فلسطين واستحالة «الحياد» في الدَّوريات العلمية
تشكِّلُ القضايا الكبرى، وخاصة في أوقات الأزمة الشاملة، محكّاً كاشفاً واستقطابيّاً ليس في السياسة العلنيّة أو المباشَرة فقط، بل وتخترق في قوّة مغنَطتِها حتّى أكثر الجهات التي تُصَوَّر تقليدياً على أنّها «حياديّة» لأنّها «عِلميّة»، بينما الحقيقة هي أنّ من الخطأ الشائع اشتراطُ أن يكون العلمُ «حيادياً» اجتماعياً وسياسياً كي يُعتَبَر «غير زائف»، وهو وهمٌ ينبع من مطابقةٍ خاطئة بين مفهومَي «الموضوعية» و«الحيادية»، ووفق هذا المعيار الخاطئ يصنِّف بعضُ النقّاد البرجوازيين الماركسيةَ «علماً زائفاً» لأنّها منحازةٌ للطبقة العاملة والكادحين والشعوب المُضطَهَدة والمُستَعمَرة.
مع تطوّر التناقضات التناحرية في المجتمع تصبح شرائح أوسع منه مضطرَّةً أكثر لاتخاذ جانب أحد النقيضَين ولا سيّما عندما يكون تناقضُهما تناحريّاً كما هو الحال بين شعبٍ تحت الاحتلال وبين مُستَعمِريه. القضية الفلسطينية بعد عدوان الإبادة الجماعية الجاري على غزة منذ عام وحتى الآن تشكّل قضيّةً من هذا النوع الذي أجبر كلّ العالم على اصطفافٍ وفرزٍ غير مسبوق إلى جانب أحد النقيضين. وسوف نتناول هنا مثالاً على تمظهر هذا الفرز في نموذجين لدوريّتَين علميّتين في الغرب: مجلة «العِلم/science» العالمية الشهيرة، التي تصدرها «الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم»، ومجلة أخرى مغمورة إلى حدّ ما: «العلم من أجل الناس/science for the people» التي تنتمي في جذورها إلى الحركة المناهضة للحرب داخل الولايات المتحدة الأمريكية منذ ستينيّات القرن العشرين وحرب فيتنام، وتوقفت عن الصدور عام 1989 وهو تاريخٌ لا يبدو مصادفةً أبداً، حيث نعلم أنّ المفصل بين نهاية الثمانينيّات وبداية التسعينيّات تزامن مع تفكك الاتحاد السوفييتي والهزيمة المؤقتة للحركة الثورية والشيوعية العالمية. ولكن منذ العام 2014، أعاد ناشطون في مختلف أنحاء الولايات المتحدة والمكسيك بناء منظمة «العلم من أجل الناس/SftP»، لتضم الآن نحو 12 فرعاً محلياً نشطاً ومجموعات عمل عديدة تجمع الناس في مواقع مختلفة للعمل على قضايا تقدّمية محدّدة. ومع تنشيط هذه المنظمة، تواصل مجلّتها الجديدة الصدور، وفي صيف 2019 أطلقت المجلد 22، العدد 1، تحت عنوان «عودة العلوم الجذرية لقيادة سعينا نحو التغيير الاجتماعي»، بحسب ما ورد على الموقع الرسمي للمنظمة.
وكان ملحوظاً منذ بدء العدوان الصهيوني الإباديّ على غزة، عقب 7 أكتوبر 2023، أنّ هذه المجلّة العلمية التقدّمية فتحت صفحاتها لعدد من المقالات التي تدين العدوان والاحتلال وتدعم القضية الفلسطينية، بما في ذلك مساهمات أكاديميّين فلسطينيين من غزة نفسها أو في الجامعات الغربية، كما وتعتني بتوثيق أسماء الشهداء الأكاديميين في جامعات غزّة وتنشر أسماءهم على موقعها.
تحيّز مجلة «العلم Science» ضد فلسطين
بالمقابل قامت منظمة «العلم من أجل الناس» المنحازة إلى القضية الفلسطينية بالكشف عن مراسلات بينها وبين مجلة «العلم» الأمريكية المنحازة إلى الاحتلال الصهيوني، فاضحةً موقف هيئة تحرير هذه الأخيرة من الحرب على غزة. إنّ نضال هذه المجلة التقدمية ضدّ مجلة «العِلم» التابعة للمؤسسة الأمريكية الرسمية ليس جديداً، حيث تميّزت السنوات الخمس الأولى على الخصوص من ظهور منظمة «العلم من أجل الناس» بنشاط أعضائها الهادف إلى تفكيك الجهة الناشرة لمجلة «العلم» وهي «الجمعية الأمريكية لتقدم العلم/AAAS» حيث اعتبرتها «أكبر تجمّع للعلماء المنحازين للحكومة والطبقة الحاكمة الرأسمالية والمتورطين بالحرب الإمبريالية والتمييز على أساس العرق والجنس» في العالَم.
وفي 27 آذار من العام الجاري، نشر جوش لالوند، رئيس تحرير «مجلة العلم من أجل الناس» انتقاداً لتغطيةٍ قدّمتها مجلة «العلم» في 28 آذار 2024 بشأن غزة، متعاطفةً ليس مع ضحايا الإبادة بل مع «تأثير الحرب على الأكاديميين [الإسرائيليين]». ووصفها لالوند بأنها «سخيفة وأحادية جانب»، وقال إنه كتب بريداً إلكترونياً إلى محرّر الأخبار في مجلة «العلم» للتدخّل. وكانت استجابة هذا الأخير أنه عرض على لالوند أنْ يتم نشر أجزاء من البريد الإلكتروني كـ«رسالة» رداً على القصة المنحازة للاحتلال. ويقول لالوند: «قمتُ بإعادة صياغة نص البريد الإلكتروني لإعداده للنشر وقدّمتُ مسودّة. لكنّ محرِّر (العِلم) ردّ الرسالة إليّ مع حذف كبير، ولا سيّما إزالة الفقرة التي تصف الطبيعة المتعمَّدة للتدمير العسكري (الإسرائيلي) للحياة الأكاديمية في غزة. كما تمت إزالة الجملة التي أوضحتُ فيها مبادئ الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ(إسرائيل) PACBI، وقد تذرَّع بأنه حذفها لأننا بحسب قوله غالباً (لا نعرف) دوافع أولئك الذين يدعون إلى المقاطعة أو يمارسونها».
وأصرّ لالوند على الاحتفاظ بالفقرات دون حذفها، الأمر الذي رفضه محرّر «العِلم»، ليقرّر لالوند في النهاية عدم السماح بنشر رسالته بشكلٍ مبتور. وفيما يلي أبرز ما ورد فيها متضمنةً ما رفضت مجلة «العلم» نشره.
أبرز ما ورد برسالة لالوند
من غير المتناسب بشكل غريب نشر قصة عن مخاوف الأكاديميين (الإسرائيليين)، المُبلَغ عنها ذاتياً بشأن الصعوبات المحتملة في نشر مقالاتهم، دون الإشارة حتى إلى أنّ الجيش (الإسرائيلي) قتل ما لا يقل عن 94 أستاذاً جامعياً فلسطينياً وأكثر من 4000 طالب منذ أكتوبر. تم تدمير أو إتلاف جميع الجامعات الـ 12 في غزة. يقدِّر مكتبُ الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 625000 طالب في غزة حالياً ليس لديهم إمكانية الوصول إلى التعليم، ناهيك عن 1.7 مليون نازح داخلياً و2.2 مليون يواجهون حالياً مجاعة حادّة في مستويات المرحلة 3 من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أو أعلى.
إنّ المقال يشير بشكل عابر إلى (المشروع العلميّ الصغير نسبياً في قطاع غزة) ويقارنه بـ (مجتمع البحث الأكبر) في (إسرائيل)، والذي كُرِّس له باقي المقال. ويبدو الأمر وكأننا نهدف إلى استنتاج أنْ تدمير (المشروع العلمي الصغير نسبياً) في غزة لا يهمّ بالمقارنة مع احتمال دعوة الأكاديميين (الإسرائيليين) بشكل أقل تكراراً إلى المؤتمرات. إنّ الفشل في ذِكر الحصار (الإسرائيلي) لغزة لمدة 16 عاماً، والذي مَنَعَ -قبل فترة طويلة من 7 أكتوبر- دخولَ المعدّات والمواد اللازمة للبحث وكذلك خروج الأكاديميين الذين يحاولون التعاون مع شركاء خارج غزة، هو إغفالٌ صارخ.
ويذكر المقال أنّ (الهجمات التي شنّتها القوات العسكرية (الإسرائيلية) على قوات حماس دمّرت المباني الجامعية والبنية الأساسية الأخرى)، على الرغم من الأدلة الساحقة على أن القوات (الإسرائيلية) استهدفت عمداً الهياكل المدنية مثل الجامعات ولم يكن تدميرها لها عرضياً في هجمات على حماس. إنّ المثال الأوضح على ذلك هو الهدم المتعمَّد الذي قامت به القوات العسكرية (الإسرائيلية) لجامعة (الإسراء) في كانون الثاني، بعد أن استخدمتْ الموقعَ كقاعدة ومركزِ احتجازٍ لعدة أسابيع. وقد دفعت هذه الهجمات المستهدِفة للحياة الأكاديمية في غزة منظمةَ (علماء ضد الحرب على فلسطين) إلى وصف الجيش (الإسرائيلي) بأنه يرتكب (إبادة مدرسيّة: تدمير منهجي، كلياً أو جزئياً، للحياة التعليمية لمجموعة وطنية أو عرقية أو إثنيّة أو دينية).
وأخيراً، يقتبس المقال دون تعليق تكهناتٍ لا أساس لها من الصحّة من أحد الأكاديميين (الإسرائيليين) حول (منحدرٍ زلق من الكراهية) يؤدي إلى إخضاع أيّ شخص يحمل (اسماً يهودياً) للمقاطعة. ومع ذلك، تنصُّ الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ(إسرائيل) PACBI بوضوح في «المبادئ التوجيهية للمقاطعة الأكاديمية الدولية [لإسرائيل]» على أنها ترفض من حيث المبدأ مقاطعة الأفراد على أساس هويتهم الجنسية أو العرقية أو الدينية... وتركّز بدلاً من ذلك على مقاطعة الشراكات مع المؤسسات (الإسرائيلية) مثل برنامج (أفق أوروبا) التابع للاتحاد الأوروبي.
من خلال عدم شرح مبادئ المقاطعة الأكاديمية لـ(إسرائيل) أو حتى الاستشهاد بمنتقدٍ واحدٍ لسياسات (إسرائيل) وأفعالِها إزاء الشعب الفلسطيني، يخلطُ المقال بين معارضةِ التهجير والقمع الذي دام عقوداً من الزمن للفلسطينيين، و(معاداة السامية)، وهو مظهر شائع من مظاهر العنصرية المعادية للفلسطينيين. بالإضافة إلى توفير غطاء لهذا القمع...
آملُ أن تبدأ العلوم في تكريس قدر أكبر من الاهتمام المتناسب للعلماء الفلسطينيين الذين يعيشون تحت القصف العشوائي ويواجهون الآن ظروف المجاعة بسبب القيود (الإسرائيلية) على دخول المساعدات إلى غزة، فضلاً عن المداهمات والاعتقالات المستمرة وغيرها من العراقيل التي تواجه الجامعات في الضفة الغربية.
التوقيع: جوش لالوند، العِلم من أجل الناس.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1198