إنجلس وغرامشي عن استراتيجية حرب الاستنزاف بدلاً من «ضربة واحدة»

إنجلس وغرامشي عن استراتيجية حرب الاستنزاف بدلاً من «ضربة واحدة»

في مقدمة إنجلس لكتاب ماركس «النضال الطبقي في فرنسا»، والتي كتبها إنجلس في العام الأخير من حياته، بتاريخ 6 آذار 1895، نراه يلفت انتباهنا إلى أنّ ظروفاً وتغيّرات تاريخية معيّنة تضطرّ المناضلين إلى استراتيجية الكفاح الطويل، سواء السياسي أو العسكري، عبر «حرب استنزاف»، أيْ بالنضال عبر ما وصفه بـ«كسب موقع تلو الآخر في غمرةٍ من النضال العنيد القاسي... عوضاً عن إحراز النصر بضربةٍ حاسمة واحدة»، وهي فكرةٌ عبّر عنها إنجلس في مناسبات أخرى كذلك، ولاحظ باحثون بأنّها كانت استباقاً لفكرة «حرب المواقع» لدى غرامشي.

جاءت ملاحظة إنجلس في مقدمته لكتاب ماركس المذكور، في سياق ملاحظة إنجلس لما استجدّ من متغيّرات بالصراع الطبقي بعد أكثر من أربعة عقود على ثورات العام 1848 الأوروبية والدروس المستفادة منها:
«كانت هناك جماهير مقسَّمة ومتفرقة بفعل الخصائص المحلية والقومية، ولا يجمع بينها غير الشعور بالآلام المشتركة، جماهير غير متطورة، تنتقل بدافع العجز من الحماسة إلى اليأس، أما الآن، فهناك جيش أممي كبير واحد موحَّد من الاشتراكيين، يزحف إلى الأمام بلا مردّ ويقوى يوماً بعد يوم من حيث العدد والتنظيم والانضباط والوعي والثقة في النصر. وإذا كان جيش البروليتاريا الكبير هذا لمّا يبلغ الهدف من ذلك بعد، وإذا كان مضطرّاً، عوضاً عن إحراز النصر بضربةٍ حاسمة واحدة، إلى التحرّك إلى الأمام ببطء، كاسباً موقعاً تلو الآخر في غمرةٍ من النضال العنيد القاسي، فإنّ هذا يُثبِتُ نهائياً إلى أيّ حدٍّ لم يكن من الممكن في 1848 التوصُّل إلى التحوِّل الاجتماعي بمجرَّد الهجوم المفاجِئ».

«حاصِر حصارَك»

في وقت سابق كان إنجلس قد عبّر عن الفكرة نفسها في رسالة كتبها بتاريخ مارس/آذار 1887 إلى هيرمان شلوتر، كما لاحظ الباحث دانييل إيغان من قسم علم الاجتماع في جامعة ماساشوستس الأمريكية في مقال بحثيّ كتبه عام 2020 لمجلة «الفكر النقديّ الأممي» الصينيّة، بعنوان «فريدريك إنجلس واستراتيجية حرب الحصار».
وكان المُرسَل إليه (هيرمان شلوتر) عضواً بارزاً في الحركة الاشتراكية الناطقة بالألمانية في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. حيث رأى إنجلس أنّ الاستراتيجية المناسبة للديمقراطية الاجتماعية الألمانية (للاشتراكيين الألمان) في ذلك الوقت كانت «شكلاً من أشكال حرب الحصار». وبذلك، استبق إنجلس، بحسب ما لاحظ دانييل إيغان، «استراتيجية الاستنزاف» أو «حرب المواقع» التي تبنّاها أنطونيو غرامشي لاحقاً في تطبيق استعارة حرب الحصار على الاستراتيجية الثورية.
ونظراً للدور البارز الذي لعبه إنجلس في تطوير تحليل ماركسي للحرب، فإنّ هذه الاستعارة ليست مجرد «زخرفة أسلوبية» بسيطة. ومن بين كتابات إنجلس الواسعة النطاق عن الحرب والأمور العسكرية ملاحظاته عن الحصار في حروب القرن التاسع عشر، بما في ذلك حصار سيفاستوبول الروسية أثناء حرب القرم وحصار باريس أثناء الحرب الفرنسية-البروسية.
ورأى إيغان في بحثه بأنّ «كتابات إنجلس العسكرية عن حرب الحصار يمكن أن تساعدنا في فهم مناقشته للاستراتيجية الثورية. فلقد شكل المنظور العسكري المتطوّر الذي قدمه إنجلس الأساسَ لفهمٍ ديالكتيكيّ للاستراتيجية الثورية» فيما يتعلق بالاختيار بين «حروب الاستنزاف» و«حروب الإسقاط/الإطاحة»، أو بمصطلحات غرامشي بين «حرب المواقع» و«حرب المناروة/المجابهة».
وإذا عدنا إلى نصّ رسالة إنجلس لشلوتر، كما نُشرت في المجلد 48 من الأعمال المجمَّعة لماركس وإنجلس (بترجمتها الإنكليزية)، نجد إنجلس يتحدث فيها عن النضال السياسي مع استعارة عسكرية:
«إنّ كفاحَنا شكلٌ من أشكال حرب الحصار، وطالما استمرّت خنادق الاقتراب بالتقدّم للأمام، سيكون كل شيء على ما يرام... التقدُّم الهادئ غير المستعجَل لمُنشآت الحِصار لدينا هو أفضل ضمانة ضد الهجومِ المتسرِّع والخسائرِ غير الضرورية. واللّمسة الأكثر فكاهةً على الإطلاق هي أنّ المحاصِرين يقولون إنّنا نحنُ المحاصَرون، الذين تحت حصار!»
وأقام أنطونيو غرامشي تمييزاً مماثلاً بين «حرب المواقع» و«حرب المناورة». وحدّد حرب المناورة باعتبارها نموذجاً تمرّدياً للثورة أشبه بنموذج ثورات 1848 الأوروبية، بشكل هجوم ضد الدولة قصير نسبياً ولكنه مكثَّف، في حين أنّ «حرب المواقع» أقرب إلى حرب الحصار المطوَّلة. وبحسب غرامشي فإنّ استراتيجية حرب المناورة (هجوم المجابهة القصير) كانت أكثر أهمية عندما «كانت الدولة هي كل شيء، وكان المجتمع المدني بدائياً وهلامياً». وبحسب غرامشي فإنه «في السياسة، متى تحقَّقَ الفوز في (حرب المواقع) فإنه يكون فوزاً حاسماً».

ديالكتيك «الحصار» و«الهجوم»

يكتب إيغان في بحثه الذي أشرنا إليه، إنّ «إنجلس لا نظير له بين الماركسيين في اتساع وعمق تحليله للحرب والتنظيم العسكري والاستراتيجية والتكتيك، ولهذا فإنّ فهمه لحرب الحصار هو ما ينبغي لنا أن نلجأ إليه عندما نستخدم (حرب الحصار) كاستعارة للاستراتيجية الثورية المعاصرة. وفي قلب هذا الفهم يكمن المبدأ الأساسي الذي مفاده أن محاصرة حِصن العدو وشنّ هجوم مباشرٍ عليه ليسا مجرد استراتيجيَّتين متعارضتين أو مختلفتين، ولا هما استراتيجيّتان متسلسلتان. بل إنهما جزء من كلٍّ استراتيجيّ ديالكتيكيّ: يتم تنظيم الحصار منذ البداية وفي كل التفاصيل على النحو الذي يزيد من احتمالات الهجوم المُظفَّر إلى أقصى حد».
ويلاحظ إيغان بأنّه رغم إقرار غرامشي بالتمييز بين «حرب المناورة» و«حرب المواقع»، لكن من الأفضل فهم هذا التمييز باعتباره طرائقيّاً. وينتقد إيغان بعض التأويلات لعمل غرامشي التي تحاول تصويره متعارضاً مع اللينينية، ومع تجربة الثورة البلشفية. ويرى أن تلك التأويلات «تعكس فشلاً في تقدير الطرق التي يكمّل بها عمل غرامشي ولينين بعضهما بعضاً».
ويرى بأنه لا يكفي أن نقول بشأن حرب المناورة وحرب المواقع، بأنّ إحداهما تكتيكية أو ظرفية، والأخرى استراتيجية أو عضوية، بل يتعين علينا أن ندرك لحظات القوة المتأصّلة في «حرب المواقع» ولحظات التوافق المتأصلة في «حرب المناورة». على سبيل المثال، لا بد أن يُنظَر إلى استخدام القوة باعتباره مشروعاً من قِبَل أفراد الطبقات التابعة حتى تنجح الانتفاضة. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون استخدام القوة بمثابة موردٍ مهم في خلق وعي جديد بين الطبقات التابعة.

المقاومة الهَجينة كـ«نفي نفي» للجيش والميليشيا

إذا نظرنا إلى الحرب الدائرة اليوم بين قوى المقاومة في منطقتنا وكيان الاحتلال الصهيوني وداعمه الأمريكي والغربي، نجد أنّ هناك استراتيجية واضحة تتّبعها قوى المقاومة على مدى العام الذي بدأ في السابع من أكتوبر الماضي 2023 حتى الآن، وهي حرب استنزافٍ للعدوّ، وهذا يعني مجموعة من العمليّات المتلاحقة والمتصاعدة.
إنّ تركيبة قوى المقاومة الشعبية القائمة من الفصائل الفلسطينية إلى حزب الله اللبناني، والمقاومة العراقية وجماعة الحوثيين في اليمن، يجمعها طابع التنظيم العسكري ذي شكل «المليشيا» وليس الجيش النظامي. ولكن ربما تكون هذه الحرب تحمل ميزة إضافية هامّة، هي أنّ هذه القوى العسكرية التي ليست جيوشاً نظامية، تمتلك كذلك بعض العناصر الهامّة والميزات التي تملكها جيوش نظامية أيضاً، وهذا يعود إلى الدعم الذي تتلقّاه بشكل مباشر وغير مباشر من مقدّرات دولٍ ذات جيوش نظامية وعلى رأسها إيران. ويبرز هذا خصوصاً في سلاح الصواريخ والمسيّرات، ولا سيّما النوعية منها التي تحقق تفوقاً على جيش العدو النظامي كالصواريخ فرط الصوتية، فضلاً عن الدعم المعلوماتي والاستخباراتي. ولذلك يمكن أن نعتبر بأنّ شكل المقاومة القائمة حالياً ليست ميليشيا تقليدية ولا جيشاً نظامياً عادياً، وربّما الأصح اعتبارها شكلاً جديداً وهجيناً يستقي من عناصر ومميّزات كلا هذين الشكلين العسكريَّين، وقد يفسِّر هذا جزءاً هاماً من نجاح المقاومة في الصمود وإلحاق الخسائر بجيش العدو الصهيوني الذي هو جيش تقليدي مهما كان مدججاً بالتكنولوجيا وبدعم الجيوش التقليدية الإمبريالية الأخرى. فالحرب الهجينة التي يواجهنا بها العدوّ تطلّبت شكلاً هجيناً من المقاومة. وفيما يبدو أنّه حتى شكل «حرب المواقع» أو الاستنزاف الطويل للعدو ولو أنها الاستراتيجية الأساسية للمقاومة اليوم ضد العدوان الصهيوني، ولكن نلاحظ أيضاً أنّ الإيقاع الذي تسير عليه تتخلّله بين وقت وآخر ضربات هجومية كبيرة تحمل عناصر مشتقّة من حرب الجيوش النظامية مثل القصف الصاروخي الثقيل المتوسط وبعيد المدى من مجموعات المقاومة، فضلاً عن الدعم بالضربات المباشرة على الكيان (في هجومي نيسان وتشرين الأول) من جيش نظاميٍّ واحدٍ حتى الآن هو جيش الدولة الإيرانية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1195