الاحتلال الرأسمالي للكوكب وأكاذيب «حماية المناخ»

أصدر المنتدى «تقرير المخاطر العالمية» مكرراً الحديث عن تغيّر المناخ كأحد أكبر المخاطر التي تواجه العالم. ولا شكّ بأن هذا الخطر موجود موضوعياً ومتفاقم. لكن المفارقة الساخرة هنا تكمن في أنّ أكثر المِصياحين المتاجرين بشعارات مكافحة التغير المناخي – الذي تسهم فيه الرأسمالية بشكلٍ كبير - هم بالذات أكثر الرأسماليين وحشية وإجراماً بحق الأرض والإنسان، في ديباجة مملّة وتزداد نفاقاً سنة بعد أخرى.
ولعقود طويلة اتبعت هذه النخبة تكتيكاً خبيثاً لامتصاص النقمة المتزايدة ضدّ ممارساتها وحروبها وتدميرها للطبيعة والإنسان، ويقوم هذا التكتيك على تصنيع وتمويل جماعات ومنظمات «غير حكومية» وأحزاباً «خضر» و«وردية» و«مجموعات ضغط» بيئية وصولاً حتى لدعم خفي لحركات وشخصيات متطرّفة وخرقاء على غرار أولئك الذين أقصى ما يفعلونه هو افتعال بعض «التنفيسات» الفردية؛ كشخص يلصق شعره على لوحة فنية تراثية في معرض شهير احتجاجاً على استخدام بعض المواد الكيميائية الملوّثة، أو مجموعة من الناشطين يستلقون بأجسادهم ليقطعوا الطرقات احتجاجاً على انبعاثات عوادم السيارات، وما إلى ذلك...
ويتخذ هذا الخطاب والممارسات شكل «يسار اسميّ» يتصدّر الواجهة على حساب «اليسار الفِعلي» الجذري. فالإمبريالية تستخدم جيوشاً من الباحثين والجامعات والمجلّات للخداع ومحاولة حرف البوصلة والترويج لأسطورة إمكانية «إصلاح» المنظومة الرأسمالية من داخلها، لإبعاد الناس عن الاتجاه الجذري الرافض لهذه الأسطورة، والمقتنع بضرورة الإطاحة بالرأسمالية وبناء اشتراكية القرن الحادي والعشرين بوصفها نظاماً اقتصادياً-اجتماعياً أرقى يمثّل الخلاص الوحيد والضروري للإنسان وبيئته من مخاطر الفَناء وجحيم الاستعباد الطبقي للأغلبية من جانب الأقلية.
وإزاء منتدى دافوس، تم نشر انتقادات محقّة تقول إنّه يمثّل «وجهة نظر رأس المال العالمي ويقترح سياسات بدافع استدامة النظام الرأسمالي العالمي». ولعلّ هذا من أوجز التعبيرات عن المعنى الحقيقي للاستدامة (sustainability) ككلمةٍ برّاقة ورنّانة في الخطاب الليبرالي المعاصر، فاستدامة الرأسمالية، و«نموّها المستدام»، تمثّل النقيض التناحري للاستدامة الحقيقية المنشودة للإنسان والطبيعة التي تقصدها القوى التقدّمية عندما تستخدم هذا المصطَلح.

اهتمام ماركس وإنجلس بالبيئة

في كتابات مؤسِّسَي الماركسية (ماركس وإنجلس) نجد تطرّقهما – ولو بشكلٍ متفرّق – إلى تأثير الرأسمالية في البيئة وعلاقة الإنسان بالطبيعة، حيث أصرّا على أن تطور النوع البشري وازدهاره لن يتحقق في ظلّ استمرار العلاقات الرأسمالية. ووضعا الاستنتاجات والتنبؤات البيئية الخاصة بهما، والتي توصّلا إليها في سياق تجربتهما ودراسة علوم عصرهما وما أتيح من أدلّة آنذاك، وخاصةً اطّلاع ماركس على علوم الزراعة والكيمياء في سياق دراسته الاقتصاد السياسي وتأليفه لـ«رأس المال»، وتلخيصه لتقارير مفتشي المصانع حول الأمراض وسوء التغذية والاستغلال الرأسمالي الوحشي للعمّال بما في ذلك تشغيل الأطفال الصغار والنساء حتى يأخذهم الموت بين الآلات أو تُقعِدَهم الأمراض المهنية والتشوّهات الجسدية.
ولعلّ مفهوم «الصدع الاستقلابي» كان من أهمّ ما جاء به ماركس في هذا المجال، وهو مفهوم أعاد اكتشافه في مؤلفات ماركس والإضاءة عليه الباحث الماركسي الأمريكي جون بيلامي فوستر – ويعني «الصَّدع الاستقلابي» باختصار: الشرخ الذي أحدثته الرأسمالية في عمليات تبادل المواد بين الطبيعة والإنسان وضمن بيئة النشاط الاقتصادي البشري، ما أدى لعلاقة ضارّة بحياة الإنسان وآفاق تطوّره على كوكب الأرض. وهو مفهوم مرتبط أيضاً بنظرية «الاغتراب» الأوسع لدى ماركس، وذلك بجانبها المتعلق باغتراب الإنسان عن الطبيعة وعن جوهره الإنساني أيضاً.
وأشار فوستر إلى أنّ ماركس طوّر هذا المفهوم في سياق التحذير الذي أثاره علماء الكيمياء والزراعة في عصره، وخاصةً في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، بشأن فقدان التربة لخصوبتها وعناصرها المغذّية (مثل الآزوت والفوسفور والبوتاسيوم) بسبب تصدير الغذاء والألياف النباتية من الأرياف إلى المدن، حيث تمّ تجريد هذه العناصر من بيئتها الأصلية وإبعادها لمئات وآلاف الكيلومترات حتى انتهى بها الأمر إلى فضلات تلوّث المدن، وهو ما وصفه أهمّ عالِم كيمياء في ألمانيا آنذاك (يوستوس فون ليبيغ) بأنه «منظومة نَهب» نظراً للأضرار التي تلحقها هذه الممارسات بالتربة. ويلاحظ فوستر بأنّ ماركس كان في هذا العِلم «تلميذاً نجيباً لـ ليبيغ وعلماء كيمياء التربة الآخرين»، حيث رأى التناحر الذي تفتعله الرأسمالية بين البشر والأرض بشكل «صدعٍ لا رأبَ له» يَشقُّ «التفاعل الاستقلابي» بين البشر والأرض، بحسب تعبيرات ماركس. ولعلّ التأثير البيئي كان في بال ماركس وإنجلس عندما اعتبرا التناقض بين المدينة والريف كأحد التناقضات الكبرى التي تخلقها الرأسمالية، وأنه لا بدّ لأي برنامج شيوعيّ أن يهدف لحلّ هذا التناقض، ولذلك نجده بارزاً في «البيان الشيوعي». لقد رأى ماركس ضرورة «استعادة منظومة» يجري فيها التفاعل الاستقلابي الضروري بشكل «قانون ينظّم الإنتاج الاجتماعي». ولكن ما حدث ويتفاقم مع تطوّر الرأسمالية هو تعمّق هوّة «الصدع الاستقلابي» بفعل النشاط الزراعي والصناعي الرأسمالي الكبير والمسافات الشاسعة لطرق التجارة الدولية. وهنا لا بد من الملاحظة بأنّ المشكلة ليست بحد ذاتها في تطوّر طرق المواصلات والتجارة وسرعة التنقل والترابط بين أرجاء العالَم بل في المصالح الرأسمالية التي تتحكّم بها، حيث يمكننا أنْ نربط مباشرةً بين تطوّر «الصدع الاستقلابي» ومنظومة النهب الاستعماري و«التبادل اللامتكافئ» الإمبريالية التي حوّلت بلدان الأطراف إلى «مكبّات» لنفايات الغرب بعد امتصاص ثرواتها ودماء شعوبها.
وكان لإنجلس ملاحظات بيئية قيّمة حول التلوّث والأضرار المدمّرة على صحّة البشر وسلامة البيئة، التي نجدها إمّا في فصول بعينها من كتبه، كما في حديثه عن مساكن العمّال وطريقة هندسة المدن الرأسمالية في كتابه «أحوال الطبقة العاملة في إنكلترا»، أو ملاحظاته المتفرقة في أعمال أخرى؛ مثلاً تمر ملاحظة في «ضد دوهرنغ» ينتقد فيها إنجلس نظام الصرف الصحي القائم، ويتصوّر مستقبلاً تكون فيه الفضلات العضوية مصدراً لتخصيب التربة بدل أن تكون مصدراً للأمراض.

«لا عدالَة بيئية على أرضٍ مُحتلّة»

اكتسبت القضية البيئة زخماً تقدميّاً إضافياً مؤخراً، بفضل نضالات الشعب الفلسطيني التي تكاد تكثّف كل جوانب النضال المعاصر لشعوب العالم وقواه التقدمية ضد الإمبريالية وصنيعتها الصهيونية، وتمثّل النموذج المعاصر الأبرز لقضايا التحرّر الوطني من الاستعمار اليوم. فكان لرفع بعض النشطاء البيئيين شعار «لا عدالَة بيئية على أرضٍ مُحتلّة» تضامناً مع فلسطين وغزة، أثرٌ مهم؛ حيث نفضوا بعضاً من زيف النفاق والمتاجرة بقضايا البيئة والمناخ الذي طالما عملت الإمبريالية على التشدّق به، في الوقت الذي تدعم فيه تدمير البشر والحجر والشجر في الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين؛ فماذا يعني إزهاق أرواح عشرات ومئات الألوف من «الموارد البشرية»؟ وقطع وحرق أشجار الزيتون؟ وحرمان الفلاحين والصيادين من الحصول على مصادر المعيشة والغذاء براً وبحراً؟ وتجويع الملايين بحصار خانق والتسبب بكارثة صحية وبيئية ووبائية كبرى في غزة؟ بعد كل هذا نجد أرباب «دافوس» الذين يزعمون «القلق» على البيئة والمناخ يستضيفون في مؤتمرهم رئيس كيان الاحتلال الصهيوني وممثلي واشنطن وكبار الشركات الرأسمالية ذات الأرباح الفاحشة على حساب تدمير البيئة ودعم التجريف الاستعماري للأرض والإنسان في فلسطين وغيرها، ودفن النفايات النووية في الشرق الأوسط وغيره، عدا دعم الحروب التي تحرق الغطاء النباتي وتهجّر المنتجين وتلوّث الماء والهواء والتربة، حتى بمخلّفات اليورانيوم المنضّب والفوسفور الأبيض كما في احتلال العراق وأفغانستان وفي فلسطين، وقبله العامل البرتقالي في قصف فيتنام. ولذلك يجب توسيع شعار «لا عدالة بيئية على أرض محتلة» ليعني أنّ العدالة البيئية مستحيلة على أرضٍ تحتلها الرأسمالية على هذا الكوكب، ولن تبدأ العدالة البيئة بالتحقق إلا مع بسط الاشتراكية أجنحتها على كوكبنا بالكامل.