متى تُحلّ مشكلة الفضلات البشرية حلاًّ عادلاً للجميع؟
مجلة الطبيعة مجلة الطبيعة

متى تُحلّ مشكلة الفضلات البشرية حلاًّ عادلاً للجميع؟

«إزالة التضادّ بين المدينة والقرية ليست ممكنةً وحسب، بل غدت ضرورةً مباشرة للإنتاج الصناعي نفسه، كما للإنتاج الزراعي. وفضلاً عن ذلك فهي ضروريةٌ لاعتبارات الصحّة الاجتماعية. وعن طريق الاندماج بين المدينة والقرية فقط يمكن التخلُّص من التلوث الحاليّ للهواء والماء والتربة، وبهذا الشرط وحده تستطيع جماهير سكان المدن، وهي على سبيل الذبول الآن، من التوصُّل إلى وضعٍ يُستَخدَم فيه برازهم سماداً للنبات بدلاً من أنْ يكون مَصدراً للأمراض» - فريدريك إنجلس (ضدّ دوهرينغ 1878). بعد أكثر من قرن من هذه النبوءة، ما زالت تتطور الأبحاث المتعلقة بكيفية «إعادة تدوير» ومعالجة الفضلات البشرية الصلبة والسائلة. وفيما يلي تلخيص لإحدى المقالات العلمية الحديثة التي تتناول أحد المشروعات التجريبية للاستفادة من البول البشري لصناعة الأسمدة ولأغراض أخرى مفيدة. لكنه اقتضى التعليق لأنه بقراءته يتبين لنا أنّ الملكية الخاصة الرأسمالية والربح ما زالت هي الهواجس الأساسية وراء تطوير مشروعات كهذه، حيث ما زال 57% من سكان العالم يفتقرون إلى أنظمة مركزية للصرف الصحي!

تلخيص وتعليق: د. أسامة دليقان

يقول مقال (الطبيعة) إنه في عام 2021، تعاون فريق باحثين مع شركة محلية في السويد تختص بتأجير المراحيض المتنقلة، في مشروع مخطط لثلاث سنوات لجمع ما يزيد على 70 ألف لتر من البول، من مراحيض مُصمَّمة خصيصاً، في عدة مواقع في جزيرة غوتلاند، وتحديداً خلال موسم الصيف الذي تزدهر فيه السياحة.
ينتمي الفريق إلى الجامعة السويدية للعلوم الزراعية (SLU)، في مدينة أوبسالا. وباستخدام عمليةٍ ابتكرها الفريق ضمن جهود بحثية سابقة، يعمل الآن على تجفيف البول لتحويله إلى قوالب تشبه الخرسانة في صلابتها، ومن ثَمَّ تهشيم تلك القوالب لتتحول إلى مسحوق ترابي يمكن ضغطه ليُشكِّل كرات من السماد تتناسب مواصفاتها مع إمكانات مُعِدات الزراعة المعروفة.
ويستخدم المزارعون المحليون هذا السماد في زراعة الشعير الذي ينتهي به المطاف لدى أحد مصانع الجعة، الذي يُزمع أن يستخدمه بدوره في إنتاج هذا المشروب الذي قد يدخل بعد استهلاكه ضمن هذه الدورة من جديد.
يسعى باحثو هذا الفريق إلى أن ينتقلوا بفكرة إعادة تدوير البول «من فضاء الأفكار المجردة إلى أرض الممارسة التطبيقية»، على حد تعبير بريتفي سيمها، وهو مهندس العمليات الكيميائية في الجامعة السويدية للعلوم الزراعية، وكبير مسؤولي التكنولوجيا لدى شركة «سانيتيشَن360». ومن هذا المنطلق، يهدفون إلى طرح نموذج يقترحون على سكان بقاع العالم كافةً اتباعه.
ويأتي المشروع، الذي بدأ على جزيرة غوتلاند، ضمن موجة تجتاح العالم في جهود مماثلة تستهدف فصل البول عن باقي مكونات الصرف الصحي، ومن ثمَّ، إعادة تدويره لتحويله إلى منتجات مثل الأسمدة. وتخضع هذه الممارسة للدراسة حالياً على يد مجموعات بحثية في دول من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، الولايات المتحدة، وأستراليا، وسويسرا، وإثيوبيا، وجنوب إفريقيا. غير أن الجهود المبذولة في هذا الصدد امتدت إلى خارج المختبرات الجامعية. ففي ولاية أوريغون الأمريكية، وكذلك في هولندا، تتصل المباول، غير المزودة بنظام لشطف البول في المكاتب، بأنظمة معالجة يجري تركيبها في القبو. أمّا في باريس، فيُعتزم تركيب مراحيض مُزوَّدة بخاصية تحويل البول في مربع سكني قيد الإنشاء في الحي الرابع عشر من المدينة، يستوعب ألف شخص. وبالمِثل، من المزمع أن تنهض وكالة الفضاء الأوروبية بتركيب 80 مرحاضاً مُزوَّداً بخاصية تحويل البول في مقرها بباريس، على أن تدخل هذه المراحيض حيز الاستعمال في وقت لاحق من هذا العام.

من البول إلى السماد

البول مادة غنية بعناصر غذائية يمكن الاستعانة بها في تسميد المحاصيل، أو توظيفها في العمليات الصناعية، بدلاً من ضخها في المسطحات المائية لتُلوِّثها. ووفقاً لتقديرات سيمها، فإن كمية البول التي ينتجها البشر تكفي لتحل محل حوالي ربع كمية الأسمدة الآزوتية والفسفورية المستخدمة حول العالم حالياً. كما أن هذا البول يحتوي أيضاً على البوتاسيوم والعديد من المغذيات الدقيقة. كما أن الامتناع عن استخدام خاصية شطف المرحاض بالماء، التي تعمل على تصريف البول، قد يوفر كميات هائلة من المياه، ويخفف الضغط الواقع على أنظمة الصرف الصحي القديمة والمتهالكة بفِعل الاستخدام الزائد.

الحاجة لتغيير البنية التحتية والثقافية

كان من الضروري، أن يضع الباحثون والشركات حلولاً لعدد من مشكلات البنية التحتية كتصميم المراحيض المُزوَّدة بهذه الخاصية، وسبل معالجة البول إلى منتجات عالية القيمة... بيد أن الأمر لا ينتهي هنا. فثمة قضايا تتصل بمدى استعداد المجتمع لقبول هذا التغيير، وترتبط باختلاف درجة التحريم الثقافي لفكرة إعادة استخدام الفضلات البشرية، والأعراف الراسخة التي تحكم الأنظمة المسؤولة عن إنتاج الغذاء وإدارة الصرف الصحي الصناعي. حيث هناك مخاوف من مقاومة المستهلكين لفكرة استخدام منتوجات يدخل البول فيها، لكن دراسة استقصائية أجريت عام 2021 بمشاركة أشخاص في 16 دولة، أشارت إلى أن حوالي 80% من المشاركين في بقاع مثل فرنسا والصين وأوغندا على استعداد لتقبل فكرة تناول أطعمة يدخل البول في تسميدها.

جيل جديد من المراحيض

كان البول سلعة قيّمة في الماضي؛ استعانت به بعض المجتمعات لتسميد المحاصيل، ودباغة الجلود، وغسيل الملابس، وإنتاج البارود. واستمر ذلك حتى الفترة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت ظهور النموذج الحديث لإدارة مياه الصرف الصحي بصورة مركزية لأول مرة في إنكلترا، وانتشار هذا النموذج لاحقاً في جميع أنحاء العالم.
ويعتمد هذا النموذج على المراحيض المُزوَّدة بخاصية شطف المرحاض من الداخل بالمياه، مما يُطلِق الفضلات من البول والبراز وورق المرحاض عبر أنابيب الصرف الصحي، ومنها إلى المجارير، التي تختلط فيها هذه الفضلات مع سوائل أخرى تُخلِّفها المنازل والمصانع، بالإضافة إلى الماء الجاري المتخلف عن العواصف الممطرة. ويصل المزيج بعد ذلك إلى محطات المعالجة المركزية لتنقيته باستخدام ميكروبات محددة بعملية تستهلك طاقة كبيرة.
ولكن اللوائح المحلية وحالة محطات المعالجة المختلفة تتحكم في مدى نقاء مياه الصرف التي تُخلِّفها هذه العملية. فمن الوارد احتواء هذه المياه على كمية كبيرة من النيتروجين والعناصر الغذائية الأخرى، وبعض المُلوِّثات، رغم معالجتها. ومن ناحية أخرى، يفتقر 57% من سكان العالم إلى وجود نظام مركزي لإدارة الصرف الصحي.

(عقبتان)
بسبب ضيق الأفق الرأسمالي

يذكر مقال مجلة الطبيعة نفسه بأن المشكلة تغدو أكثر تعقيداً في المناطق الحضرية، وهي صاحبة النصيب الأكبر من إنتاج البول. ويعزو هذا التعقيد لسببين: يقول في أولهما إنه (ليس من العملي) تركيب شبكة إضافية من أنابيب الصرف الصحي تغطي جميع أنحاء مدينة ما بهدف نقل البول إلى موقع مركزي واحد، وما يقصده غالباً أنه ليس مجدياً من ناحية ضيق الأفق الرأسمالي وخاصة بالمنطق الليبرالي المعادي للتخطيط المركزي والمعول على مشاريع خاصة منفردة دون مشاريع مركزية كبرى على مستوى الدولة، وليس أن الأمر مستحيل تقنياً، أمّا السبب الثاني فيكمن في أن المكون الأساسي للبول هو الماء، وذلك بنسبة 95%، وهو ما يجعل تخزينه ونقله (مكلِّفاً للغاية) وفقاً للمقال، وهنا أيضاً نلاحظ الاعتراف بأن الرأسمالية وضيق أفقها الربحي هو العقبة. فالسببان إذاً يتعلقان بالاقتصاد-السياسي وليس بمشكلة تقنية بحتة، مما يجعل تجاوزها ممكناً في منظومة اقتصادية اجتماعية اشتراكية حديثة.

تعليق ختامي

من المرجح ألّا يتمّ تجاوز العقبات المذكورة في التشكيلة الرأسمالية المتعفنة، حتى لو استطاعت معالجة فضلات جزء من البشر، لكنها تولّد بالمقابل كثيراً من التلوث في مجالات شتى وما زالت البرجوازية المرفهة تتعامل مع أغلبية البشرية نفسها وكأنها «فضلات» تطمرهم في الفقر والبطالة والقذارة بعد أن تمتص قواهم محاولة عيش حياة خاصة «نظيفة» بعيداً عنهم.

مصدر الشق التقني من المادة:
مقال مجلة Nature في 9 آذار 2022 بعنوان:
The urine revolution: how recycling pee could help to save the world

معلومات إضافية

العدد رقم:
1067