إنجلس والحرارة: من «الكالوريك» السِّحريّ إلى رؤية الذرّات

إنجلس والحرارة: من «الكالوريك» السِّحريّ إلى رؤية الذرّات

كتب فريدريك إنجلس في «المقدّمة القديمة» لكتابه «ضدّ دوهرِنغ» (1878): «غالباً ما نصادف في علم الطبيعة نفسه نظريات تقلب العلاقات الفعلية على رأسها؛ فتَعتَبر الانعكاسَ بمثابة الشيء العاكِس. ولذلك فهي تحتاجُ إلى إيقافِها أيضاً على قدَمَيها. ولا يندر أنْ تُسيطِرَ مثلُ هذه النظريات طويلاً. والمثالُ على ذلك هو التعاليمُ الخاصّة بالحرارة: ففي غضون قرنين تقريباً لم تكن الحرارة تُعتَبَر شكلاً لحركة المادة العاديّة، بل مادةً سحريّةً خاصّة. ولم يُحقِّق التحوُّلَ اللازمَ هنا إلا النظريةُ الميكانيكيةُ للحرارة. ومع ذلك فإنّ الفيزياء التي سيطرت عليها نظريةُ السيّال الحراري (الكالوريك) قد اكتشَفَتْ طائفةً من قوانين الحرارة ذات أهمّية بالغة...».

يؤرّخ إنجلس ظهور وأفول فرضية «السيّال الحراري» أو الكالوريك Caloric فـي مخطوطِه «ديالكتيك الطبيعة»، فيكتب: «إنّ النظرة الأولى الساذجة تكون كقاعدة، أكثر صحة من النظرة الميتافيزيقية اللاحقة. وهكذا سبق لبيكون (ومن بعده بويل، ونيوتن، وجميع الإنكليز تقريباً) القولُ بأنّ الحرارة هي حركة (حتى أنّ بويل قال إنها حركة جزيئات). ولم تظهر نظرية السيّال الحراري (الكالوريك) سوى في القرن الثامن عشر في فرنسا، ومن ثم أصبحت مقبولة إلى هذا الحدّ أو ذاك في كلّ القارّة». (توفّي بويل عام 1691).
بقيت فرضية السيال الحراري «الميتافيزيقية» سائدةً حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً. وعلى غرار «السائل الكهربائي» الذي اقترحه فرانكلين عام 1751 و«السائل المغناطيسي» الذي اقترحه آيبينوس عام 1759، كان أنصار الفرضية الخاطئة يعتقدون بأنّ الحرارة ناجمة عن وجود «مادة» خاصة بشكل «سائل حراري محفوظ» أُطلِقَ عليه اسمُ «كالوريك»، ينتقل من جسم إلى آخر، مثلما اقترح ذلك العالمان لافوازييه ولابلاس عام 1783 في ورقة مشتركة بعنوان «مذكّرة حول الحرارة»، قبل أنْ يتبيَّن خطأ هذه الفرضية في نهاية المطاف، وتحلّ محلّها النظريةُ الميكانيكية للحرارة.

النظرية الميكانيكية للحرارة

عندما ألّف إنجلس «ضدّ دوهرنغ» كانت هذه النظرية بالكاد قد ترسّخت بشكلٍ متين منذ عقودٍ قليلة فقط، ولا سيّما بفضل أعمال كلاوزيوس منذ 1850، التي جمعها وتوّجَها بكتابه «النظرية الميكانيكية للحرارة» (الطبعة الأولى 1865)، قائلاً بأنّ الحرارة شكلٌ من أشكال الحركة (التذبذب) لدقائق أو جزيئات المادة، وليست مادّة خاصة بحدّ ذاتها.
مع ذلك، ساعد مبدأ «الكالوريك» في تنظيم الأبحاث والتجارب لحوالي 70 عاماً، فاخترع لافوازييه ولابلاس مقياسَ «مِسْعَر الجليد»، ولاحظا أنّ الحرارة النوعية يمكن أنْ تعتمد على المادة وعلى درجة حرارتها، وأنّ التمدّد الحراري، وخاصة بالنسبة للغازات، يمكن أن يؤدّي إلى «اختفاء» واضح للحرارة، مما بشّر بمبدأ انحفاظ الطاقة. وبين حين وآخر كانت تنتابُ العلماء، بمن فيهم لافوازييه ولابلاس، نوباتٌ متفاوتة من الشكّ في فرضية «السيّال الحراري»، وعانى بعضهم لاحقاً من صعوبة التخلّي عنها والاقتناع بالنظرية الجديدة «الميكانيكية» للحرارة التي حلّت محلّها أواسط القرن التاسع عشر فشكّلت منعطفاً مهمّـاً في تأسيس علم الثرموديناميك.

رؤية الذرّات والجزيئات

في الفصل السادس من «ضدّ دوهرنغ» (الفلسفة الطبيعية. مَبحَث نشأة الكون والفيزياء والكيمياء)، يعرض إنجلس دورَ «الحرارة الكامنة» في تغيّر الحالة الفيزيائية للمادّة، ثمّ يتابع قائلاً: «وهذا التفسير لا يمثّل بالطبع إلا فرضيةً مثل كلّ النظرية الميكانيكية للحرارة، طالما أنَّ أحداً لم يرَ جُزيَئةً حتى الآن فضلاً عن رؤية تذبذباتها».
فيما بعد، خلال القرن العشرين، حدثت تطوّرات علمية وتقنية سمحت بتحديد أشكال عدد من الجزيئات وحتى تصوير بعضها، وبدقّة متزايدة خلال العقود القليلة الماضية، مما قدّمَ براهين إضافية على النظرية الميكانيكية للحرارة. ولكن قبل المرور على أبرز هذه التطوّرات، من المفيد أنْ نقتبس من أحد الكتب العلمية الحديثة نسبياً، الذي حمل عنوان «ما بعد التُّخوم الجُزيئيّة، تحدّيات للكيمياء والهندسة الكيميائية»، الصادر عن «مجلس البحث القومي» الأمريكي، واشنطن، 2003، ص72، الفصل الخامس، «عزل، المواد والبنى والتعرّف عليها وتصويرها وقياسها»:
«إنّ تحديد البنية الجزيئية بالتفصيل، يتطلّب التعرّف على المواضع الفراغية لجميع ذرّاتها، أيْ المسافات الذرّية وزوايا الروابط... ولكنّ الجزيئات حركيّةٌ (ديناميكيّةٌ)، وهي خاصّية لا تعكِسُها الصُّور السكونية (الستاتيكية)... ولأنّ جميع الذرات في جميع الجزيئات تتحرّك، حتى في حدود أدنى درجات الحرارة التي أمكن التوصّل إليها، فإنّ البنى الجزيئية إنّما تَصِفُ في الحقيقة الموضعَ الوسطيّ حول ترتيبٍ توازنيٍّ ما. كما أنّ الدورانات حول روابط معيَّنة تحدث بشكلٍ حُرّ في درجات الحرارة العادية. وبالتالي، توجد بعض الجزيئات في أكثر من شكلٍ بنيويّ».
هذه من الصياغات العلمية الحديثة التي تتشابه مجدّداً مع صياغات إنجلس وتنسجم مع تشديده على ما ذهبت إليه الفلسفة المادية الديالكتيكية من تأكيدات حول ديالكتيك الحركة والسكون، وأنّ الحركة مطلقة والسكون (التوازن) نسبيّ، ليس في «الطبيعة» فحسب بل وفي المجتمع والفكر البشري.
ثم يذكر هذا المرجع الحديث نفسه، بأنّه حتى الآن ما زالت «التقنيات المتاحة لتحديد البنية الجزيئية محدودة» ومع ذلك فإنها موجودة وتتضمّن: «التحليل البنيوي بتقنيات الانعراج (الحِيود diffraction) كانعراج الأشعة السينية أو الإلكترونية أو النيوترونية. وهناك تقنيات امتصاص وإصدار الإشعاع الكهرطيسي، كالتصوير الطيفي بالمايكروويف، والرنين المغناطيسي النّووي NMR». وهنا نذكر على سبيل المثال، أنّ جزيئة الحمض النووي DNA تمّ تصوير شكلها اللَّولبي المضاعَف لأول مرّة عام 1952 باستخدام «التصوير البلّوري بالأشعة السينية» x-ray crystallography على يد روزاليندا فرانكلين، مما ساعد واطسن وكريك باكتشاف تركيب DNA الكيميائي. وفي عام 2009 قام فريق من شركة IBM بالتقاط ما اعتُبر أوّل صورة من نوعها ووضوحها لجزيء مفرد، هو جزيء البنتاسين (خماسي الكربون) باستعمال نوع خاص من المجهر الإلكتروني (يسمّى مجهر القوة الذرّية AFM) ونُشر البحث في مجلة Science الشهيرة.
ومهما بدا هذا غريباً للوهلة الأولى، لكنّ تصوير الجزيئات أصعب من تصوير الذرّات، رغم أنّ الأولى أكبر من الثانية عموماً، وذلك لأنّ الحزمة الإلكترونية للمَجاهِر المستَعملة بالتصوير كثيراً ما تؤدّي إلى تفكيك الجزيئات (فبشكل عام، الروابط التي تحافظ على تماسك الذرّة أقوى من تلك التي تحافظ على تماسك الجزيئة). أمّا أوّل صورة لذرّات منفردة فقد تمّ الحصول عليها، بأحد أنواع المجهر الإلكتروني أيضاً، وكانت لعنصرَي اليورانيوم والثوريوم، عام 1970، ونُشرَت النتائج في مجلة «علوم البيولوجيا» الأمريكية.

المصادر (إضافة لكتابَي إنجلس المذكورَين):
- Beyond the Molecular Frontier, Challenges for Chemistry and Chemical Engineering, Washington 2003, p. 72.
- Gross, L. et al. (2009). The Chemical Structure of a Molecule Resolved by Atomic Force Microscopy. Science, 325 (5944), pp. 1110–1114.
- Fling, K. J. (1970). First Photographs of a Single Atom. BioScience, 20 (16), p 918.
- Wayne M. Saslow (7 Jan. 2020). A History of Thermodynamics: The Missing Manual, MDPI, Entropy Journal.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1096