إضرابات العمّال بالقطّاع الصحّي: هل تضرّ المرضى؟ ماذا تقول الدراسات؟

إضرابات العمّال بالقطّاع الصحّي: هل تضرّ المرضى؟ ماذا تقول الدراسات؟

لا شكّ بأنّ الإضراب في قطاع الصحة بالذات (كإضراب الأطباء أو التمريض) يحمل خصوصية تختلف عن إضرابات العمّال في قطاعات أخرى صناعية أو أنواع أخرى من الخدمات. وهذه الحساسية للقطاع الصحي يستغّلها بعض المتواطئين مع مصالح رأس المال كذريعة لقمع أصوات واحتجاجات العمال بأجر في القطاع الصحي عندما يتعرّضون للظلم والانتقاص من حقوقهم، لدرجة أنّ البعض يطرح تحريم وحظر الإضراب مثلاً في هذا القطاع! ولكن التجارب التاريخية والمعاصرة تبرهن على أنّ تنظيم عمّال الصحة لاحتجاجهم وإضرابهم بأشكال وطرائق وتكتيكات مناسبة، بحيث لا تعرض حياة وصحة المرضى إلى الخطر، هو أمر ممكن تماماً، بل وهو وسيلة ضرورية في كثير من الأحيان للضغط لنيل حقوقهم المشروعة. وفيما يأتي نستشهد ببعض الدراسات العلمية ذات الصلة.

قبل الاستشهاد بنتائج الدراسات المنشورة، لا بدّ أن نعترف بدايةً بأن هناك توتّراً أخلاقياً يحيط بإضرابات العاملين في الرعاية الصحية، فمع أنّ العاملين في الرعاية الصحية لهم الحق في الإضراب، بوصفه أحد حقوق الإنسان أيضاً، وخاصة عندما تتسبب ظروف عملهم في تقويض قدرتهم على تقديم رعاية فعالة. فإذا أمعنّا التفكير المنطقي بالمسألة، سرعان ما يتبيّن مدى قصر النظر وضيق الأفق لدى أولئك الذين يؤيّدون حظر أو مصادرة حقّ عمّال الصحة في تنظيم إضرابات أو توقّفات مؤقّتة عن العمل؛ ولكن يمكن أن نذكر الفكرة الأساسية التالية

«فَرض كفاية» لا «فَرض عين»

نظراً لخصوصية العمل في الرعاية الصحية، بالطبع من واجب جزء نوعيّ من عمّال الصحة في مؤسسة مثل المشفى مثلاً، أن يظلّ عددٌ مناسب منهم على رأس عمله ولا يتركه حتى خلال الإضراب: وخاصة الكادر الطبي العامل في وحدات العناية المركّزة أو حواضن الأطفال أو غيرها من الأقسام التي تتطلب مراقبة مستمرة وحرجة للمرضى الذين بحالة خطرة، حفاظاً على حياتهم. ولكن مَن قال بأنّ الإضراب الصحّي يجب أن يكون «فرض عين»؟ أي أن يشارك فيه جميع عمال المؤسسة بالكامل وبوقتٍ واحد بالتزامن؟ وعلى الأرجح فإن هناك طرقاً وتكتيكات أخرى مناسبة في هكذا حالات، مثل أن يكون الإضراب لجزء كافٍ ومناسب من الكادر الصحّي للمطالبة بحقوقهم وحقوق زملائهم ورفاقهم وباسمهم جميعاً حتى بحقوق أولئك الذين تتطلّب طبيعة عملهم الحساسة عدم ترك العمل في الأقسام الحرجة كالعناية المشددة. وهكذا يمكن إجراء الإضراب كنوع من «فرض الكفاية» إذا صحّ التعبير. ويمكن أيضاً كنوع من الدعم المعنوي للإضراب أن يقوم أفراد الكادر الصحي خلال فترة إجازتهم أو أوقات استراحتهم الطبيعية من العمل (في الأيام التي لا يكون لديهم مناوبات فيها مثلاً) بالحضور إلى المؤسسة الصحية وتنظيم تجمع واحتجاج مؤازر للإضراب ولحقوقهم وحقوق زملائهم. يمكن التفكير حتى بالتنسيق مع ذوي المرضى أنفسهم أو أبناء المجتمع الذي تخدمه المؤسسة الصحية لإقناعهم بأنّ نيل العمال الصحّيين لحقوقهم سينعكس إيجاباً على جودة الخدمة الصحية، مما قد يفضي إلى انخراط ذوي المرضى والمجتمع نفسه في مؤازرة الاحتجاج أو الإضراب. فالهدف في النهاية هو الضغط المادي والمعنوي على ربّ العمل (سواء كان رأسمالياً خاصّاً أو الدولة نفسها كربّ عمل) من أجل إلزامه بالاستجابة وإعطاء الحقوق لهؤلاء العمّال وإنصافهم.

دراسات عالمية

والآن ننتقل لذكر بعض نتائج الدراسات العالمية حول الإضرابات في القطاع الصحّي.
بناءً على نتائج عدة أبحاث، هناك أدلة علمية تشير إلى أنّ إضرابات العاملين في مجال الرعاية الصحية، عندما يتم تنظيمها بشكل صحيح، لا تؤدّي بالضرورة إلى أضرار كبيرة على نتائج صحة المرضى. فيما يأتي، النتائج الرئيسية من الدراسات ذات الصلة.
بحسب نتائج الدراسة المنشورة في المجلة العلمية العالَمية «الموارد البشرية للصحة» بتاريخ 2 تموز 2024 تَبيَّن عدم وجود زيادة كبيرة في وفيات المرضى داخل المستشفيات خلال فترات الإضراب مقارنة بفترات عدم الإضراب. وهذا يشير إلى أن الإضرابات، عند إدارتها بشكل فعّال، لا تؤدي إلى نتائج أسوأ للمرضى من حيث الوفيات.
وأشارت الدراسة نفسها إلى أنه في بعض الحالات -وعلى عكس المتوقع لأوّل وهلة- فإنّ خدمات الرعاية الصحية زادت وتحسّنت بسبب الإضراب ولم تتدهور، وهذا يشير إلى أن تأثيرات الإضرابات يمكن أن تختلف بشكل كبير اعتماداً على سياق كلّ حالة وعلى الظروف والخدمات المتأثرة.
وهناك دراسة تحليلية لبيانات من عدة إضرابات لعمال القطاع الصحي في مشافي بريطانيّة، بلندن نشرت عام 2022 في مجلة «موارد الخدمات الصحية»، وحملت الدراسة عنوان «تأثير إضرابات قطاع الرعاية الصحية على وفيات المرضى؛ مراجعة منهجية وتحليل تلوي لدراسات مراقَبة». وخلصت الدراسة إلى النتيجة الآتية: التأثير العام للإضرابات على النتائج الصحية المختلفة كان بشكل عام محايداً أو مختلطاً، مع الإبلاغ عن تأثيرات سلبية في عدد قليل من الدراسات فقط. وهذا يشير إلى أنّ الإضرابات لا تؤدّي عموماً إلى تفاقم نتائج صحة المرضى بشكل موحَّد.
وهناك مراجعة نشرت صيف العام 2024 أيضاً في مجلة «الموارد البشرية للصحة»، حملت عنوان «مراجعة منهجية لتأثيرات الحِراكات الصناعية والاحتجاجات والإضرابات والإغلاقات، بواسطة عمّال الصحة والرعاية أثناء جائحة كوفيد-19 وسياقاتٍ وبائية أخرى». وعملت على مراجعة عدة دراسات ولاحظت أنّ بعض الدراسات استنتجت أنه خلال إضرابات العاملين في الرعاية الصحية، قد تنخفض معدلات الوفيات بشكل مفاجئ، وقد يكون هذا بسبب انخفاض أعداد المرضى أو تغيرات في جودة الرعاية خلال فترات الإضراب.

أمثلة من الإضرابات خلال جائحة «كورونا»

خلال جائحة كوفيد-19، شهد القطاع الصحي في العديد من الدول إضرابات واحتجاجات من قبل العاملين في المجال الصحي للمطالبة بتحسين ظروف العمل وحماية حقوقهم.
وكان من الأمثلة الشهيرة عن إضرابات القطاع الصحي خلال الجائحة والتي أدت إلى نتائج إيجابية في استعادة حقوق العاملين، إضرابات خلال الجائحة في كلّ من المملكة المتحدة (بريطانيا)، والولايات المتحدة الأمريكية، والهند وجنوب أفريقيا وكينيا.
حيث واجه عمّال الصحة ضغوطاً هائلة بسبب نقص معدّات الحماية الشخصية (مثل الكمّامات) وساعات العمل الطويلة والإرهاق النفسي. فنظَّم العاملون في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) سلسلة من الإضرابات، وخاصةً في عامي 2022 و2023، بما في ذلك إضرابات الممرضين وعمّال الإسعاف. وأدت هذه الإضرابات إلى زيادة الوعي بظروف العمل الصعبة التي يواجهها العاملون في القطاع الصحي، وتم تحقيق مكاسب مثل تحسين الأجور وتوفير معدات الحماية الشخصية بشكل أفضل.
وفي البلدان الأخرى المذكورة وغيرها أيضاً، واجه العاملون في القطاع الصحي نقصاً حاداً في الموارد وارتفاعاً في معدلات الإصابة بكوفيد-19 بين الطواقم الطبية. فقاموا بتنظيم إضرابات واحتجاجات للمطالبة بتحسين ظروف العمل وتوفير معدّات الحماية الشخصية. وأدت هذه الإضرابات إلى زيادة الدعم الحكومي للقطاع الصحي، بما في ذلك توفير معدات الحماية الشخصية وتحسين الأجور وظروف العمل.
باختصار، تشير الأدلة العلمية المتاحة، والتجارب التاريخية بما فيها خلال الماضي القريب (كما في جائحة كوفيد)، إلى أنّ إضرابات العاملين في الرعاية الصحية، عندما يتم تنظيمها وإدارتها بشكل صحيح، لا تؤدي بالضرورة إلى أضرار كبيرة على نتائج صحة المرضى. وكان التأثير على وفيات المرضى وأمراضهم بشكل عام محايداً أو مختلطاً، وفي بعض الحالات. ومما لا شكّ فيه بأنّ دفاع العمّال عن حقوقهم سواء في القطاع الصحي أو غيره يؤدي على المدى المتوسط والطويل إلى تحسين ظروف عملهم وتجديد قوة عملهم ورفع معنويّاتهم بشكل أفضل مما سينعكس بالتأكيد على ارتفاع جودة الخدمات التي يقدّمونها للمجتمع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1211
آخر تعديل على الإثنين, 27 كانون2/يناير 2025 13:09