الثمرة الحامضة ... البوصلة في عصر (الرّنين الأجوف المتغطرس)

الثمرة الحامضة ... البوصلة في عصر (الرّنين الأجوف المتغطرس)

تتخطّى نتائجُ حرب غزة، التأثيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية المباشرة. فأمام الصمود البطولي للشعب الفلسطيني المقاوِم في وجه الإبادة الصهيونية المتواصلة، وانكشاف الأكاذيب المزمنة لـ«إسرائيل» وداعميها الأمريكيين والغربيّين، يبرز بشكل سافرٍ وغير مسبوق لا الإفلاس الأخلاقي فحسب للمدافعين عن الكيان، بل وإفلاسهم العِلميّ المنهجيّ أيضاً. 

ورغم الجانب المؤلم الناجم عن جرائم الاحتلال الوحشية، لكنّ وضوح التناقض أعطى زخماً جديداً للتصويب العلميّ لمنهج التفكير والمنطق المهيمن، سواء عند الباحثين في القضايا التاريخية والسياسية والاجتماعية أو لدى عامّة الناس. فتراكم الهزّات في الوعي العام والشعبيّ العالَمي اليوم يقترب من انقلابٍ نوعيّ جديد، ينهزم ويُفلسِ فيه منهج التفكير الميتافيزيقيّ بينما ينتصر منهج التفكير العلمي المادّي الديالكتيكي والتاريخي.
على سبيل المثال، أخذ ينسحب هذا التحوّل على طرق المحاججة في النقاشات العامّة والخاصة. ولعلّ كثيرين لاحظوا كيف أنّ عدداً من الأفكار التي كانت تلقى صعوبةً في إقناع الناس بها قبل 7 أكتوبر 2023 بدأت تصل بطريقة أسهل بعده، فالتجربة/الممارسة معيارُ الحقيقة. وأخذ جزء من الناس الذين كانوا مخدوعين أو مبهورين بما يتشدّق به الخطاب الليبراليّ السائد، بما في ذلك بمجالات الفكر والعلم، يعيدون النظر ويفقدون الثقة التي كانت عمياء إلى حدّ كبير بالصورة التي تُرسَم وتُصدَّر لهم عن «الحضارة» و«احترام حقوق الإنسان» و«الديمقراطية» و«الحريات» بالمعنى الليبرالي الغربيّ لكلّ هذه السرديّات. ويبدو أننا نعيش لحظة تاريخية تتسم بحالةٍ معاكسةٍ لما وصفه العالِم والمفكّر السوفييتي سيرجي قره مورزا بهيمنة «أساطير الغرب السوداء» إبّان البيريسترويكا والفترة التالية لانهيار الاتحاد السوفييتي. فيمكن لأغلبية الناس اليوم أن يروا بأمّ العين أساطير الغرب السوداء بقبحها وعُريها، ويروا بؤس المدافعين عنها وتشنّجهم وتراجع هيمنتهم؛ وعلى المنابر الإعلامية يبرز هذا الإفلاس بشكل انفعالات جنونية لماكينات الدعاية الغربية والصهيونية كلّما جرت مواجهتها بمنطق واثقٍ هادئ يعتمد بالتحديد على المنهج العِلمي المادّي التاريخيّ في التحليل والمحاججة والإقناع، الذي لا يمكن إلا أنْ يضع يده على السبب الجوهري للمشكلة ألا وهو الاحتلال والظاهرة الاستعمارية والإمبريالية كمفرزٍ للرأسمالية المتعفّنة، ضدّ منهج الخصم المُفلِس والمهزوم، الذي يلجأ إلى تجاهل التاريخ ومحاولة طمسه وإنكار الحقائق الموضوعية، والادّعاء الليبرالي بأنّ هذه هي (الحرّية).
وهذا يذكّرنا بما كتبه إنجلس في (ضدّ دوهرنغ): «تُفهَم حرّيةُ العلم على أنها حقُّ الإنسان في أن يكتبَ عن أيّ شيء لم يدرسْهُ، وأنْ يُقدِّمَ كتاباته هذه على أنها المنهجُ العِلميّ الدقيق الوحيد. ويُعتبر السيد دوهرنغ أحد الأمثلة المميزة جداً لذلك العِلم الزائف المُتَشَدِّق [...] ويغطّي كلَّ شيء بكلام فارغ، بضجيجِ الرنين الأجوف المتغطرس، رنينٌ أجوفُ متغطرسٌ في الشعر والفلسفة والسياسة والاقتصاد السياسي والتاريخ، رنينٌ أجوفُ متغطرسٌ في قاعات العِلم ومِن فوق المنابر، رنينٌ أجوفُ متغطرسٌ في كلّ مكان، رنينٌ أجوفُ متغطرسٌ يدّعي التفوّق والتفكير

معلومات إضافية

العدد رقم:
1162
آخر تعديل على الإثنين, 19 شباط/فبراير 2024 12:43