التاريخ الـمَنسيّ لمشروع «خولود» السوفييتي والثورة فرط الصوتية

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

يعود تاريخ محركات «سكرامجيت» التجريبية إلى مطلع سبعينات القرن العشرين، عندما ولدت في «المعهد المركزي لمحركّات الطيران» بموسكو (TsIAM)، المسمّى باسم بارانوف. وفي الغرب تعرف المركبة الرائدة التي أنتجها باسم «المختَبَر الطائر فرط الصوتي» (HFL)، أما في الاتحاد السوفييتي فأعطي المشروع اسماً رمزياً هو «خولود» ويعني «البرد» بالروسية، لأنّ المحرّك اعتمد على الهيدروجين السائل المُبرَّد كوقود، بينما لعب الهواء المضغوط (الذي يشفطه من طبقة الستراتوسفير أثناء تحليقه) دور المؤكسِد، وبالتالي فإنه، بخلاف المحركات النفّاثة التقليدية، لا يحتاج إلى «ضاغط هواء»، مما سمح له بأن يكون أخف وزناً وأعلى كفاءةً، والأهم من ذلك كلّه: أسرع بكثير.
ولكن، للسبب نفسه أيضاً، كان يحتاج إلى مصدر دفع ابتدائي بديل ليعطيه التسارع الأولي المطلوب قبل أن يتمكّن الهواء الجوي من التدفّق إليه وتمكين الاحتراق فيه. واستطاع المهندسون السوفييت حلّ هذه المشكلة بوضع مركبة السكرامجيت على قمّة صاروخ دفاع جويّ من منظومة S200 (المعروفة في الغرب باسم SA5)، والتي كانت قادرة على تسريع هذه المركبة الصغيرة المحمولة عليها إلى سرعة تفوق سرعة الصوت بثلاث مرّات (ماخ 3)، على ارتفاع يزيد على 20 كيلومتراً. وبعد إطلاقها لنحو أكثر من دقيقة، كانت مركبة «خولود» تتسارع حتى 6.5 ماخ، مرتقيةً إلى ارتفاع 35 كيلومتراً فوق سطح الأرض.
في المرحلة الأولى من الإطلاق يعتمد المحرك على وقود صلب، وفي الثانية (حيث ما يزال مرتبطاً بصاروخ إس 200) يعتمد على الهيدروجين السائل بعد انفصال دافعات الوقود الصلب عن المركبة التجريبية، التي بعد أنْ تستهلك حوالي 17 كيلوغراماً من الهيدروجين السائل، تدخل بحالة سقوط حرّ على أرض صحراوية.

تصميم منظومة الدفع

تم تصميم مركبة «خولود» التجريبية السوفييتية لتكون صغيرة الحجم والوزن بما يكفي لتحلّ محلّ الرأس الحربي التفجيري لصاروخ دفاعٍ جويّ. ولإدخال أقلّ ما يمكن من التعديلات على شكل الصاروخ، ابتدع المهندسون السوفييت تصميماً معكوساً غير مألوف لموضع المحرّك بالنسبة للمركبة التي يحرّكها: وضعوا محرّك السكرامجيت في «أنف المركبة» بدلاً من قاعدتها، بحيث يكون في المقدّمة وخلفه خزّان وقود الهيدروجين. وبذلك سيقوم المحرّك «بسحب» الصاروخ وراءه، وليس بـ«دفعه» من الخلف. وبفضل هذا التصميم غير المألوف، سيقوم المحرّك بشفط الهواء عبر مدخلٍ يشبه «كعكة الدونات» (أو قرص الفلافل المثقوب)، ومن ثمّ يضغطه ويلقّمه إلى حجرة احتراق دائرية. أمّا العادم (الدخان والأبخرة المستنفدة) فسوف تهرب من خلال فوهة حلقية، فتُسَربِلُ جسمَ الصاروخ.
ويكون الهيدروجين (الوقود) مُسالاً بالتبريد لحوالي 30 درجة كلفن (243 درجة مئوية تحت الصفر). وهو يتدفّق أولاً عبر «عُروة تبريد» تغلّف حجرة الاحتراق. وبعد أداء دوره كمُبَرِّد، يَسخُنُ الهيدروجين بسرعة متحوّلاً من شكله السائل إلى الغازيّ. وبعد ذلك يتمّ رشّه رذاذاً إلى داخل حجرة الاحتراق عبر ثلاثة صفوف من الفوهات، حيث يختلط بالهواء، ليتمّ إشعال المزيج بشرارات كهربائية.
وتتألف حجرة الاحتراق من ثلاثة أقسام: يقع الأول خلف مدخل الهواء تماماً لتأمين حركة هذا الأخير بسرعة «تحت صوتية» (أبطأ من الصوت)، في حين يؤمّن القسمان الثاني والثالث احتراقاً «سوبّر صوتيّ» (أسرع من الصوت).
هذا التصميم لمنظومة الدفع التجريبية فرط الصوتية السوفييتية الأولى، بات يعرف بالتصميم «المتناظر محوريّاً»، لأنّ الجسم الأسطواني للمحرّك كان متناظراً تماماً حول محورٍ واحد. ولكن حتى ذلك الوقت كانت هناك توقعات وآمال مستقبلية بأن تتعاقب بعده تصاميم غير متناظرة تمّ تصوّرها لتطبيقات عملية متنوّعة، ليست عسكرية فحسب (كدفع صواريخ كروز والصواريخ فرط الصوتية)، بل ومدنية أيضاً في إطار الحلم بنقل المسافرين ورواد الفضاء بطائرات ومركبات فرط صوتية.
وبالتالي فإنّ محرّكات «سكرامجيت» من الجيل التالي قد تمهّد الطريق لمنظومات دفع أكثر تقدّماً، تستعمل الهواء خلال تحليقها في طبقات الغلاف الجوي للأرض، قبل أن تتحوّل بمجرّد وصولها للفضاء الخالي من الهواء (وفي الرحلة نفسها) للاعتماد على موادّ مؤكِسِدة تكون مزوَّدة بها على متنها، مما يمكّن «الطائرات الفضائية» من الوصول إلى المدار بعد إقلاعها بشكل أفقي تقليدي من مدرج طائرات عادي.

أول اختبار إطلاقٍ ناجح

بعد سنوات من الأبحاث النظرية والتطويرات التي انطلقت أواسط السبعينات، نجح فرع توراييف (التابع للمعهد المركزي لمحركّات الطيران السوفييتي في موسكو TsIAM) باختبار محرّك سكرامجيت من منصّة Ts-16KV التي كانت أضخم منشأة من نوعها آنذاك، مما مهّد الطريق لاختبارات طيران فعلية لهذه التكنولوجيا، فانطلق بنجاح أوّل صاروخ «خولود» من حقل اختبار يسمّى «ساري شاغان» في كازاخستان بتاريخ 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1991، قبل أسابيع قليلة فقط من تفكّك الاتحاد السوفييتي! ووصلت هذه المركبة أثناء ذلك الاختبار إلى ارتفاع 35 كيلومتراً وسرعة 1653 كيلومتراً في الثانية (أسرع من الصوت بـ 3.6 مرة)، وتمكّن محرّك سكرامجيت العامل بالوقود الهيدروجيني من الاحتراق الناجح لمدة 27.5 ثانية أثناء التحليق.

تسابُق الغرب للتعلّم مِن السوفييت

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، تسابق المهندسون الفرنسيون والأمريكيون على الفرصة التي أتيحت لتشكيل فرق مشتركة مع «المعهد المركزي لمحركّات الطيران» في موسكو (TsIAM)، لكي يتعلّموا منه، فسارعت مؤسسة الأبحاث الجو-فضائية الفرنسية (ONERA) لإطلاق برنامج بتكلفة 95 مليون دولار في هذا المجال، وبدأت في نيسان 1992 بمفاوضات على التعاون مع هذا المعهد الموسكوفي، أدّت في أيلول من العام نفسه إلى توقيع الجانبين الروسي والفرنسي اتفاقيةً سمحت للصناعة الفرنسية بالوصول إلى ثروةٍ من البيانات العلمية والتقنية السوفييتية تشمل 50 مُحدِّداً قياسياً (باراميتراً) للاستفادة منها خلال اختبار الإطلاق التالي. وبحسب تقديرات أمريكية استثمرت هذه المؤسسة الفرنسية مبلغاً «متواضعاً» هو 200 ألف دولار في الإطلاق الثاني لمركبة «خولود» بتاريخ 27 نوفمبر 1992، ومن القاعدة الكازاخستانية نفسها، وهذه المرة بحضور ومراقبة ثمانية ممثّلين للصناعة الجو-فضائية الفرنسية. وتمكّن الصاروخ من الوصول على نحو غير مسبوق لسرعة 5.5 مرة أسرع من الصوت لمدة 15 ثانية قبل أن ينفد وقوده الهيدروجيني. ورغم فشل الإطلاقين التاليين الثالث والرابع (عامي 1995 و1997) لكنهما قدّما معلومات قيّمة للتطوير وتلافي الأخطاء.
أما وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» فانضمّت رسمياً إلى برنامج «خولود» في نوفمبر 1994. وخلال العام نفسه اضطلع القسم 101 في «مكتب الدفع الخيمافتوماتيكي» KBKHA في مدينة فورونيج الروسية، بمهمّة تطوير محرّك سكرامجيت (يرمز له اليوم بـ 58L) فأعيد تصميمه ليتحمّل درجات حرارة أعلى ويصمد أكثر لتشغيله بحالة الاحتراق «سوبر صوتية». هذا المحرّك الذي طوّره المعهد السوفييتي-الروسي المذكور قامت ناسا بتمويل مهمّة إطلاقه في 12 شباط 1998 بهدف الوصول إلى سرعة 6.5 ماخ، والتي اقترب منها حيث تسارع من 3 ماخ ليصل ما بين 6.41 إلى 6.47 ماخ، محطّماً رقماً قياسياً آنذاك من حيث الاحتراق الناجح لمدة 77 ثانية عند ارتفاع أقصى هو 27.1 كيلومتراً. واستطاعت روسيا رغم مصائبها الاقتصادية والسياسية المريعة في التسعينات أنْ تحقق السبق بأنْ تكون أوّل بلد ينجح بإطلاق محرّك «سكرامجيت» فرط الصوتي.
ومن المرجّح أنّ ناسا استفادت من تجربة مشروع «خولود» السوفييتي-الروسي، لبناء الطائرات بلا طيّار التجريبية الأمريكية X-43A المزوّدة بمحرّك سكرامجيت. ذلك أنّ هذا البرنامج قد نفّذته ناسا بالشراكة مع مركز أبحاث «درايدن» Dryden، وليس مصادفة أنّ هذا الأخير بالذات كان مشاركاً لصالح وكالة الفضاء الأمريكية NASA في الإطلاق الأخير لمركبة «خولود». وتمّ إطلاق رحلات X-43A التي سجّلت أرقاماً قياسية بعد 3 سنوات من الإطلاق الأخير لـ«خولود». وإضافة إلى أمريكا وفرنسا، تُجري اليوم كلّ من ألمانيا واليابان أبحاثاً على تكنولوجيا «سكرامجيت» فرط الصوتية التي كان السوفييت أوّل من ابتكرها.