الـ«Degrowth» أو تقليص النمّو الاقتصادي كشكلٍ من «النيومالتوسيّة»
معظم الأرباح في الدول الرأسمالية الغربية، وخاصةً قلبها الإمبرياليّ أمريكا، تأتي من أنشطة لا تنتج أيّ نمو اقتصادي حقيقي على الإطلاق. ولذلك كان على الطبقة الرأسمالية فيها التخلّي عن الموقف المُمتدِح للنمو الاقتصادي الذي كانت تتبنّاه في القرن العشرين. لذلك أعادوا إحياء مذهب مالتوس تحت ذرائع أنّ النمو الاقتصادي بحد ذاته يدمّر ويلوّث البيئة، فيما يمكن تسميته «النيومالتوسيّة البيئية»، وأحد تجلّياتها التنظير لتقليص النمو الاقتصادي أو مذهب الـ Degrowth والذي يستهدف بشكل أساسي الاقتصادات التي تتحدّى الهيمنة الغربية وتشهد معدّلات النموّ الأسرع والأعلى وخاصة الصين والبريكس.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
كارلوس غاريديو باحث كوبي-أمريكي يدير «معهد ماركس في الغرب الأوسط»، وقبل استعراض مقاله المنشور بتاريخ 17/08/2024 بعنوان «النيومالتوسيّة البيئية والبديل الشيوعي» من المفيد بدايةً التذكير بالمالتوسية والنيومالتوسية بإيجاز.
كان توماس روبرت مالتوس (1766–1834)، أحد المنظّرين الإنكليز للاقتصاد السياسي البرجوازي. وزعمت فرضيّته بأنّ الزيادة السكانية تحدث بمتوالية هندسية (1، 2، 4، 8 ...) بينما يزداد الغذاء بمتوالية حسابية (1، 2، 3، 4 ...)، ليبرَّر استناداً إلى ذلك أنّه لا بدّ من تقليص عدد السكان باستمرار لضمان التوازن مع «المحدودية الطبيعية» المزعومة لوسائل المعيشة. وقد عرضها لأول مرة في كتابه «مقالة في مبدأ السكان، وتأثيراته على مستقبل تحسين المجتمع»، الطبعة الأولى، لندن 1798. وساهم ماركس في انتقاد مزاعم مالتوس الرَّجعية وتبيان خطئها. أمّا المالتوسية الجديدة (النيومالتوسية) فهي مذهبٌ رجعي روّجت له نخبة من رأس المال المالي الإمبريالي خلال القرن العشرين ويعدُّ تقرير كيسنجر لمجلس الأمن القومي الأمريكي 1974 المرفوعة عنه السريّة عام 1989 إحدى الوثائق الأساسية الداعية إلى تطبيق النيومالتوسية قسريّاً لتقليص عدد سكّان العالَم وخاصةً في البلدان «الثالثية»، بما في ذلك عبر «المجاعة والمرض أو تحديد النَّسل الشامل» كما نصَّ تقرير كيسنجر بكل وقاحة.
ويبدو أنّ النيومالتوسية وجدت لها ثوباً أيديولوجياً جديداً مخادعاً ومضلِّلاً، حتى لبعض أوساط اليسار، وهو ما اصطلح على تسميته مذهب الـ Degrowth أيْ «تقليص النموّ»، أو إزالة النمو أو النمو الصفري أو حتى النموّ السالب. ويمكن تعريفه ببساطة بأنّه الدعوة إلى اتباع سياسات اقتصادية (وبالتالي سكّانية ضمناً) لإبطاء نموّ الاقتصاد والإنتاج بذريعة أنّ هذا سيؤدي إلى «حماية البيئة والمناخ» لأنه سيخفّض الاستهلاك وبالتالي الفضلات وانبعاثات غازات التلوث والدفيئة.
والآن ننتقل إلى تلخيص، وبتصرّف، لأبرز ما كتبه كارلوس غاريدو منتقداً هذا المذهب.
الأمْوَلَة الإمبريالية والتنمية في الجنوب العالمي
في مواجهة ميل معدل الربح إلى الانخفاض، وعدم الرغبة في العودة إلى التدخل الحكومي الذي هيمن على معظم الاقتصادات الرأسمالية في الحرب العالمية الثانية، أجبرت أزمة السبعينيّات الرأسماليين في الغرب على اختيار اللعب على حبلين أساسيين لاستعادة هوامش الربح ومحاولة إطالة عمر النظام: أوّلهما تصدير رأس المال الإنتاجي إلى الخارج، مما يزيد معدل الربح عبر شراء قوة العمل بسعر أرخص وبالتالي خفض تكلفة ما يسميه ماركس «رأس المال المتغير» والثاني هو سعيهم إلى تحقيق الأرباح بطرق أكثر طفيلية وماليّة، على سبيل المثال من خلال أسعار الفائدة، والرَّيع، وإعادة شراء الأسهم. وقد أدى كل من هذين المسارَين إلى ميل متزايد لتفكيك الصناعة في الغرب وتدمير الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي.
وسلكت الرأسمالية الأمريكية كلا المسارين؛ فصدَّرتْ رأس المال الإنتاجي إلى الجنوب العالمي وحرفت الاستثمارات نحو الاستفادة من الرِّيُوع، وأسعار الفائدة، وإعادة شراء الأسهم. وقادت الولايات المتحدة وبريطانيا معظم العالَم إلى مسار يُضعِفُ الاقتصادات الإنتاجية ويوسِّع التمويل المفترِس والمُضارَبة.
المتأخِّرون في النموّ يُشَيطنون «بريكس»
بدلاً من النظر إلى الأزمة البيئية باعتبارها متجذرة في الإنتاج الرأسمالي العاجز أساساً عن تطوير سبل النمو في وئامٍ مع الطبيعة، ألقت الشريحةُ الأكثر طفيليةً من البرجوازية الكبرى العالمية اللَّوم على النموّ نفسه، محمّلةً النمو الاقتصادي والسكّاني المسؤولية عن مَثالِب إمبرياليّتها، حيث بدا ملائماً للإيديولوجية البرجوازية تبنّي نظريةٍ اقتصادية جديدة تصوِّر النموّ الاقتصادي الحقيقي على أنّه مَكمن الشرّ في مرحلةٍ يُنجَزُ فيها التطوّر الإنتاجي في المقام الأول في دول مجموعة البريكس، وخاصةً في الصين التي تتفوّق على الولايات المتحدة في الإنتاج ومعدّلات النموّ.
فمع تجلّي عجز الإمبريالية عن أيّ نمو اقتصادي حقيقي، باتتْ تُدين النموَّ نفسه، وتحديداً ذلك النوع من النموّ الجاري في الجنوب والشرق العالميين، حيث يتفوّق التطور الإنتاجي في كثير من الأحيان حتى على إنتاج الولايات المتحدة. بينما لا تجد هذه الإمبريالية أيّ مشكلة في الإشادة بالنمو الذي حقّقَهُ رأس المال المالي الغربي الطُّفيلي. وهذا ليس سوى الشكل الذي يتعيَّن على الإيديولوجية الإمبريالية أنْ تتخذه اليوم لدعم موقف يعزِّز ويبرِّرُ إفقار الجنوب العالمي.
«شيوعية النموّ السالب» تزييفٌ للماركسية
وهكذا ظهرت «شيوعية النمو السالب» بوصفها «موضة» جديدة اليوم في الأكاديميّات البرجوازية مع مفكّرين مثل جيسون هيكل، وكوهي سايتو، وغيرهما، الذين يؤيّدون صورة كاريكاتورية مشوَّهة للماركسية، تدُين النمو الاقتصادي وتحثّ على «النمو السالب»، ويتم دعمهم باعتبارهم شكلاً «جذرياً» من أشكال النيومالتوسية البيئية.
وفي محاولة لإرباك الجماهير وتضليلهم بنظريات تدّعي الماركسية والشيوعية بينما تِناقِضُها في الحقيقة، مهّدتْ البرجوازية الطريق لهذه الشخصيات لتقديم ماركسية ممسوخة، تم تجميعها في مزيجٍ انتقائي من الليبرالية، واقتباسات مجرَّدة عن سياقها من مخطوطات ماركس (كما فعل سايتو مثلاً)، ونتاجات عقودٍ من «اليسار» المناهض للشيوعية بتمويل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية، لخلق «يسار» مُدَجَّن وصديق للإمبريالية.
إنّ الترويج بأنّ الشيوعية تعني «النموّ السّالب» هو تكرارٍ لكذبة مكارثي (عرّاب حملة قمع الشيوعيين في الولايات المتحدة الأمريكية إبّان الحرب الباردة) القائلة بأنّ الاشتراكية ستجعل الجميع فقراء! ويتبنى أدعياء «الاشتراكية» هذه الكذبة. ربما تتمتع «اشتراكيتهم» بخصائص كلاوس شواب (وهو رأسماليّ ألماني ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي عام 1971 ورئيسه حتى اليوم، حيث يشكّل المنتدى أحد مراكز الفكر والتخطيط للرأسمالية العالمية عبر نقاش ورسم خططها لضمان هيمنتها الطبقية، ويملك أنصار النيومالتوسية ومنهم شواب نفسه نفوذاً كبيراً فيه).
إنّ «شيوعية النمو السالب» هذه تضمن تغذيةَ هذا الهُراء الفِكري من خلال ثالوث: وسائل الإعلام، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية.
وبعكس ذلك، أدركت التقاليد الماركسية دوماً أن الاشتراكية لا يمكن أن تزدهر إلّا في ظل تطور قوى الإنتاج. فكتب ماركس في المجلد الأول من «رأس المال»: «إن تطور القوى الإنتاجية للمجتمع... يخلق الظروف المادية للإنتاج التي يمكن أن تشكّل وحدَها الأساس الحقيقي لشكل أعلى من أشكال المجتمع، وهو المجتمع الذي يشكلّ فيه التطورُ الكامل والحرّ لكل فرد المبدأ الحاكم».
وكتب إنجلس في كتابه الشهير الاشتراكية الطوباوية والعلمية:
«إن القوة التوسعية لوسائل الإنتاج تحطّم القيود المفروضة عليها من نمط الإنتاج الرأسمالي. وتحريرها من هذه القيود هو الشرط المسبق الوحيد لتطور مستمر ومتسارع للقوى المُنتِجة، وبالتالي لنموٍّ غير محدود عملياً للإنتاج نفسه».
وفي «نقد برنامج غوتا»، كتب ماركس: «في أعلى مرحلة من مراحل المجتمع الشيوعي، وبعد اختفاء التبعية المفرطة للفرد لتقسيم العمل، وبالتالي اختفاء التناقض بين العمل العقلي والجسدي، وبعد أن يصبح العمل ليس وسيلة للحياة فقط بل الحاجة الأساسية للحياة، بعد أن تتزايد القوى الإنتاجية أيضاً مع التطور الشامل للفرد، وتتدفق جميع ينابيع الثروة التعاونية بوفرة أكبر - عندها فقط يمكن عبور الأفق الضيق للحق البرجوازي بالكامل ويسجل المجتمع على رايته: من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!».
وكتب ماو: «لقد عزز النظام الاشتراكي التطور السريع للقوى الإنتاجية في بلدنا، وهي حقيقة كان حتى أعداؤنا في الخارج مضطرون إلى الاعتراف بها». وفي كتاباته في أوائل الستينيات، قال ماو إن «إنجازهم الرئيسي كان إفساح الطريق أمام تطوير القوى الإنتاجية».
وكتب دينغ شياو بينغ أن «علينا إنجاز المهام المحددة في المرحلة الاشتراكية، وهي كثيرة، ولكن الأساس هو تطوير القوى المُنتِجة بحيث نظهر تفوق الاشتراكية على الرأسمالية ونوفّر الأساس المادي للشيوعية».
ومن كوبا، قال تشي غيفارا: «إنّ النضال ضد الإمبريالية، من أجل التحرر من القيود الاستعمارية أو الاستعمارية الجديدة، والذي يتم تنفيذه باستخدام الأسلحة السياسية أو النارية، أو مزيج من الاثنين، ليس منفصلاً عن النضال ضد التخلف والفقر. كلاهما مرحلتان على الطريق نفسه المؤدي إلى إنشاء مجتمع جديد من العدالة والوفرة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1199