دراسات حول اقتصاد السوق والخصخصة في وصفات «الانتقال السياسي»

دراسات حول اقتصاد السوق والخصخصة في وصفات «الانتقال السياسي»

درجت العادة في معظم بلدان العالَم أن تستخدم السلطات عندما تريد الإقدام على مشاريع تغييرات كبيرة في البلاد أو المؤسسات، تعبيرات من قبيل «سنتبنّى دراسات وخطط وفق أعلى المعايير العالَمية المتبعة». وهنا لا بد من طرح ثلاثة أسئلة أساسية حول هذا السلوك: 1- من الذي صنّف المعايير «الأعلى» بأنها كذلك، ومصالح أيّ قوى أو طبقات اجتماعية تخدم تلك المعايير؟ 2- وهل يوجد نوع واحد من المعايير في العالَم أم أن معايير متناقضة بين بعضها. 3- ما هو الأصلح للسياق المحلّي والخصوصية الوطنية لكل بلد ومرحلة تاريخية؟ وبالتالي هل من السليم استيراد معايير ومخططات معلّبة وجاهزة مسبقاً؟ وخاصةً أنه من المعروف أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت القوة التي هيمنت عالمياً طوال عقود مضت منذ التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن العشرين، وبالتالي معظم الدراسات و«الوصفات» التي صنّفت بأنها «الأرقى» عالمياً، هي الوصفات الأمريكية-الغربية في الحقيقة.

تظهر الدراسات العالمية التي تصنّف تحت عنوان «دراسات الانتقال السياسي»، ومعظمها غربية، هيمنة واضحة للنموذج المعروف باسم «الليبرالية الجديدة» (التي تعني باختصار السياسات الاقتصادية لرأسمالية السوق الحرة والخصخصة). ويتم إدراج وصفات هذا النوع من الاقتصاد في الدراسات المهيمنة التي تتحدث عن سياق الانتقال من نظام سياسي إلى آخر والتي تستخدم بالعادة تعبيرات «الانتقال من الأنظمة الاستبدادية إلى الديمقراطية، أو من الاقتصادات الاشتراكية إلى اقتصاديات السوق). وهو موضوع نقاش كبير في العلوم السياسية والاقتصاد السياسي. ويركز نموذج الليبرالية الجديدة على الإصلاحات الموجهة نحو السوق، والتحرير الاقتصادي، ودور الرأسمالية العالمية في تشكيل التحولات السياسية.
سوف نستعرض أدناه أبرز مقولات الدراسات المهيمنة في هذا الصنف، ثم أبرز نتائج الدراسات الناقدة لها.

الجوانب الرئيسية لنموذج النيوليبرالية في التحولات السياسية

1- التحرير الاقتصادي: يدعو نموذج الليبرالية الجديدة إلى تقليل تدخل الدولة في الاقتصاد، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وإلغاء القيود التنظيمية على الأسواق كعناصر أساسية في التحولات السياسية والاقتصادية.
2. العولمة والتأثير الدولي: تشدد الليبرالية الجديدة على دور المؤسسات المالية الدولية (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) والمستثمرين الأجانب في تشكيل عمليات الانتقال.
3- «الديمقراطية» وإصلاحات السُّوق: تفترض الليبرالية الجديدة أن التحول الديمقراطي والإصلاحات الموجّهة نحو السوق يعزز كل منهما الآخر. فتُرى الأسواق الحرة كشرط مسبق للحرية السياسية والاستقرار.
4- إجماع واشنطن: يرتبط نموذج الليبرالية الجديدة ارتباطاً وثيقاً بـما يسمى «إجماع واشنطن»، وهو مجموعة من السياسات (مثل التقشف المالي، وتحرير التجارة، والخصخصة) التي تروّج لها المؤسسات الغربية للدول التي تمرّ بتحولات سياسية واقتصادية.
5- انتقاد نماذج التنمية بقيادة الدولة: تنتقد الليبرالية الجديدة نماذج التنمية التي تقودها الدولة، بحجة أنها تؤدي إلى عدم الكفاءة والفساد والركود الاقتصادي.

دراسات نيوليبرالية شهيرة

1- ورقة ويليامسون (1990)، «إجماع واشنطن». تقدم هذه الورقة السياسات الأساسية للليبرالية الجديدة التي تروج لها المؤسسات المالية الدولية خلال التحولات السياسية والاقتصادية. وقد كان لها تأثير كبير في تشكيل استراتيجيات الانتقال في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا.
2- كتاب فوكوياما (1992) «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، على الرغم من أن الكتاب لا يركز حصراً على الليبرالية الجديدة، إلا أنه يجادل بأن الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الحرة تمثلان نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي، مما أثر على كيفية تصور التحولات السياسية.
3- برزيفورسكي (1991) «الديمقراطية والسوق: الإصلاحات السياسية والاقتصادية في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية». يفحص برزيفورسكي التفاعل بين التحول الديمقراطي والإصلاحات الموجهة نحو السوق، مع إبراز الفرضية الليبرالية الجديدة الزاعمة بأن التحرير الاقتصادي يدعم تعزيز الديمقراطية.

حالات مدروسة عن الليبرالية الجديدة

1- التحولات في أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي: تأثّر الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية في دول مثل بولندا والمجر وروسيا بشكل كبير بسياسات الليبرالية الجديدة، بما في ذلك العلاج بالصدمة والخصخصة. وقد سلطت دراسات لباحثين مثل ديفيد ليبتون وجيفري ساكس الضوء على دور إصلاحات الليبرالية الجديدة في هذه التحولات.
2- أمريكا اللاتينية: حالات مثل تشيلي والأرجنتين والبرازيل، تم تنفيذ إصلاحات الليبرالية الجديدة بالتزامن مع التحول عن الديكتاتوريات العسكرية السابقة في الثمانينيات والتسعينيات. وقد بحث باحثون مثل كورت وييلاند العواقب السياسية والاقتصادية لهذه الإصلاحات.
3- برامج التكيف الهيكلي في أفريقيا: طُلب من العديد من الدول الأفريقية التي تمر بتحولات سياسية في الثمانينيات والتسعينيات تنفيذ إصلاحات الليبرالية الجديدة كشرط للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبهذا المعنى يصح عليها تماماً وصف «إملاءات» بمعنى التدخّل الأجنبي وانتهاك السيادة الوطنية لهذه الدول. وقد انتقد باحثون مثل ثانديكا مكنداوير تأثير هذه السياسات على الحكم والتنمية.

دراسات انتقدت النيوليبرالية

1-غريسكوفيتش (1998) «الاقتصاد السياسي للاحتجاج والصبر»: يدرس هذا البحث كيفية تنفيذ إصلاحات الليبرالية الجديدة في أوروبا الشرقية خلال الانتقال من الشيوعية، مع التركيز على العواقب الاجتماعية والسياسية للسياسات الموجهة نحو السوق.
2- ستيغليتز (2002) «العولمة ومخاطرها»: ينتقد ستيغليتز السياسات الليبرالية الجديدة التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية خلال التحولات السياسية، مقدماً الحجج على أنها غالباً ما تفاقم عدم المساواة وتقوّض الحكم الديمقراطي.
3- ديفيد هارفي (2005)، «تاريخ موجز للليبرالية الجديدة»: يقدم هارفي تحليلاً نقدياً للانتشار العالمي للليبرالية الجديدة وتأثيرها على التحولات السياسية، خاصة في الدول الشيوعية السابقة والدول النامية.
وهكذا فإنه على الرغم من هيمنة نموذج الليبرالية الجديدة في دراسات التحولات السياسية واعتباره على مدى عقود سابقة بأنه «أعلى المعايير الدولية»، إلا أنه واجه انتقادات كبيرة وخاصة مع انكشاف الكثير من وعوده الكاذبة بالتطبيق العملي:
1- التكاليف الاجتماعية وعدم المساواة: يجادل النقاد بأن إصلاحات الليبرالية الجديدة غالباً ما تؤدي إلى زيادة عدم المساواة والبطالة والاضطرابات الاجتماعية. حيث تؤدي إصلاحات الليبرالية الجديدة، مثل الخصخصة، وتقليص الإنفاق العام إلى تفاقم عدم المساواة من خلال تركيز الثروة والسلطة في أيدي النخب بينما يتم تهميش الفئات الضعيفة.
2- تآكل الديمقراطية: يرى بعض الباحثين أن سياسات الليبرالية الجديدة تقوض الحكم الديمقراطي من خلال تركيز السلطة الاقتصادية في أيدي النخب. ومن خلال إعطاء الأولوية لكفاءة السوق على حساب الرعاية الاجتماعية، مما يقلل من قدرة الدولة على تلبية الاحتياجات العامة ويمكّن مصالح الشركات ورؤوس الأموال الخاصة على حساب المنتجين والطبقة العاملة ومشاركة المواطنين عموماً.
3- نهج «مقاس واحد يناسب الجميع»: تم انتقاد نموذج الليبرالية الجديدة لتجاهله السياقات المحلية وفرض مجموعة عالمية من السياسات التي قد لا تناسب جميع الدول.
4- الاعتماد على رأس المال العالمي وتقويض السيادة الوطنية: يسلط النقاد الضوء على كيف تجعل التحولات الليبرالية الجديدة الدول معتمدة بشكل مفرط، وشبه وحيد في كثير من الحالات، على الاستثمار الأجنبي والمؤسسات المالية الدولية، ممّا يحد من سيادتها وقدرتها على متابعة سياسات اقتصادية مستقلة.
5- التفكك الاجتماعي والمقاومة: يؤدي تنفيذ إصلاحات الليبرالية الجديدة في كثير من الأحيان إلى التفكك الاجتماعي والبطالة والفقر، مما يثير الاحتجاجات والحركات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي. وهذا ما يجعل هذا النموذج من أسوأ النماذج في البلدان التي تهدف شعوبها إلى استعادة وحدتها السياسية واستقرارها بعد الحروب والنزاعات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1212