الأساس المادّي لسَبق البابليّين باكتشاف علاقة «فيثاغورث»

الأساس المادّي لسَبق البابليّين باكتشاف علاقة «فيثاغورث»

نشرت مجلة «أسس العلم» العالمية دراسة جديدة، في 3 آب 2021، للباحث دانييل مانسفيلد عن قطعة أثرية بابلية تدعى «حجر بليمبتون 322»، والتي لطالما أثارت اهتمام علماء الرياضيات والآثار. ولا تكمن أهمية هذه الدراسة برأينا فقط في تأكيد أنّ البابليين كانوا يعرفون علاقة «فيثاغورث» في المثلث القائم الزاوية قبل فيثاغورث بألف عام (لأن هذا الأمر كان معروفاً بالفعل منذ عام 1969 على الأقل)، بل ما وجدناه أكثر إثارة للاهتمام فيها هو قيام مانسفيلد بربط اكتشاف البابليين لعلاقة «فيثاغورث» بأساس مادّي اقتصادي- اجتماعي ألا وهو ظهور الحاجة لديهم إلى تقسيم أكثر دقة للأراضي الزراعية إلى ملكيات خاصة بين الأفراد، وفضّ النزاعات الناجمة عن ذلك، في مرحلة يبدو أنّها تزامنت مع الخروج من التشكيلة المشاعية البدائية إلى عصر الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي.

في دراسته الجديدة يقتبس مانسفيلد من باحث سابق يدعى نويغيباور Neugebauer نشر دراسة عام 1969 قال فيها: «بعبارة أخرى، كان معروفاً طوال مدة الرياضيات البابلية، أنّ مجموع مربَّعَي طوَلي ضلعَي المثلث قائم الزاوية يساوي مربع طول الوتر. وبعد اكتشاف هذه الحقيقة الهندسية مرة واحدة، من الطبيعي تماماً افتراض أن جميع الأرقام الثلاثية L وB وD التي تحقق العلاقة L2=B2+D2 [مربع L يساوي مربّع B زائداً مربّع D] يمكن استخدامها كأضلاع لمثلث قائم الزاوية. علاوة على ذلك، من الطبيعي طرح السؤال: متى تحقق الأرقام الثلاثة العلاقة المذكورة أعلاه؟ وبالتالي فليس من المستغرب أن نجد علماء الرياضيات البابليين يبحثون في مشكلة نظرية الأعداد لإنتاج (أعداد فيثاغورس)».

اكتشاف القطعة

القطعة المعروفة باسم Plimpton 322 هي جزء من لوح طيني من بلاد ما بين النهرين القديمة. عام 1922 قام تاجر آثار يدعى إدغار بانكس ببيعه إلى الناشر والجامع الشهير جورج بليمبتون، الذي أودعه بدوره مع بقية مجموعته لصالح جامعة كولومبيا الأمريكية عام 1936 حيث ما زال هناك حتى اليوم. وفي عام 1945 أظهر الباحثان Neugebauer وSachs أن هذه القطعة الأثرية تحتوي على «ثلاثيات قطرية» فأصبح حجر بليمبتون أحد أكثر الأشياء الرياضية إثارة للاهتمام، والأكثر دراسة من العالم القديم. واللوح مكسور على اليسار، ويوحي موضع الكسر بأن هذا ليس سوى الجزء الأخير من نسخة أصلية أكبر.

النقوش الرياضية على الطين

يحتوي الجزء المتبقي من حجر بليمبتون على جدول بأربعة أعمدة وخمسة عشر صفاً. ويشير عنوان العمود الأول إلى أن النص يتعلق بالأقطار (ق) والأضلاع القصيرة (ض) للمستطيلات التي تحقق العلاقة: مربّع ق = مربع ض + 1. فالنص يدور حول «ثلاثيات قطرية طبيعية» (ض، 1، ق). وتحتوي عناوين العمودين الثاني والثالث على كلمة بمعنى «الجذر التربيعي»، ويمكن ترجمتها أيضاً على أنها تقول: «مربع القطر. اطرح 1 ثم يظهر مربع الضلع القصير». كما ويخبرنا عنوان العمود الثاني أنه يحتوي على نتيجة بعض العمليات الحسابية التي أجريت على الضلع القصير (ض). وبالمثل، يخبرنا عنوان العمود الثالث أنه يحوي نتيجة بعض العمليات التي تجرى على القطر (ق).

رياضيات ما بين النهرين

تم إجراء الحسابات العددية في الإدارة والهندسة ومسح الأراضي من قبل محترفين مدربين في مجتمع بلاد ما بين النهرين، يُطلق عليهم اسم «الكَتَبَة» أو ما يقابل تقريباً «المسّاحين» في أيّامنا، وقد تأسس فهمهم للرياضيات في شكل قوائم وجداول. استخدم الكتبة نظام العدّ الستِّينيّ، المستند إلى العدد 60 كأساس، وبالتالي طريقة التعبير عن الأعداد تختلف عن نظام العد العشري الشائع (الذي أساسه 10) وعن نظام العدّ الثنائي (الذي أساسه 2 ويعبر عنه بالرقمين صفر وواحد). على سبيل المثال، تمت كتابة 16 في صورة 10 متبوعاً بستة آحاد. يستدعي الرقم الفارغ 00 اهتماماً خاصاً لأنه تمت كتابته على أنه رقم لا 10 ولا 1. بمعنى آخر، يظهر الرقم الفارغ (صفر) كمسافة فارغة وقد يظهر كفجوة داخل العدد. وتختلف الأرقام العشرية اختلافاً جوهرياً عن الأرقام الستينيّة نظراً لأن الأولى يمكن أن تحتوي على أصفار بادئة وأصفار زائدة ونقطة أساس، بينما لا يمكن للأخيرة أن تحتوي على أصفار بادئة.

الأساس المادي لاكتشاف قانون أضلاع المثلث القائم

يمكن القول: إن جداول المستطيلات والمربعات هي أقدم النصوص الرياضية، ويعود تاريخها إلى فترة الأسرات المبكرة (حوالي 2600 إلى 2350 قبل الميلاد)، وتوضح هذه الجداول المبكرة للمستطيلات العلاقة البسيطة بين المحيط ومساحة السطح. وتم استخدام هذه الجداول من قبل «المسّاحين»، الكتَبَة المدرَّبين رياضياً والمتخصصين في قياس الأرض. كان المسح مهنة تحظى باحترام كبير في بلاد ما بين النهرين القديمة. ولم تكن القصبة وحبل القياس تمثّل فقط أدواتٍ يستخدمها المسَّاح بل وكانت رموزاً عامّة للعدالة يتم تصوير وجودها غالباً في أيدي الآلهة والملوك. ويحدد الإله السومري «إنكي» مصير «نيسابا» الإلهة الراعية للكَتَبَة كما في أبيات الشعر التالية:
«حبل اللازورد يتدلى من ذراعها/ عليها أن تعلن كل القوى الإلهية العظيمة/ عليها أن تحدّد الحدود وترسمها، وأن تكون كاتبة الأرض/ يأكل الآلهة ويشربونها بين يديها»
إنّ «الخطة الميدانية» أو «مخطّط الحقل» هو رسم تخطيطي للحقل وقياساته يتم إجراؤه بواسطة مسّاح. تم العثور على الخطط الميدانية من أقدم الأزمان، وتعود معظم الأمثلة المعروفة إلى فترة أور الثالثة (2000 إلى 1900 قبل الميلاد) وتتعلق بالحقول الزراعية الكبيرة التي تنتمي إلى مؤسسات، مثل: القصور أو المعابد. كان المساحون يقيسون الحقول لتقدير الحجم المتوقع للحصاد. ولتسهيل قياسه، تم تقسيم الحقل إلى أشكال، كالمستطيلات تقريباً وأشباه المنحرفات والمثلثات القائمة. ومع ذلك، فإن هذه الأشكال هي مجرد تقديرات تقريبية والمستطيلات «لم يكن لها أبداً جوانب متساوية أو زوايا قائمة حقاً». وأدرك المساحون أن خطوطهم العمودية لم تكن دقيقة تماماً، ولكن طريقة المسح هذه كانت أساسية، وأي عيب كان من الممكن أن يكون «تناقضاً مقبولاً» في ذلك الوقت. ولكن هوامش التناقض المقبول بدأت تضيق عندما أخذت ملكية الأراضي بالتحول بعيداً عن المؤسسات ونحو الأفراد. فأصبحت الدقة المساحية ذات أهمية متزايدة لتجنّب النزاعات الخاصة حول الحدود، وهذا واضح من قصيدة حول اثنين من الكَتَبة المتخاصمين، يلوم فيها الكبير منهما الصغير قائلاً له:
«اذهب لتقسيم قطعة أرض، ولا يمكنك تقسيم قطعة الأرض/ انتقل إلى تقسيم الحقل، ولا يمكنك حتى إمساك الشريط والقضيب بشكل صحيح/ الأوتاد الميدانية التي لا يمكنك وضعها؛ لا يمكنك معرفة شكلها/ حتى أنه عندما يتشاجر المظلومون فلن تكون قادراً على إحلال السلام/ لكنك تسمح للأخ بمهاجمة أخيه/ بين الكتبة، أنت (وحدك) غير صالح للطين».
ويرد عليه الكاتب الصغير أن مسحه يجلب السلام وينصف المظلومين:
«عندما أذهب لتقسيم حقل، يمكنني تقسيم القطع/ حتى عندما يتشاجر الرجال المظلومون، أهدِّئ قلوبهم.../ سيكون الأخ في سلام مع أخيه»
وهكذا، أنشأ الكتبة المسّاحون خطوطاً عمودية دقيقة من مجموعة متنوعة من ثلاثيات قطرية، وكانت تلك ذات الجوانب المنتظمة مفيدة بشكل خاص. ويفترض مؤلف الدراسة الجديدة بأنّ النقوش الرياضية على حجر «بليمبتون» ربما كانت مستوحاة من هذا الاهتمام المساحي بالمستطيلات ذات الجوانب المنتظمة، وبالتالي، وبخلاف باحثين آخرين غيره، يعتقد مانسفيلد أنّ اهتمام البابليين القدماء بالرياضيات كانت له دوافع عملية أساساً، وليس فقط تأمّلاً نظرياً ورياضياً صرفاً كما أشارت بعض الأبحاث السابقة.

المصدر: دراسة مانسفيلد بعنوان «بليمبتون 322: دراسة للمستطيلات» Plimpton 322: A Study of Rectangles في مجلة «أسس العلم» Foundations of Science بتاريخ 3 آب 2021.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1034
آخر تعديل على الأربعاء, 08 أيلول/سبتمبر 2021 23:49