غرامشي عن العلم كإيديولوجيا وتحويله إلى «أفيونٍ جديد»
شَهِد تطورُ العلوم في القرن العشرين ظاهرةً فريدة: «تقديس العِلم» و«عبادة شخصية» العلماء، لدرجة تحويل العِلم لدى غالبية الناس إلى «دينٍ جديد» بكلّ ما يرافقه من «جمود عقائدي»، كتطرِّفٍ لا يقلّ خطراً وضرراً عن قطبه الآخر «العَدمية» وإنكار أيّة ثوابت علمية، وهو أمرٌ مرفوضٌ كالأول بالطبع. لكن ما لا يُعطَى حقّه بالنقاش هو: أنّ التعصُّب «العِلميّ»، بمعنى الجمود، يبلغ أحياناً حدّ «التكفير» لمَن يتجرّأ على انتقاد «أنبيائه»، ملحقاً الضرر حتى بإنجازاتهم، ومعرقلاً تصحيح الأخطاء، وخاصةً في ظلّ محاربة الديالكتيك المادي، وسيادة المثالية.
أنطونيو غرامشي
تعريب: د. أسامة دليقان
لا شكّ أنّ أزمة العِلم الحديث ظاهرةٌ معقّدة ومتعددة العوامل، يمكن البحث عن جزءٍ مهمٍّ من تفسيرها في البنية التحتية للرأسمالية في طور تعفُّنها (الإمبريالية)، لكنّ جزءاً آخر له علاقة بالموقع الخاص للعلم كبنيانٍ فوقي، الأمر الذي ناقشه غرامشي في عدد من ملحوظاته في دفاتر السجن. نقدم في هذه المادة تعريبَ اثنتَين من ملحوظات غرامشي الأكثر صلة بالموضوع: 38 و39 من دفتر السجن رقم11، 1932–1933، والتي ليست من المصادفة أنْ كتبهما مباشرةً بعد ملاحظات انتقد فيها تفاقم أزمة التأويلات المثالية والذاتية لثورة الفيزياء الحديثة أوائل القرن العشرين، بشكلٍ يوافق تماماً انتقادات لينين الذي استبصر بدايات هذه الأزمة (المستمرة حتى اليوم) في كتابه «المادية والمذهب النقدي التجريبي» (1909).
العلم كإيديولوجيا
إنَّ اعتبارَ العِلمِ الأساسَ الذي تقوم عليه الحياة، تحويلَهُ إلى التصوُّر عن العالَم على وجه الامتياز، التصور الذي يرفع النقاب المتشكِّل من الوهم الإيديولوجي ويترك الإنسانيةَ وجهاً لوجه أمام الواقع كما يوجد فعليّاً، إنّما يعني الرجوعَ القَهْقَرى إلى المفهوم القائل بأنّ فلسفة الممارسة تحتاجُ إلى دعاماتٍ فلسفيةٍ من خارِجِها. لكن في الواقع الفعليّ، فإنّ العلمَ أيضاً هو بُنيانٌ فوقي، إيديولوجيا. ومع ذلك، ألا يُمكِنُ القولُ بأنّ في دراسةِ البُنى الفوقية، يحتلّ العلمُ مكانةً مُتمَيِّزَةً، نظراً لأنّ ردّ فعلِه على البُنيَة هو ردُّ فعلٍ من نوعٍ خاصّ، أعظمُ في امتدادِ التطوِّرِ واستمراريَّتِه، ولا سيّما منذ القرن الثامن عشر فصاعداً، عندما نالَ العِلمُ منزلتَه الخاصة من الاحترام العام؟ إنّ كونَ العِلمِ هو أيضاً بنيانٌ فوقيّ، لَهُوَ أمرٌ يتجلَّى كذلك في واقِعِ أنّه مرَّ بفتراتٍ كاملةٍ من الكسوف، محجوباً آنذاك بإيديولوجيا سائدة أخرى، هي الدِّين، الذي ادّعى أنّه امتصّ العلمَ ذاتَه؛ فعِلمُ وتكنولوجيا العَرَب ظَهَرا بالنسبة للمسيحيِّين كأنها من أعمال السِّحِر الخالص. وفضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها العلماء، فإنّ العِلمَ لا يظهر البتّة كفكرةٍ موضوعية عارية، بل يظهر دوماً في أثوابٍ من إيديولوجيا؛ وبمعنى ملموس، العلمُ هو اتحادُ الواقعة الموضوعية مع فرضيةٍ أو منظومةٍ من الفرضيات تتجاوز الواقعة الموضوعية المحضة. ومع ذلك، يبقى صحيحاً أنّه في هذا الحقل يكون من السهل نسبياً تمييز الفكرة الموضوعية عن منظومة الفرضيات بوساطة عملية التجريد الملازِمة داخلياً للمنهج العِلميّ بحد ذاته، بطريقةٍ تمكِّنُ المرءَ من امتلاكِ أحدِهِما ورفضِ الآخر. ولهذا السبب تستطيع مجموعةٌ اجتماعية أنْ تمتلك عِلمَ مجموعةٍ أخرى دون أنْ تَقبَلَ بإيديولوجيَّتها (إيديولوجيا الارتقاء المُبتَذَل، على سبيل المثال)، ولذلك فإنّ ملاحظات ميسيرولي (وسوريل)، في هذا الصدد، مُجانِبةٌ للصواب.
الجهل الشعبي حول العلم
من المُلاحَظ، أنّه إلى جانب السطحية القصوى في الافتتان بالعلوم، ثمَّة في الواقع أشدّ الجهل بالوقائع العلمية والطرائق العلمية. إنه لوَضعٌ صعبٌ ويزدادُ صعوبةً بسبب التخصُّص المتزايد لفروعٍ جديدة من البحث. إنّ الخرافة العلمية تحمل أوهاماً سخيفةً وتصوّراتٍ طفوليةً تترفَّعُ حتى الخرافةُ الدينيةُ عنْ الإتيان بمثلها. لقد ولَّدَ التقدُّمُ العلميّ إيماناً بمُخلِّصٍ جديدٍ مُنتَظرٍ كي يأتي ويقيمَ الفردوسَ على الأرض. وبأنَّ قوى الطبيعة، ومن دون أيّ تدخُّلٍ من كَدْحِ الإنسان، بل بفعلِ آليّاتٍ لا تنفكُّ تقتربُ من الكمال، سوف تمنحُ المجتمعَ وفرةً من كلِّ شيءٍ ضروريٍّ لإشباع حاجاته والعَيْشِ بيُسْر. إنّ هذا الافتتان– الإيمان السطحي المُجرَّد بقدرة البشرية الصانعة للمعجزات– قد أدّى، وللمفارقة، إلى العكس، إلى إحداث العُقم في أساسات هذه القدرة بالذات، والقضاء على كلّ شغفٍ بالعمل الملموس والضروري، لصالح الانغماس في الأوهام، كما لو أنّ المرءَ صارَ يُدخِّنُ نوعاً جديداً من الأفيون. إنّ لهذا الأمر مخاطرَ جلّيةً، ولا بدّ من مكافحته بشتّى السُّبُل، وأهمّ هذه السُّبُل هي: تحصيلُ معرفةٍ أفضلَ بأفكار العلم الأساسية من خلال ترويجِ العلمِ على أنْ يضطلعَ بذلك العلماء والدارسون الجديّون، مع كفِّ يدِ الصحافيين العارفين بكلّ شيء، وأصحاب الآراء الذاتية والتعليم الذاتي، عن القيام بذلك في هذا العالَم. وفي الواقع الفعلي، ونظراً لأنّ العلمَ يُؤمَلُ منه الكثير، يتمّ تصوُّرهُ وكأنّه شكلٌ عالٍ من أعمال السِّحر، وبسبب هذا لا يتمكَّنُ المرءُ من التقييم الواقعي لما ينبغي على العلِم أن يقدِّمَه من أشياءَ ذات طبيعةٍ ملموسة.
هوامش توضيحية
(1) مِن هامش محرِّر الطبعة الإنكليزية: كان ماريو ميسيرولي Mario Missiroli (1886–1974) صحافياً ليبرالياً بارزاً، ويسارياً متطرّفاً قبل أنْ يستسلمَ للفاشية. زعمَ أنّ العِلم «تصوُّرٌ برجوازي وامتيازٌ طبقيّ... والعلم في تأكيدهِ على موضوعية قوانينه وتوكيده على مثنوية الوجود والمعرفة، فإنّه يتمسّكُ بالنظام السلطويّ القائم» (صحيفة النظام الجديد L’Ordina Nuovo، 19 تموز 1919).
(2) هامش من المعرِّب: «فلسفة الممارسة» هي الماركسية بمصطلح غرامشي. «مذهب الارتقاء المُبتَذَل» vulgar evolutionism تسمية غرامشي لمذهبٍ انتقدَهُ في عدة مواضع من دفاتر السجن، ولا سيّما أثناء نقده لعلم الاجتماع (السوسيولوجيا) وللطريقة غير الديالكتيكية لنيكولاي بوخارين مؤلّف «الكُتَيِّب الشعبي»، أو «المادية التاريخية: نظامُ عِلمِ اجتماع» وعنوانه الفرعي بالطبعة الروسية «كتابٌ دراسيّ شعبي لعلم الاجتماع الماركسي». ففي الدفتر11، الملحوظة 25، كتب غرامشي: «تكمن الارتقائية المبتذلة في جذر علم الاجتماع، وعلم الاجتماع غير قادرٍ على معرفة المبدأ الديالكتيكي بمروره من الكمية إلى الكيفية. ولكنّ هذا المرور يثير الاضطراب في أيّ شكلٍ من الارتقاء، وفي أيّ قانونٍ للانتظام المتجانس المفهوم بمعنىً ارتقائيّ مبتَذَل». وفي موضع لاحق من الملحوظة نفسها يتابع «بالطبع لا يعني هذا بأنّ البحث عن (قوانين) الانتظام المتجانس ليسَ مسعىً مفيداً ومهمّاً، ولا أنّ دراسةَ المشاهدات المباشرة عن فنّ السياسة دراسةٌ غير هادفة. ولكنّ على المرء تسمية الأشياءَ بمسمَّياتها، وأن يسمّي الدراسات الحالية من هذا النوع بما هي عليه حقّاً». وبسياق نقده لإدوارد برنشتاين (الدفتر16، الملحوظة26) كتب غرامشي: «تحت مظهر تأويلٍ (قَويم) للديالكتيك، وخَلْفَ ادّعاء برنشتاين بأنّ الحركة هي كلّ شيء والغاية لا شيء، يختفي تصوُّرٌ ميكانيكيٌّ عن الحياة والحركة التاريخية، يَعتبِرُ قوى البشرية سلبيةً وغيرَ واعية، وعنصراً لا يختلفُ عن الأشياء المادّية؛ إنّ المفهوم الارتقائيّ المُبتَذَل، بمعناه وفق المذهب الطبيعي، يتمّ إحلالُه هنا مكانَ المفهوم الديناميكي والتطوّري». من الواضح أنّ ما ينتقده غرامشي هنا هو غياب الفهم الديالكتيكي لوَحدة وتناقض جانبَي التطوُّر (الارتقائي/التدريجي evolutionary، والثوري/عبر قفزات revolutionary).
المصادر:
Gramsci, Antonio, “Further selections from the prison notebooks”. Edited and translated by Derek Boothman. Published simultaneously by Lawrence & Wishart, London, and the University of Minnesota Press, USA, 1995 (pp. 293–295, 461, 557).
Gramsci, Antonio, “Selections from the prison notebooks”. Edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith. Published simultaneously by Lawrence & Wishart, London, and International Publishers, New York, 1971, (pp. 426–427)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 991