كيف نقاوم التلاعب بالوعي؟ (2)
نتابع في الجزء الثاني من هذه المادة عرض بعض الخلاصات والنتائج التي يمكن للناس الاستفادة منها في مقاومة المتلاعبين بعقولهم، وذلك بناءً على المعلومات التي قدّمها العالم الروسي-السوفييتي سيرغي قره-مورزا في خاتمة كتابه الشهير «التلاعب بالوعي» وخاصّةً لمقاومة التلاعب السياسي بالرأي العام.
في البداية يجدر التذكير بالمصدر: كتاب «التلاعب بالوعي» الذي نشره سيرغي قره-مورزا بالروسية عام 2000، ويتألف من نصفين: النصف الأول يعرض النظرية العامة للتلاعب بالوعي وتقنياته وهو ما تمّت ترجمته إلى العربية من قبل عياد عيد في كتاب يحمل العنوان نفسه، من منشورات وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2012. أما النصف الثاني من الكتاب فركّز على العمليات التي أجريت للتلاعب بالوعي من أجل تفكيك الاتحاد السوفييتي، وهو ما لم تظهر ترجمته إلى العربية حتى الآن، وهذه المادة تعتمد على الخلاصات التي أوردها المؤلِّف الروسي في الصفحات الأخيرة من النصف غير المترجم.
تمكين الذاكرة والأمل بالمستقبل
يكتب قره مورزا بأنّ الذاكرة والبصيرة تلعبان دوراً أساسياً في الحماية النفسية (السيكولوجية) ضدّ التلاعب بالوعي. ولذلك كان من الطبيعي أنْ يُدخلَهُما المتلاعبون في «بنك أهدافهم» لتدميرها وتسهيل إخضاع الضحايا. فالمتلاعبون بالوعي يستعملون تشكيلة من التقنيات تهدف إلى محو إحساسنا بالزمن التاريخي، وإبقائنا عالقين في دوّامة «الحاضر الأبدي». ولذلك فإنّ الإفلات من هذا الفخّ التلاعبيّ يتطلّب من مقاوِمي التلاعب العملَ على كسر هذه الحلقة الزمانية المفرَغة.
في كل مرة يواجهُك المتلاعِب بمشكلةٍ أو مسألة ما، ينبغي عليك أن تبذل جهداً في استعادة الذاكرة المتعلقة بها. فإذا وَجدْت أنّ الظروف الراهنة لا تسمح لك بتخصيص ما يكفي من الوقت أو الجهد لتقرأ أو تبحث بنفسك أو تسأل عارفين تثق بهم لكي تستجلي المسألة وتفهمها بدرجةٍ أعمق، عندئذٍ من الأفضل ألّا تتسرّع في الحكم على ما يُقدَّم لك بشأنها من المتلاعبين المحتَملين أو تصديقهم تلقائياً، حيث يمكن أن يكون ما قدّموه خداعاً أو أكاذيب أو أساطير. فاحترسْ واعتمد مبدئياً على ذاكرتك ومعلوماتك التي تعرفها بشأن المسألة، ريثما يتسنّى لك التحقق والتصحيح والإضافة من مصادر موثوقة.
هذا الكلام يكتسب أهمّية في واقع بلادنا الراهن وربطاً بتاريخها، ويمكن أن نذكر أمثلة، منها على وجه الخصوص خطورة التلاعب الممنهج بوعي السوريين بشأن الهوية الوطنية التاريخية للشعب السوري ولسورية. ويمكن ملاحظة ذلك بدءاً من الأكاذيب والتزويرات التي يجري ترويجها بشكل منتظم ومقصود لتشويه سمعة أبطال الجلاء والاستقلال الذين ناضلوا وخاضوا المعارك ضدّ الاستعمار الفرنسي، بما في ذلك معركة ميسلون وشخصية الشهيد يوسف العظمة وشخصيات قادة الثورة السورية الكبرى على تنوّعهم على مساحة الجغرافية السورية، ومن الثابت أنّ معظم الروايات المسيئة لهؤلاء الأبطال كانت بالأساس من ترويج المستعمر الفرنسي نفسه ويتم اجترارها وتطويرها وإعادة ضخّها في فضاء التأثير الإعلامي-النفسي الحديث بهدف تشويه ومحو الذاكرة الجمعية الوطنية للشعب السوري ضمن محاولات تقسيمه وتفكيكه على أسس مناطقية وقومية ودينية وطائفية وعشائرية وغيرها، وضرب أحد المستندات الأساسية للهوية الوطنية الجامعة.
وفي مثالٍ راهنٍ ذي صلة، يمكن التساؤل حول الواقع التالي: ما دور وتأثير جملة السياسات والوصفات النيوليبرالية؟ –ليس فقط الاقتصادية بل والثقافية والأيديولوجية التي تطبَّق في سورية وخاصةً منذ العام 2005 وحتى الآن- ما دورها في الهجوم على الوعي الوطني الشعبي والذاكرة التاريخية لدى السوريين؟ أليس صحيحاً أنّ إفقار الناس وتجويعهم الممنهج وتيئيسهم عمداً من أيّ حلولٍ جذرية والترويج الإعلامي المتعَمَّد لمزاج اليأس والعجز واللامبالاة والإحباط – أليس صحيحاً أنَّ لكل هذا دوراً في التلاعب بوعيهم عبر آلية نفسية-اجتماعية مشابهة لآلية الإغراق في دوامة «الحاضر الأبدي» التي تحدّث عنها قره-مورزا؟ إنّ الملحوظ أنّه ثمّة مثلاً كثيرٌ من القرارات والإجراءات في المجالات الاقتصادية وغيرها، لا يمكن أن نجد لها تفسيراً أحياناً سوى الإذلال المتعمَّد للناس، واستحداث تأثيرات تتجاوز عمليات النهب الاقتصادي المباشر المتصل بإعادة التوزيع الجائر طبقياً للثروة، ولو أنها تصبّ في تخديم توزيع كهذا في نهاية المطاف.
وعلى مستوى محاولة استغلال وتأبيد الحلقة المفرغة الكارثية للأزمة السورية، أليس تنصّل المتشددين في الأطراف المختلفة نظاماً ومعارضة عن واجبهم ومسؤوليتهم لحلّ الأزمة بالتفاوض وعلى أساس تنفيذ القرار 2254، أليس هذا بحد ذاته من أكبر العوامل المساهمة في استمرار الوضع الراهن المذلّ الذي لا يليق بسورية ودورها التاريخي ولا بشعبها العظيم وقواها الوطنية؟ وبالتالي هو أحد العوامل الأساسية في محاولات إدامة الإحباط والشعور المصطنَع بالعجز لدى السوريين كشعب (إذْ إنهم ليسوا عاجزين كما يُوحى إليهم من المتلاعبين بوعيهم). هذا الشعب الذي من حقه أن يقرر مصيره بنفسه ويستعيد أرضه المحتلة وينقذ بلاده ونفسه ويعيش فيها بكرامة وتَطوُّر.
قمع البدائل
يكتب قره-مورزا أنّ إحدى آليات التلاعب بالوعي هو منع الحوار الذي من شأنه التوصل إلى بدائل عن الوضع القائم، وإلى حلول للمشكلات. وتعطيل التفكير المنطقي والمحاكمة العقلانية لدى الناس.
في واقعنا، ما زلنا نشهد هجوماً على وعي الناس من الخطاب الذي يخدم مصلحة الناهبين والمتشدّدين من أطراف الأزمة، وهذا الخطاب يتعمّد تصوير المستقبل خالياً إلا من خيارات محدودة تناسب هذه المصالح الضيقة، ويحاول تسخيف الخيارات البديلة والادّعاء باستحالة تطبيقها، وخاصةً عندما تكون بدائل تلحق الضرر بمصالح القلة الطبقية الضيقة النهّابة والمستفيدة من الوضع القائم.
مقاومة «فرّق تسد»
يذكر قره-مورزا بأنّ إحدى التكتيكات التي تؤمِّن شروطاً أفضل بالنسبة للمتلاعب بالوعي لكي ينجح في الإيقاع بضحاياه، هو القيام بـ«تقليل الاختلاط» بمعنى أنه يحرص على تفكيك المجتمع إلى أفراد معزولين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وجعل كلّ فرد منهم يقيم أقل عدد من الاتصالات الممكنة بباقي الأفراد.
حيث إنّ إحساس الناس بمشكلاتهم المشتركة وتداولها فيما بينهم وتبادل الآراء حول مصالحهم وهويتهم الجماعية الوطنية والطبقية، وبالتالي فرص قيامهم بالنشاطات المشتركة والنضالات المنظَّمة دفاعاً عن مصالحهم، تكون أفضل نسبياً في حال كثرة التواصل فيما بينهم، وإقامتهم الصلات الاجتماعية الواسعة. لنتأمّل هذه الملاحظة في واقعنا السوري، ونتلمّس إحدى العواقب الخطيرة من هذه الناحية التي تركتها الأزمة الشاملة الكارثية التي تعصف بالبلاد والمجتمع؛ إنّ انعزال الأفراد المتزايد بعضهم عن بعض، وتزايد الانكفاء والعزلة والوحشة أو البحث عن الخلاص الفردي والهروب من الواقع إمّا هجرةً وسفراً أو انحداراً إلى الإدمان والضياع، وحتى الهروب من الحياة نفسها (تزايد معدّل الانتحار) صارت ظواهر مَرضيّة خطيرة ومتفاقمة. وحتى المناسبات الاجتماعية التقليدية والتراثية التي لطالما كانت تحافظ على مستوى من الترابط الاجتماعي والأهلي صارت تضعف وتتلاشى، تحت الضربات المستمرة لسوء الأوضاع المعيشية ولاضطرار الناس لاستنزاف جهودهم لتحصيل الحد الأدنى من لوازم البقاء على قيد الحياة فقط. هنا يتجلّى أحد الأبعاد التي يمكن أن تكون مخطَّطة على نحو متعمَّد أو نتيجة تلقائية ملازمةً بالضرورة لعقود من تطبيق السياسات الليبرالية الإجرامية التي أدت بهذا المعنى ليس إلى تدمير سورية اقتصادياً فحسب بل وألحقت ضربات مدمّرة بنسيجها الاجتماعي وبمناعة أفراد المجتمع تجاه التلاعب بوعيهم واستغلالهم. وليس المقصود من هذا الكلام أن نرسم صورة سوداوية لا خلاصَ منها. بالعكس، فإنّ الطريق نحو استعادة الترابط الاجتماعي الذي جرى ويجري تفكيكه يحتاج إلى بذل جهود كبيرة من طليعة المجتمع وكلّ الناس الوطنيين الواعين سياسياً واجتماعياً لمقاومة هذا التفكيك ومقاومة ما يمارسه المستغلّون من استفراد بأبناء المجتمع لكي يمنعوا تنظيمهم على الطريق الصحيح، الذي يبدأ بالمساهمة الفعالة وحشد الجهود للحلّ السياسي للأزمة السورية عبر تطبيق القرار 2254.
لقراءة الجزء الأول من المقال: كيف نقاوم التلاعب بالوعي؟ (1)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1179