أجوبة أوبارين عن نشوء الحياة (اليوم وفي المستقبل)

أجوبة أوبارين عن نشوء الحياة (اليوم وفي المستقبل)

«كثيراً ما يُطرح عليَّ سؤالٌ فيما يتعلق بأصل الحياة، وهو عن إمكانية نشوء الحياة الآن، في عصرنا هذا. ثمة الكثير من الالتباس حول هذا الموضوع في الأدبيات العلمية، وخاصة في أدبيات العلوم الشعبية. ويبدو أن هذا يرجع إلى حقيقة أن المسألة نفسها تُفسَّر عادةً بأكثر الطرق تنوعاً. لذلك من المفيد النظر في جميع التنويعات المحتملة لهذا السؤال» – من خاتمة كتاب «نشأة الحياة على الأرض» للعالم السوفييتي الكبير ألكسندر أوبارين.

ألكسندر أوبارين*
تعريب: د. أسامة دليقان

كان أوبارين أبكر المساهمين بوضع نظرية علمية مفصّلة عن نشأة الحياة على كوكبنا. نقدم فيما يلي تعريب الخاتمة التي يجيب فيها عن السؤال الذي طرحه أعلاه– وفق الطبعة الثالثة من كتابه 1956 بترجمته الإنكليزية التي أشرف عليها أوبارين بنفسه (علماً بأنّ طبعته الأولى بالروسية صدرت عام 1936).

هل تنشأ الحياة الآن
في الوقت الحاضر؟

نعم، بلا شك. يجب أن تنشأ الحياة، باعتبارها أحد أشكال حركة المادة، في كل مرة تحدث فيها الظروف المناسبة لها في أي مكان في الكون. تُظهِرُ الأدلة الفلكية المعاصرة بشكل مقنع أنه حتى الآن، في أجزاء مختلفة من مجرتنا، هناك نجوم جديدة وأنظمة كوكبية جديدة. لا شك أن عملية تطور المادة في العديد من هذه الكواكب تتبع مساراً مشابهاً لما اتبعته على الأرض، وبالتالي، يجب أن تكون عملية تطور الحياة جارية عليها.

ومع ذلك، فإنَّ الأشخاص الذين طرحوا السؤال مهتمّون عادة بجانب أكثر محدودية من المسألة: ما إذا كانت الحياة تتشكل الآن على الأرض، وليس في الكون بشكل عام. هذا جانب آخر لمسألتنا، ولكن حتى عندما يتم فهمها بهذه الطريقة، فلا يزال يتعيَّن علينا تقديم إجابة إيجابية. كل يوم نلاحظ ولادة الكائنات الحية. تنشأ الكائنات الحية الآن، ولكن فقط بوساطة كائنات حية أخرى.

لا يمكن أن يحدث نشوء الكائنات الحية بهذه الوسائل إلا في مرحلة عالية جداً من تطور المادة. مع نشوء الحياة، أي: نشوء الاستقلاب [الأيْض metabolism]، نشأت مسارات تركيبية وطرق جديدة وفعالة للغاية لبناء المواد الحية. من الواضح أن هذا لا يمكن أن يحدث قبل نشوء الحياة، وبالتالي فإن تطور المادة من اللاحياة إلى المرحلة الحية قد حدث في ذلك الوقت بوسائل بطيئة للغاية ومعقَّدة كما أوضحنا سابقاً [عبر الكتاب]. في البداية، تطورت المواد العضوية على مدار مئات الملايين من السنين. ثم تم تحويلها إلى بوليمرات ذات وزن جزيئي مرتفع شكلت أنظمة فردية مفتوحة، ونتيجة للتطور الموجَّه لهذه الأنظمة ظهرت الكائنات البدائية الأولى، وهي أبسط أشكال الحياة.

ولكن ما إنْ حدث هذا، حتى أخذ نشوء الحياة من مادة غير حية يجري على نطاق هائل وبدقة هائلة، كما يمكننا أن نرى كل يوم وفي كل مكان في الوقت الحاضر.

(هل يمكن أن تنشأ حالياً حياةٌ من مادة غير حية؟)

ومع ذلك، فإن اهتمام طارحي السؤال لا يدور عادةً حول نشوء المادة الحية بوساطة الكائنات الحية (إذْ يبدو هذا عادياً جداً بالنسبة لهم)، بل ينصب اهتمامهم بالأحرى على ما إذا كانت المواد الحية يمكن أن تنشأ الآن على الأرض بشكل أوّلي، أي: مباشرة في وسط طبيعي غير حيّ. هذا هو الجانب الثالث لسؤالنا.

يعطي الكثير من الناس إجابة نظرية بحتة على هذا، مقتنعين أنه بمجرد ظهور أي شكل من أشكال حركة المادة، فلا يزال يجب أن يستمر بالظهور الآن. ومع ذلك، فإن هذا الافتراض صالح فقط للكون ككل وليس لبعض الأنظمة المحدودة المعيَّنة، مثل: الأرض. في هذه الحالة، يمكن أن تؤدي هذه الطريقة في عرض المسألة إلى استنتاجٍ غير مبرَّر تماماً.

لتوضيح هذا سأعطي المثال البسيط التالي: كان نشوء الإنسان بلا شك أحد أهم مراحل تطور المادة. هذه المرحلة قابلة للمقارنة تماماً بنشوء الحياة. إذا كان نشوء الحياة ينطوي على ظهور شكلٍ جديد لحركة المادة؛ الشكل البيولوجي، فإنّ الإنسان هو تتويجٌ لهذا التطور البيولوجي، وقد تضمنت عملية نشأته الانتقال إلى شكل أعلى من حركة المادة، هو الشكل الاجتماعي. لا نشك في أنّ الإنسان نشأ على الأرض أثناء عملية تطوّر الحياة، ولكن لا يكاد يوجد أي شخص يزعم أنّ إنساناً نشأ في الوقت الحاضر على كوكبنا بطريقة أخرى غير أنْ يُولَد من إنسانٍ آخر مثله.

دعونا نتخيل خزّاناً من الماءِ المُعقَّم والخالي من الكائنات الحية، ولكنه يحتوي مواد عضوية متنوعة مذابة في الماء. إذا تُرِك الخزان لشأنه، فإنّ عمليات تحويل المواد التي وصفناها سابقاً ستحدث فيه ببطء. أخيراً، خلال ملايين السنين، سيؤدي هذا إلى نشأة الحياة. ومع ذلك، إذا أردنا إدخال الكائنات الحية الجاهزة في خزاننا، على سبيل المثال البكتيريا، سيكون مجرى الأحداث مختلفاً تماماً؛ في هذه الحالة، سيحتلّ الشكل الأكثر تطوراً لحركة المادة موقع الصدارة ويأخذ زمام المبادرة. في الحال، ستتوقف عملية تحول المادة اللَّاحيّة إلى مادة حية عن اتباع المسارات البطيئة القديمة، وستمضي في الطريق الجديد، استناداً إلى الاستقلاب، وتحويل المواد العضوية في المحلول إلى مكونات البروتوبلازم الحيّ بسرعة هائلة. إنّ نشوء الحياة من مادة غير حية لا يمكن أن يحدث في ظل هذه الظروف. في الواقع، سيتم استبعاده تماماً، كما أشار داروين منذ فترة طويلة، وكما يمكننا بالفعل أن نرى ذلك في كل مكان في الطبيعة.

(هل يمكننا إعادة إنتاج الحياة اصطناعياً؟)

في بعض الأجزاء القصيّة من كوكبنا، والتي، لسبب ما، لا تحتوي كائنات حية، ولكن حيثما توفرت فيها الظروف المناسبة، فإنّ عملية التكوين الأوّلي للحياة قد تكون عملية جارية حتى الآن. ومع ذلك، إذا أردنا قبول هذه الإمكانية كواقع، فيجب أولاً اكتشاف العملية بالفعل أثناء حدوثها في ظل ظروف طبيعية، لكن لم ينجح أحد في القيام بذلك حتى الآن. يبدو أن النهج الأكثر عقلانية لحل مسألة نشوء الحياة هو دراسة الطرق التي يتم بها تحويل المواد غير الحية إلى مادة حية كما تتجلّى في عملية الاستقلاب. إن الدراسة التفصيلية لعمليات الاستقلاب هي ما يمكن أن تقود إلى حل مسألة إعادة إنتاج الحياة اصطناعياً. من خلال دراسة هذا الشكل الرفيع من تنظيم المادة الذي يميّز الأجسام الحية، سنكون قادرين على المضي قدماً بشكل يفوق كفاءة الطبيعة بكثير، وسنكون قادرين على تركيب الحياة بمعدل أكبر بكثير. يمكن للمرء أن يَطْمَئِن إلى أنَّ هذا الأمرَ متروكٌ للمستقبلِ غَيرِ البعيد


*ألكسندر أوبارين

عالم كيمياء حيوية وبيولوجيا سوفييتي (1894–1980)، درس المنهج المادي الديالكتيكي وتأثر بعمل إنجلس «ديالكتيك الطبيعة»، كما يتضح من كثرة اقتباساته عنه في كتابه «نشأة الحياة على الأرض». كان أوبارين أوّل مَن افترض إمكانية نشوء الحياة العضوية من المكونات الكيميائية البسيطة لغلاف الأرض البدائي (منذ 1924 وقبل 5 سنوات من اقتراح العالم الشيوعي البريطاني جون هالدن فرضية مماثلة أيضاً). تأثر أوبارين بالانتقادات الفلسفية والعلمية التي وجهها إنجلس إلى فرضيات معاصريه من العلماء، مثل: ليبيغ الألماني، أحد مؤسسي علم الكيمياء العضوية، ولكن «هاوٍ سطحي في البيولوجيا» حسب وصف إنجلس، ولا سيّما في فرضيته غير العلمية عن «أزلية الحياة». عام 1953 اختبر الكيميائيان الأمريكيان هارولد أوري وستانلي ميلر فرضية أوبارين، عبر مزج بخار الماء مع غازات الميثان والنشادر والهيدروجين (أي: المكونات التي افترض أوبارين وجودها في غلاف جو الأرض ومحيطاتها قبل الحياة) وصعقا المزيج بشحنات كهربائية (تحاكي الصواعق البدائية). وبعد أسبوع اكتشفا تشكُّلَ جزيئات عضوية بسيطة تضمّنت حموضاً أمينية (حجارة البناء الرئيسة للبروتينات التي هي مادة الحياة الأساسية).

معلومات إضافية

العدد رقم:
992