تشومسكي – تناقضاته السياسية واتهاماته لماركس ولينين
تعرّض المفكر الأمريكي وعالم اللسانيات الشهير أفرام نعوم تشومسكي (95 عاماً) لسكتة دماغية أفقدته القدرة على الكلام بحسب الأنباء الواردة خلال الأيام الماضية مع انتشار شائعات غير مؤكّدة عن وفاته. وفي ظل حرب الإبادة الصهيونية-الأمريكية الدائرة في غزة منذ 7 أكتوبر، من الطبيعي أن تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام تذكيرات بمواقف وكتاباتِ تشومسكي بشأن القضية الفلسطينية، التي تُعتبر في مصافّ كلمات الحقّ الطبيعية التي من الواجب أن يقولها أيّ إنسان إذا كان لا يريد أن يُنظَر إليه على أنه فاقد الإنسانية، سواءٌ أكان مثقفاً أم غير مثقف، يسارياً أم يمينياً... ولكن هذا لا يمنع من نظرة أشمل على مواقف تشومسكي السياسية في قضايا أخرى، والتي لا تخلو من التناقض؛ فمثلاً، قد يبدو عسيراً على الفهم، لماذا أدان تشومسكي الاحتلال الصهيوني في فلسطين بينما برَّرَ الاحتلال الأمريكي في سورية؟!
في البداية يجدر التذكير بأنّ تشومسكي تحدّث وكتب مراتٍ عديدة عن القضية الفلسطينية، وعن الاعتداءات «الإسرائيلية» المتكررة في غزة والضفة. وخلال الأشهر القليلة الماضية ما بعد «طوفان الأقصى» خرج تشومسكي في مقابلات أبدى فيها مواقف مؤيّدة بشكلٍ صريح للمقاومة الفلسطينية واصفاً الحرب على غزة بأنها وحشية ومتعاطفاً مع معاناتها الإنسانية، ومسمياً أطراف الصراع بمسميّاتها الصحيحة: مقاومين ومحتلّين، ومقارناً بين الاحتلال النازي والاحتلال الصهيوني، وبأنّ كلّاً منهما اعتاد إطلاق وصف «الإرهابين» على المقاومة الشعبية ضدّه. وتحدث تشومسكي عن اعتداءات جنود الاحتلال والمستوطنين على الفلسطينيين العزّل وعلى النساء والأطفال حتى عندما يقاوِمون بالحجارة فقط، وأنها حال مستمرة يتذكرها منذ أن كان في بدايات الخمسينيّات يعيش مع زوجته «الإسرائيلية» في إحدى المستوطنات الصهيونية في فلسطين، وقال تشومسكي إنه يقرّ بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة بعد 1967.
تشومسكي مبرِّراً الاحتلال الأمريكي في سورية
«إنّه لأمرٌ معقول أنْ تحتفظ الولايات المتحدة بوجودٍ لها من أجل ردع هجوم على المناطق الكردية... صحيحٌ تماماً أنّه منذ التسعينيات بشكل خاص، أغدقَ كلينتون الأسلحة على تركيا بغرض تنفيذ هجمات إجرامية شاملة ومدمّرة ضدّ السكان الكرد في جنوبي شرقي تركيا. لكنّ هذا لا يغيّر من واقع أنّ الولايات المتحدة الآن يمكنها، بوجود صغير نسبياً، أن تردع عن الأكراد في سورية هجماتٍ قد تدمّر ذلك الجزء من سورية الذي يعمل بشكل لائق بالفعل. ولا نتوقع من قوة عظمى اتساقاً من النواحي الإنسانية، لأنّ هذه ليست هي المبادئ الموجِّهَة لها».
هذا ما قاله تشومسكي حرفياً بتاريخ 26 أيلول 2018، تشومسكي نفسه الذي أدان الاحتلال «الإسرائيلي» في فلسطين، لكنه وفي تناقض لا يمكن قبوله ولا تبريره، التمسَ الأعذار للوجود العسكري الاحتلالي لجيش بلاده في جزء من الأراضي السورية.
تشومسكي مُبرِّئاً واشنطن من صناعة «داعش»
في مقابلة بتاريخ 5 تشرين الثاني 2015، وفي جوابه عن سؤال «هل داعش وحشٌ أمريكي الصنع؟» أجاب تشومسكي: «إنّ العدوان الأمريكي كان عاملاً في صعود داعش، لكن ليس ثمَّة أهلية مستَحَقّة لنظريات المؤامرة في المنطقة، والقائلة بأنّ الولايات المتحدة خطَّطت لصعود هذا الوحش الاستثنائي». ليضاف هذا الموقف إلى التناقضات السياسية لدى تشومسكي التي تستحق إثارة الأسئلة حولها؛ فكيف يبرِّئ تشومسكي «الإمبراطورية»، التي لطالما انتقدها، من مسؤولية تصنيع «داعش» الإرهابي الفاشي وتمويله وتسليحه المباشر وغير المباشر، رغم الأدلة المادّية والاستدلالات المنطقية على ذلك؟
وثمّة مواقف سياسية أخرى لتشومسكي تثير إشارات الاستفهام؛ كتبنّيه روايةَ واشنطن حول اغتيال جون كينيدي وأحداث 11 أيلول... راجع مقال «برغي أحمر في الدبّابة الإمبريالية... تشومسكي مثالاً» المنشور في قاسيون بتاريخ 14 تشرين الأول 2018.
تشومسكي يتّهم ماركس بـ«تدمير الأممية»
في جلسة النقاش التي أعقبت المحاضرة الرابعة من سلسلة محاضرات تشومسكي في نيكاراغوا بأمريكا الوسطى (آذار 1986) والتي نُشرت في كتاب بعنوان «اللغة ومشكلات المعرفة – محاضرات ماناغوا»، طُرِحَ عليه السؤال التالي: «بروفسور تشومسكي، لقد قلت في إحدى محاضراتك بأنّ الماركسية والمادّية قد سدّتا الطريق أمام البحث في اللغة. هلّا علقت بالمزيد على هذا الموضوع؟».
إجابة المفكّر الكبير جاءت مخيّبةً لآمال مَن ينتظرون بعض التفاصيل العلمية الواضحة أو حتى الخطوط الأولية لنقدٍ علميٍّ يتعلّق بموضوع السؤال. وبدلاً من ذلك أسهب تشومسكي في انتقاد «عبادة الفرد» مكرّراً أكثر من مرّة أنّ «ماركس ليس إلهاً». وعلى الرغم من صوابيّة انتقاد تأليه الأفراد والعظماء عموماً، وأنه علينا التفكير النقديّ والابتعاد عن الجمود العقائدي -لكن مع عدم الانقلاب إلى التحريفية بالمقابل- وبأنّ لدى أيّ إنسان أخطاؤه مهما كان عظيماً في التاريخ...إلخ – كلّ هذا نتفق فيه مع تشومسكي كمبادئ عِلمية، ولكن كانت في إجابة تشومسكي مشكلتان:
أولاً- اتهم تشومسكي ماركس، بلا وجه حقّ وبعكس الأدلة التاريخية، بأنه «دمّر الأممية الأولى» إذْ قال عنه:
«كان في الواقع كائناً بشرياً مثل كثيرين من البشر مع عيوب خطيرة في الشخصية. على سبيل المثال، قام بتدمير الأممية الأولى لأنّ مجموعاتٍ لا تروق له من الطبقة العاملة أخذتْ تستحوذ على الأممية. حسناً، هذه كلها أسبابٌ توجب علينا الاعتراض على ماركس: لأمرين معاً؛ لبعض أفعاله الشخصية ولبعض أخطائه الفكرية. ولكن هذا يعني ببساطة أن نقول إنّ ماركس كان بَشَراً وليس إلهاً».
من المؤسف أن البروفسور تشومسكي عالي المقام في معهد MIT الأمريكي والمحاط بالهيبة والشهرة والحظوة، قد سمح لنفسه هنا بهذه السقطة الأخلاقية بتقديمه صورة كاريكاتيرية ظالمة لماركس بأنّه يمكن أن يفرّط بقضية خطيرة كبرى كوحدة الطبقة العاملة و«يدمّر الأممية» لمجرّد أهواء شخصية! إذا تركنا جانباً هذه السقطة التشومسكية بحقّ المناضل الذي ضحّى بصحّته وماله وأمنه الشخصي وأمن أسرته لاجئاً سياسياً بين عدة بلدان، وفي سبيل النضال الفكري والسياسي والتنظيمي من أجل قضية الطبقة العاملة والتحرر الإنساني – إذا تركنا هذا جانباً، نقول إنّ الاطلاع على نقاط الخلاف الأساسية التي دارت حولها الصراعات في الأممية الأولى (جمعية الشغيلة العالمية 1864–1872) بين اتجاه ماركس وإنجلس وأنصارهما من جهة، وبين اتجاهات بقية فصائل الحركة البروليتارية المتنوعة وممثليها من جهة أخرى، كفيلٌ بمعرفة ماذا جرى بالحقيقة. ولكن ما تفسير تحامل تشومسكي على ماركس في هذه النقطة؟ يكمن الجواب في أن تشومسكي نصيرٌ علنيّ للأناركية (الفوضوية) وخاصة لأحد رموزها التاريخيين الذي لعب دوراً تخريبيّاً في الأممية الأولى آنذاك لدرجة أنه صار منبوذاً وتمّ طرده منها، ألا وهو ميخائيل باكونين. هذا علماً بأنّ الروح الديمقراطية البروليتارية لدى ماركس وإنجلس جعلتهما يحاولان حتى اللحظة الأخيرة منع الانشقاق في الأممية لدرجة أنّهما رغم الخلافات مع فصيل باكونين قاما بدعوة ممثل عنه لتوضيح وجهة نظره وهو ج. غليوم إلى الاجتماع السري الذي عقد في لندن بأيلول 1871، ولكنّ باكونين وأنصاره رفضوا الدعوة كاشفين عن نواياهم الحقيقية، فقاد ماركس وإنجلس الاجتماع كله تحت شعار النضال في سبيل تعزيز تنظيم الأممية الأولى وصد التيارات الانعزالية والفوضوية التي كانت قد رفضت قرارات مهمة للأممية منها انخراط الطبقة العاملة في النشاط السياسي وضرورة أن تنشئ أحزابها السياسية المستقلة!
ثانياً- في إجابته عن السؤال في تلك المحاضرة، لم يذكر تشومسكي شيئاً يوضّح ما هي مآخذه العِلمية بالضبط على الماركسية بشأن أبحاث اللغة، ولم ينبس ببنت شفة حول التاريخ الطويل من إنجازات الباحثين الماركسيين بالذات في علم اللغة واللسانيات، ولعلّ أشهرهم الذي لا يقلّ عن تشومسكي في علوّ الكعب وطول القامة، هو العالم السوفييتي الشهير ليف فيغوتسكي الذي ساهم بنظرية نشوء اللغة وتطورها بالتوازي مع أبحاثه في علم النفس والتربية... وسنتناول في مقال لاحق المشكلة الجوهرية التي انتقدها باحثون ماركسيون في نظرية تشومسكي اللغوية. أما في محاضرته المذكورة فقد اكتفى تشومسكي بالأسطر القليلة التالية بعد إسهابه في انتقاد «تأليه ماركس» واعتبر أفكار ماركس «عديمة القيمة»، أو تكاد، بالنسبة لعلم اللسانيات:
«إذا عدنا الآن إلى السؤال، بقدر ما تتم معاملة الماركسية والمادية كعقائد دينية، فإنّ ذلك يعرقل بلا شك البحث في اللغة أو في أيّ شيء آخر، تماماً بقدر ما تعرقل ذلك الالتزاماتُ اللاعقلانية الأخرى. ومن جهة أخرى، إذا حاولنا استخلاص أفكارٍ من فكر ماركس بحيث تكون لها قيمة لأبحاثنا اليوم، فلن نعثر سوى على القليل جداً، كما أعتقد، من الأفكار التي لها أيّ تأثير على الإطلاق على دراسة اللغة، ولذا فإنّ أفكار ماركس بهذا المعنى لا تعرقل ولا تسهّل هذه الدراسة».
سنتابع الحديث في مقال لاحق عن اختيار تشومسكي تأييد الفوضوية بالذات من بين ألوان اليسار، وبماذا اتَّهَم لينين؟ وتحت أيّ ذريعةٍ امتدَحَ سقوطَ الاتحاد السوفييتي؟ ولماذا لا تُشكّلُ الفوضوية في النظرية والممارسة تهديداً لمصالح الإمبريالية بل تخدمها بشكلٍ أو بآخر؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1180