«تقنين» الطاقة يهدّد مكانة أوروبا العِلمية ويعرقل تجارب الفيزياء

«تقنين» الطاقة يهدّد مكانة أوروبا العِلمية ويعرقل تجارب الفيزياء

كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» في 4 أيلول الجاري، أنّ أضخم مسرّع للجسيمات الذرّية في العالم «مصادم الهادرون الكبير» LHC، مهدّد بـ«التقنين» الكهربائي وإنقاص وقت التشغيل. وهو الذي تديره منظمة الاتحاد الأوروبي لأبحاث الطاقة (سيرن CERN ومقرّها سويسرا) بتكلفة 4.4 مليارات دولار، وتستهلك أجهزة سيرن 1.3 تيراواط/ساعة من الطاقة سنوياً، ما يعادل استهلاك رُبع مليون أسره، كما ويعادل استهلاك المصادم لوحده ثُلث استهلاك مدينة جنيف. ولطالما ارتبط هذا الجهاز العملاق بصورة أوروبا المتقدمة علمياً وحتى (للمفارقة) بآمال الحصول على خروقات بأبحاث الطاقة والمادة لإنتاج طاقة «أعظم وأرخص»، وامتلأت برامج التلفزيون العلمية الشعبية بالحديث عنه لدرجة الأسطورة، حتى أنّ أحد الجسيمات التي قيل إنها اكتشفت فيه عام 2012 (بوزون هيغز) سمّيَ بـ«جسيم الربّ». اليوم هذا الصرح العلمي «يُصلّي» لإنقاذه من التراجع أو الإغلاق بسبب سياسات الطاقة الحمقاء التي يتّبعها قادة الاتحاد الأوروبي.

يقوم «مصادم الهدرون الكبير» LHC بتسريع البروتونات والجسيمات الأخرى ضمن نفق دائري بطول حوالي 27 كيلومتراً مما يؤدي إلى تصادمها معاً بسرعة تقارب سرعة الضوء لفحص الجسيمات قصيرة العمر التي تظهر في أعقاب التصادمات.
تهدف المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN للحفاظ على المصادم قيد التشغيل وتجنب إغلاقٍ مفاجئٍ قد يعطل الجهاز الذي يكلّف 4.4 مليارات دولار. وهذا المصادم هو الأضخم من ثمانية مسرّعات في مجمَّع «سيرن» الحاوي أيضاً مبطّئَين للجسيمات يسمحان للعلماء بدراسة «المادة المضادة».
وتجري «سيرن»، التي تقع منشآتها على الحدود الفرنسية-السويسرية، مفاوضات مع مورّدها للكهرباء، عملاق الطاقة الفرنسي (إي دي إف إس إيه) التابع للدولة، حيث تم تحذير المركز بأنه لا بدّ من تقليص استهلاكه من الكهرباء، وخاصةً بأوقات الذروة (الصباح والمساء) والأوقات العصيبة المتوقعة هذا الشتاء وسط أزمة الطاقة الخانقة. وقالت شركة RTE المشغلة لشبكة الكهرباء الفرنسية، إنّ البلاد مضطرة لخفض استهلاك الكهرباء هذا الشتاء بنسبة 15% في ساعات الذروة لتجنب انقطاع التيار الكهربائي. وستعطي CERN الأولوية لإغلاق مسرّعاتها الأخرى أيضاً، مما يقلل من استهلاك الكهرباء في المركز بنسبة تصل إلى 25%.
قبل اشتداد الأزمة، وفي يوليو/تموز، عزّز المركز أداء المصادم ليجمع الجسيمات بأعلى طاقة تم التوصل إليها على الإطلاق في أيّ مسرّع جسيمات في العالَم. ولكن ما لبثت أن تدحرجت الأزمة بسرعة وقلّصت روسيا تدفّق الغاز عبر خط «السيل الشمالي1» بسبب العقوبات الغربية عليها بعد عمليتها العسكرية في أوكرانيا. فارتفت أسعار الغاز في أوروبا لأكثر من 10 أضعاف، وزادت الأزمة سوءاً بتقليص أسطول المفاعلات النووية الفرنسي، وشحّت إمدادات الكهرباء خصوصاً في فرنسا لأن شركة كهربائها EDF اكتشفت تآكلاً بالأنابيب في أحد تصاميم المفاعلات النووية الأكثر شيوعاً، ما دفعها لإيقاف 12 منها للإصلاح، على أمل إعادة تشغيلها قبل نهاية الشتاء.
يعتمد المصادم المذكور على مغناطيس فائق التوصيل مبرَّد إلى درجة 271 مئوية تحت الصفر (سالب 456 فهرنهايت) لثني حزمة الجسيمات، مما يتطلب قدراً هائلاً من الطاقة حتى عند إيقاف تشغيل الحزمة، وقد يؤدي الإغلاق المفاجئ إلى تعطيل الآلة، كما وقد يؤدي عدم التبريد الكافي للمغناطيس إلى تراجع التجارب لأسابيع. فالمسرعات غالباً ما تحتاج العمل المتواصل 24/24 ساعة يومياً، وهو أمر ضروري لتوليد تصادمات كافية لتأكيد نتيجة تجريبية ما. وبالفعل سيقدّم مسؤولو CERN في نهاية أيلول الجاري خطة للحكومات المموّلة للمركز لإيقاف التجارب مؤقتاً. وصرّح رئيس لجنة إدارة الطاقة في المركز، سيرج كلوديت: «ما يقلقنا حقاً هو مدى استقرار الشبكة، لأننا نفعل كل ما بوسعنا لمنع انقطاع التيار الكهربائي في منطقتنا... إذا حصلنا على ميزانية لدراسة العلوم، وأوقفنا العلم طوعاً لتوفير الطاقة، فعلينا أن نتأكد من حصولنا على دعم البلدان المعنية».

أزمة لأبحاث الفلك والليزر والذرّة

نشرت مجلة «ساينس» العلمية الشهيرة، في 7 أيلول الجاري، مقالاً حول تهديد أزمة الطاقة للمؤسسات العلمية الأوروبية. وإضافة إلى محنة «مصادم الهادرون الكبير» لفتت الانتباه أيضاً إلى أنّ الأزمة تطال «المعاهد التي تشغل الحواسيب الفائقة والمسرّعات وخطوط أشعة الليزر المتعطشة للطاقة». ونقلت عن مارتن فرير، عالم الفيزياء النووية ومدير معهد الطاقة بجامعة برمنغهام، قوله إنه إذا استمرت الأسعار بالارتفاع في الخريف والشتاء، فإنّ «تأثيرها على العلم سيكون كبيراً».
كما ونقلت المجلة عن جيسيكا ديمبسي، مديرة المعهد الهولندي لعلم الفلك الراديوي (ASTRON) بأنها بعد فترة وجيزة من تولّيها منصبها في كانون الأول 2021، «أُجبرت على التركيز ليس على النجوم، ولكن على فاتورة الكهرباء». حيث يشغّل ASTRON ما يعرف بمصفوفة التردّد المنخفض (LOFAR) المعتمدة على مجموعات الكمبيوتر الفائقة لمعالجة البيانات، باستهلاك 2000 ميغاواط/ساعة في السنة (ما يعادل استهلاك 800 أسرة). وعندما سعت ديمبسي لتجديد عقود طاقة ASTRON هذا الصيف، صُدمت بتضاعف التكاليف ثلاث مرات عن مستويات 2021. وللحفاظ على تشغيل LOFAR، تخطط المديرة للحصول على تمويل طارئ للطاقة من الحكومة الهولندية، وإلا ستضطر لتقليص عدد الأرصاد الفلكية. وتقول: «إنها بالتأكيد أزمة وجودية إذا استمرت هذه الزيادات في الأسعار».

مثال من التشيك

تؤكد مجلة «ساينس» في مقالها المذكور، بأنّ «الخسائر العلمية المبكرة بدأت في كانون الثاني [2022]، حتى قبل حرب أوكرانيا»، عندما أعلنت شركة لوميوس لمقاولات الطاقة بجمهورية التشيك، إفلاسها، ما أجبر العديد من الجامعات والمنشآت البحثية في البلاد على شراء الطاقة بأسعار أعلى بكثير. واضطر «آي تي فور إنوفيشنز»، وهو مركز وطني للحوسبة الفائقة، إلى تشغيل أقوى حواسيبه العملاقة (المسمّى كارولينا) بثلث قدرته، ما تسبّب بتأخير أبحاث 1500 مستخدم بمجالات نمذجة المناخ واكتشاف الأدوية. كما اضطرت ELI Beamlines، وهي منشأة تشيكية تستضيف أشعة ليزر عالية الطاقة، إلى إيقاف عملياتها لبضعة أسابيع.
وبحلول أيار، وافقت الحكومة التشيكية على إنقاذ المؤسَّستين حتى نهاية 2023 فقط، تاركةً للمجهول مصيرهما بعد تلك النقطة. يخشى رومان هفيزدا، نائب مدير ELI Beamlines، من أن تعلن الحكومة حالة الطوارئ، مما سيحدّ من إمدادات الغاز التي تحتاجها المنشأة لتدفئة مبانيها. لكن الكهرباء المشغّلة لخطوط الأشعة نفسها هي مصدر القلق الأكبر؛ لأنه لو تم تقييدها ستضطر المنشأة إلى الإغلاق مرة أخرى، لمدة تصل إلى 6 أشهر، مما سيعرقل التجارب العلمية لمئات الباحثين، وغالباً لفترة أطول، إذ قال إنها «ستخسر فعلياً ليس 6 أشهر، ولكن ربما 12 شهراً، أو حتى 18 شهراً».

مثال من ألمانيا

هناك قلق مماثل في أكبر مركز لتسريع الجسيمات في ألمانيا، المسمّى DESY، والذي اشترى ما يكفي من الطاقة مسبقاً حتى 2023، لكنه قد يُحرم من استخدام هذه الإمدادات إذا فرضت الحكومة الألمانية قيوداً وطنية على الطاقة، كما يقول ويم ليمانز، قائد برامج التسريع فيه. ولذلك تستكشف المؤسسة خيارات لتشغيل أجهزتها بطاقة أقل؛ كأن تخفّض عمل «السنكروترون» (وهو مسرّع جسيمات دائري ينتج أشعة سينية لامعة لتصوير البروتينات والمواد) بحيث يولّد طاقة أقل فقط من الأشعة السينية. ومع ذلك، فإنّ المسرّعَين الخطيَّين الكبيرين في DESY، المستخدمَين لإنتاج نبضات تشبه الليزر من الأشعة السينية، سيضطرّان للتوقف تماماً إذا كانت القيود شديدة، فهما يعتمدان على وحدات تردّد لاسلكي فائقة التوصيل تحتاج لتبريد ثابت ومتعطّش للطاقة. ويؤكّد ليمانز بأنه «لا يمكن أن نقوم فقط بتشغيل بعض أجزاء الجهاز»، ويضيف بأنّ تقليل العمليات سيضرّ بأبحاث مهمّة. وأثناء الوباء، استخدمت شركة بيونتيك BioNTech لصناعة اللقاحات مرافق الأشعة السينية الخاصة بـ DESY للكشف عن بنية فيروس كوفيد وكيفية استخدامه للبروتين السطحي للالتصاق بالخلايا البشرية. ويدرس باحثون آخرون من DESY المواد المستخدمة في الألواح الشمسية والبطاريات. ويقول ليمانز «سيكون للأمر تداعيات على إبطاء الابتكارات في اللحظة التي نحتاجها فيها بشدة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1088