعرفة له ضررٌ مضاعَف: فهو لا يُقيّد وصول الآخرين إليها فحسب، بل يُقيّد أيضاً الوصول إلى شيءٍ قابلٍ للتّكرار بلا حدود ولا يتدهور مع الاستخدام. إنّ حصر المعرفة عن طريق تطبيق نظام حقوق الملكية الفكرية الخاصّة أكثرُ ظُلماً من حركات الحصريّة السابقة، التي جادلتْ بأنّ حقوق الملكية الخاصة تمنع تدهور المَشاع. إنّ الصراع ضدَّ حقوق الملكية الفكريّة بمختلف أنواعها هو معركةٌ للحفاظ على المَشاع العالَمي، وتحديداً المعرفة بأشكالها المختلفة.

تراجُع الاستقلالية النسبيّة للعِلم عن السوق والدولة

كان النظام السابق لتطوير المعرفة العلمية قائماً بشكل أساسي ضمن هياكل التعليم العالي. كانت الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى مراكزَ انطلاق التطوّرات العلمية الجديدة. ولأنّ هذه المراكز التعليمية كانت تتمتع باستقلالية نسبية عن كلٍّ من الدولة والسوق، كان نظام توليد المعرفة الجديدة أقلّ تقييداً من قبل الهيمنة الطبقية المباشرة في المجتمع. وقد أنتج هذا داخل النظام الجامعي شعوراً بالاستقلالية النسبية والتنظيم الذاتي، وكان للتعليم المُقدَّم للطلاب هدفٌ يتجاوز مجرَّد خدمة رأس المال أو احتياجات الدولة. ولهذا السبب كان النظام التعليمي أقدَرَ، مما هو عليه الآن، على خلق مساحة لإبداع أفكار جديدة، ليس في مختلف التخصُّصات فحسب، بل وفي عموم المجتمع نفسه أيضاً.

جاء تحول هذا النظام بعد أكثر من مئة عام من مصدرين متمايزين؛ الأول هو أن العلم والتكنولوجيا أصبحا أكثر تكاملاً من ذي قبل، ويمكن تحويل التطورات العلمية بسرعة إلى منتوجات قابلة للتسويق، مثل التطورات في علم الأحياء التي تُنتج مركبات دوائية جديدة، أو التطورات في الفيزياء التي تدخل في أحدث آلات صناعة الرقائق الإلكترونية، فهي تحدث اليوم بشكل أسرع بكثير مما كانت عليه في السابق.

لكنّ المتعصّبين للسُّوق حول العالَم يطالبون بإجراءاتٍ مُشابهة لقانون بايه-دول الأمريكي لعام 1980 الذي أدخل تعديلات على قانون براءات الاختراع والعلامات التجارية، سامحاً للجامعات وغيرها من الكيانات غير الربحية بتسجيل براءات اختراع خاصّة للأبحاث المُموَّلة من الموارد العامة، مما أدّى لمزيد من حصر التقدم في المعرفة المُنتَجة من التمويل العام في أيادٍ خاصّة، وهيّأ الظروف اللازمة لنظام الجامعات في الولايات المتحدة للتعاون بشكل أوثق مع الشركات الخاصّة الكبرى، حيث أصبح بإمكان الجامعات خصخصة الأبحاث الممولة من القطاع العام، عن طريق بيع براءات الاختراع للشركات الخاصة. وهكذا يتم تدفيع الناس ثمناً باهظاً: مرة لتمويل الأبحاث من المال العام، ومرة ​​أخرى للمنتوجات الخاصّة الباهظة الناتجة عن ذلك، رغم أنّها مُطوَّرة من الأبحاث المموَّلة من القطاع العام، أيْ من جيوب الناس في نهاية المطاف.

كما ساهمت عوامل أخرى في تغيير نظام إنتاج المعرفة، أبرزها السياسات النيوليبرالية المُتَّبعة حول العالَم. عانى التمويل العام للأبحاث، لا سيّما في الدول النامية، إذْ فرضَ الاقتصاد النيوليبرالي التقشُّفَ على المالية العامّة. وقد أدى هذا، إلى جانب الاعتماد على السوق، إلى ظهور فكرة مفادها أنّ الطريق للمضي قدماً هو الحصول على تمويل الأبحاث من القطاع الخاص. وهناك أدلة اليوم على أن التمويل الخاص للأبحاث يُشوِّهُ الأولويّات التي يدعمها التمويل العام. ومُنِحَت الشركات الخاصة القدرَةَ على ممارسة سيطرة حاسمة على مسار البحث، حتّى عند تمويل أجزاءٍ مختارَة فقط من مشروع بحثي، لأنَّ ثمارَ الأبحاث المموَّلة من القطاع العام تُوضَع تحت تصرُّفها.

إعادة المؤسَّسات العِلمية للاهتمام بالمجتمع والفقراء

السؤال الثاني الذي نحتاج إلى معالجته هو كيفية استعادة اهتمام المؤسسات العلمية بالشواغل المجتمعية، والتحويل الديمقراطي للمؤسَّسات، بحيث تكون الأهداف الاجتماعية الأوسع هي التي تحدّد أولويّات العِلم؟ هل يُموّل قطاعُ الشركات الأبحاث المتعلّقة بالأمراض التي تُصيب الفقراء، وهو قطاع لا يهتم بتطوير أدوية لمن لا يستطيعون الدفع؟ كيف نأخذ في الاعتبار شواغل الدول الفقيرة التي لا تملك المال ولا الموارد العلمية لمعالجة هذه المشاكل؟ كيف نُرسي ونعزِّز العدالة في نظام تطوير المعرفة العِلمية؟ هذا يقودُنا مباشرةً إلى المسألة الأوسع، وهي كيفيّة سيطرة المجتمع ككلّ على مسيرة العِلم. إذا كان العِلم اليوم قوةً اقتصادية كبرى، فإنّ الهدف الأسمى للديمقراطية والمساواة في المجتمع يجب أنْ يشملَ العِلم حتماً. ليس مُستَغرباً أن تتطلَّب العديد من المسائل المصيرية في عالمنا اليوم فهماً للعِلم، ففي غياب هذا الفهم، سيتمكّن قلّةٌ من العلماء المنتمين إلى المؤسَّسة الحاكِمة مِن فرضِ أحكامهم على المجتمع بذريعة أنّها قرارات «عِلمية».

* بتصرّف، مِن كتابه «المعرفة كمشاع عام: نحو العلم والتكنولوجيا الشاملَين» الصادر عام 2024 في الهند. برابير بوركاياستا هو مهندس في الطاقة والاتصالات والبرمجيات، ومؤسِّس في منتدى دلهي للعلوم ومحرِّر موقع Newsclick.in. ألّف عام 2023 كتاباً مشتركاً مع فيجاي براشاد بعنوان «انفجار إنرون: الرأسمالية المؤسَّسية وسرقة الموارد العالمية المشتركة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221