نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (2) - الميزان العسكري

نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (2) - الميزان العسكري

رأى غرامشي ضرورة التمييز، في التحليل التاريخي والسياسي، بين عدة لحظات (مستويات) من موازين القوى، مركّزاً على ثلاثٍ أساسية، وقد عرض الجزء الأول من المقال أوّل لحظتَين منها (الاجتماعية والسياسية). يتابع غرامشي بعد ذلك إلى: «3- اللحظة الثالثة (ميزان القوى العسكري)، الذي يكون من وقت إلى آخر حاسماً فوريّاً. والتطوّر التاريخي ينوسُ مهتزّاً باستمرار بين اللحظتين الأولى والثالثة، بتواسطٍ من اللحظة الثانية».

تعريب: د. أسامة دليقان

3- ميزان القوى العسكري

بدورها، هذه اللحظة [العسكرية] من ميزان القوى لحظةٌ متمايزة، ولا يمكن تحديدها مباشرةً في شكلٍ تخطيطيّ [تجريديّ]. أعتقد أنه يمكن تمييز لحظتَين: اللحظة «العسكرية» بالمعنى التقني الحصري للكلمة، وما يمكن تسميتها باللحظة «العسكرية-السياسية». في مسير التاريخ الأوروبي والعالَمي ظهرت هاتان اللحظتان في عدد من التوليفات المختلفة. ولعلّ أحد الأمثلة النموذجية الأكثر إيضاحاً، هو العلاقة التي تَستَتبِع الاضطهاد العسكري لأمّةٍ ما - أيْ عندما تقوم دولةٌ ذات تنظيم عسكريٍّ عالٍ باضطهاد أراضي أمّة أخرى، وإخضاع المجموعة الاجتماعية السائدة في الأمة المظلومة إلى مصالح المجموعة الاجتماعية السائدة للأمة الظالمة. وفي هذه الحالة أيضاً، لا تكون العلاقة محضَ عسكريّة، بل عسكرية-سياسية. وفي النضال من أجل الاستقلال، يجب ألّا تقتصر قوى الأمة المظلومة على القوى العسكرية البحتة، بل أن تكون عسكرية وعسكرية-سيّاسية. [...]. في غضون ذلك، في حالة الظلم القومي: لو أجّلت الأمة المظلومة شنّ نضالها من أجل الاستقلال إلى حين تسمح لها الأمّة المهيمنة بتنظيم قوتها العسكرية الخاصة بالمعنى العسكري التقني الحصري، لكان عليها أن تنتظر طويلاً جداً. ولذلك، تقوم الأمة المظلومة في البداية بمعارضة القوة العسكرية المهيمنة بقوةٍ «عسكرية-سياسية» فقط، أيْ بعناصر من الفعل السياسي تترتّب عليها النتائج التالية: 1- القدرة على الكسر [الداخلي] للفعالية العسكرية للأمة المهيمنة. 2- إجبار القوة العسكرية المهيمنة على الانتشار على مساحة واسعة، مما يميِّعُ قوَّتها ويلغي الكثير مِن فعّاليتها في شَنّ الحرب [...].

الاقتصاد وتغيّر موازين القوى

من الأسئلة الأخرى ذات الصلة بالمسألة المناقَشة تحت هذا العنوان [يقصد غرامشي عنوان العلاقة بين القاعدة والبنيان الفوقي] السؤال التالي: هل الأحداث التاريخية الأساسية يحدّدها الضعفُ الاقتصادي أم الازدهار الاقتصادي؟ يبدو لي أنّ تحليلاً عن كثب للتاريخ الأوروبي والعالَمي سيمنع أيّ جوابٍ حاسمٍ على هذا السؤال، على طول هذه المناحي، وبدلاً من ذلك ينبغي أن يقرّبنا أكثر من جوابٍ عامّ نوعاً ما، له طابع سياسي وثقافي أكثر منه اقتصادي مباشر [...]. باختصار، إنّ السؤال المتعلق بما إذا كان الازدهار أو الضعف الاقتصادي سبباً لتغيّرٍ جذري في التوازن التاريخي، ليس سوى جانبٍ جزئيّ من مسألة «موازين القوى» على المستويات المختلفة. إنّ انقلاب التوازن يمكن أن يحدث إمّا بسبب تعرُّض حالةٍ مزدهرة إلى التهديد، أو بسبب تفاقم ضعفٍ اقتصاديٍّ لدرجةٍ لا تُطاق مع كون المجتمع القديم مجرَّداً، على ما يبدو، من أيّ قوة قادرة على التخفيف منها. ولذلك يمكن القول إنّ هذه العناصر تنتمي إلى «التقلبات المرحليّة» للحالات التي على أرضيّتها يصبحُ ميزانُ القوى الاجتماعيّ ميزاناً سياسيّاً للقوى، وصولاً إلى ميزانٍ عسكريّ حاسم. وفي حال فقدان هذه العملية التي يتطوّر فيها ميزان القوى من لحظةٍ إلى التي تليها، تبقى الحالة خاملةً فتنفتحُ احتمالاتٌ متنوّعة للنتائج الممكنة: فإمّا أنْ يحدثَ انتصارٌ للمجتمع القديم يُتيح له «حيّزاً لتنفُّس الصُّعداء» عن طريق التدمير الجسدي لنُخبةِ الخَصم وإرهابِ احتياطيّاته. أو أنْ يحدث حتى التدمير المتبادَل للقوى المتصارعة وإرساءُ سلامٍ صامتٍ صَمْتَ القبور، تحت العَين الرَّقيبَة لوَصيٍّ أجنبيّ.

وحدة المجتمع المدني والسياسي

هناك صلة بين هذه القضية العامة ومسألة ما يسمى «الاقتصادوية»، التي تتخذ أشكالاً متنوعة وتقدّم نفسها بطرقٍ ملموسة شتّى. إن مقولة الاقتصادوية تتضمن الحركة النظرية للتجارة الحرة وكذلك السنديكاليّة [النقابويّة/التريديونيونيّة] النظرية. إنّ هاتين النَّزعتَين مختلفتان جداً من حيث المغزى. فالأولى تنتمي إلى المجموعة السائدة (dominante)، والثانية إلى المجموعة المُستَضعَفة (subalterno). الأولى تُضارِب عن جَهلٍ (بسبب خطأ نظريٍّ ليس من العسير التعرُّف عليه) بشأن التمييز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، مصرّةً على أنّ النشاط الاقتصادي ينتمي إلى المجتمع المدني، وأنّ المجتمع السياسي يجب ألّا يتدخّل في تنظيمه. ولكنّ التمييز بينهما في الواقع هو محضُ تمييز منهجيّ وليس تمييزاً عضوياً؛ ففي الحياة التاريخية الملموسة، المجتمع السياسي والمجتمع المدني هما كيانٌ واحد. وفضلاً عن ذلك، فإنّ ليبرالية «دعْهُ يَعمَل دعْهُ يمرّ» laissez–faire تحتاج بدورها أيضاً، وكيما يتمّ إدخالها، إلى واسطة القانون وتدخّل السلطة السياسية: إنّها فعلُ إرادة، وليست تعبيراً عفوياً أو تلقائياً عن حقائق اقتصادية.

أمّا حالة النقابويّة النظرية فإنّها مختلفة، لأنّها تتعلّق بالمجموعة المُستضعَفة التي تمنعها هذه النظريةُ مِن أنْ تصبحَ مجموعةً سائدة - أي أنها مجموعةٌ ممنوعةٌ من أنْ تغادر الطورَ الاقتصاديّ-الفئويّ وتتركَه خلف ظهرها لتمضي قدماً إلى طور الهيمنة السياسية-الثقافية في المجتمع المدني بحيث تصبح سائدةً في المجتمع السياسي. في حالة ليبراليّة «دعه يعمل دعه يمرّ» النظريّة، تريد شريحةٌ من المجموعة السائدة أن تعدِّلَ المجتمعَ السياسي، إنّها تريد إصلاح القوانين الموجودة المتعلّقة بالسياسة التجارية، وبشكل غير مباشر، تلك المتعلقة بالسياسة الصناعية (ولا يمكن إنكار أنّ الحمائيّة، وخاصةً في البلدان ذات السوق الفقيرة والمحدودة، تحدّ، جزئياً على الأقل، من حرية المشاريع الصناعية وتشجّع التكوينَ غير الصحّي للاحتكارات) - هذه المسألة تتعلَّق بالتناوب على الوجود في السلطة الحكومية بين الشرائح المختلفة من المجموعة السائدة نفسها؛ إنّها لا تتعلق بالتأسيس والتنظيم لمجتمعٍ سياسيّ جديد، ناهيك عن نمطٍ جديد من المجتمع المدني.

إنّ المسألة معقّدةٌ أكثر في حالة النقابويّة النظرية: حيث لا يمكن إنكار ما تتعرّض له الاستقلالية والاعتماد على الذات لدى المجموعة المُستَضعَفة -التي تزعم النقابويّةُ النظرية أنها تمنحَها صوتاً لتعبّر عن نفسها- فهذه الاستقلالية يتمّ التضحية بها في الواقع لمصلحة الهيمنة الفكرية للمجموعة السائدة، لأنّ النقابويّة النظرية هي جانبٌ من جوانب ليبراليّة «دعه يعمل دعه يمر»، مع تبريرها ببعض العبارات المستمَدّة من المادّية التاريخية. فلماذا وكيف تحدث هذه «التضحية»؟ إنها تحدث نتيجةً لاستبعاد تحوّل المجموعة المحكومة إلى مجموعةٍ سائدة، إمّا بسبب عدم إثارة قضية هذا التحوّل بتاتاً (كالفابيانية، ودو مان، وقسم مهم من الحركة العمالية)، أو بسبب إثارتها في شكلٍ غير متماسك وغير فعّال (كالديمقراطية الاجتماعية)، أو بسبب الإصرار على أنّه بالإمكان القفز مباشرةً من نظامِ مجتمعٍ منقسمٍ لمجموعات إلى مجتمعِ مساواةٍ كاملة (النقابويّة النظرية بالمعنى الحصري). إنّ موقف الاقتصادوية تجاه الإرادة والفعل والمبادرة السياسيّة، هو موقف يمكن وصفه بالغريب على أقلّ تقدير - وكأنّ هذه الأخيرة [السياسة] ليست تعبيراً، أو حتى تعبيراً فعّالاً، عن الاقتصاد! وبالمثل يبدو غريباً أيضاً أن يتمّ تأويلُ طرحِ قضية الهيمنة على أنّها تعني خضوعَ المجموعة المهيمِنة؛ إذْ مِن الواضح أنّ الهيمنة تفترض مسبقاً مراعاة مصالح وميول المجموعات التي تتمّ ممارسة الهيمنة عليها، وأنّ توازناً معيّناً يتم إرساؤه. وبتعبير آخر، تفترضُ الهيمنة مسبقاً أنّ على المجموعة المهيمنة أنْ تقدم تضحياتٍ من النوع الاقتصادي-الفئوي؛ ولكن لا يمكن لهذه التضحيات مع ذلك أنّ تمسّ بما هو جوهريّ - فالهيمنة سياسيّةٌ، ولكنها وفوق كل شيء اقتصادية، إنّ لديها قاعدتها المادّية في الوظيفة الحاسمة التي تمارسها المجموعة المهيمنة في الصميم الحاسم للنشاط الاقتصادي. وتعبّر الاقتصادوية عن نفسها بأشكال أخرى عديدة، إلى جانب ليبرالية «دعه يعمل دعه يمر» النظرية، والنقابويّة النظرية. فالاقتصادوية تضم أيضاً جميع أشكال الامتناع عن الانخراط في النشاط السياسي الانتخابي [...]. ولكن الاقتصادوية ليست دائماً معارضةً للعمل السياسي والحزب السياسي، رغم أنها تنظر إلى هذا الأخير كعضويّة تثقيفية على غرار النقابة. ومن أشكال الاقتصادويّة «التشدّد» intransigenza [بمعنى التصلّب والعناد بالموقف ورفض التفاوض بالمطلق - المعرّب] ومنها تأتي الصيغة القائلة: «كلما ساءت الأمور أكثر يكون هذا أفضل...إلخ».

لقراءة الجزء الأول من المقال : نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (1) - الاجتماعي والسياسي

لقراءة الجزء الثالث من المقال : نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (3) – التشويه الاقتصادوي للمادية التاريخية

 

 

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1187
آخر تعديل على الإثنين, 19 آب/أغسطس 2024 14:51