إفساد الرأسمالية للعلوم والباحثين
الرأسمالية تسّلع كل شيء، الإنسان والعلوم والطبيعة والعلاقات... وفي المرحلة الراهنة يظهر التسليع دون حاجة إلى كشفه تحت طبقات الخداع والوهم، فالتناقض الذي يعيشه المجتمع من تراجع المستوى المعيشي من جهة، ومن جهة أخرى التهميش المرتفع والليبرالية في الممارسة والثقافة والعيش في مرحلة فقدان الأفق، أمام القوى المتضررة بعد مرحلة حرب شاملة ضد مشروع بناء عالم بديل، مضافاً إلى ذلك تعميم منطق الرشوة والفساد المنظم، كل ذلك يفرّغ العلاقات الاجتماعية كلها من محتواها الإنساني المنتج، ويرفع من مكانة مشروع الكسب الفردي ومنطق الغاية تبرر كل سلوك والأنانية الطاغية.
والميدان العلمي اليوم، وتماشياً مع هذا الانهيار الحضاري، يُفصح عن ذلك ليس فقط من خلال محاربة تطور العلوم، وخصوصاً التكنولوجيا الذكية، ورسم حدود توظيف التمويل واتجاهات البحث واستغلاله في الحرب والكسب التجاري، وتدمير الطبيعة وتسميمها، بل إنّ ميدان البحث والتعليم يقدمان نموذجاً من الارتزاق والفضائح الأخلاقية والمالية، حيث لم يعد من الممكن إخفاؤها وصارت تحكم الطابع العام لميدان البحوث والتعليم، إلى أنه تقوم في الدول الغربية خاصة حملات وتجمعات تنادي بوقف الانهيار الذي يشهده مستوى البحث، وانحكامه بشكل مباشر لمنطق السوق والربح المادي، ما يعني: أن القيم المنتجة التي تحكم العلم لناحية المصداقية والتوظيف التقدمي والبحث عن الحقيقة كلها تنقلب إلى ضدها.
آخر هذه الفضائح نذكر منها: موضوع نشر الأسبوع الفائت على صفحة علوم العالمية، الذي طال البحوث العيادية والطبية في أوروبا، تحت عنوان «الجامعات أسوأ من شركات العقاقير في التبليغ عن نتائج التجارب» وفيه: أن كل تسع جامعات من أصل عشر لا تبلغ عن كل نتائج تجاربها العيادية خلال المهلة الرسمية بناء على المبادئ التوجيهية في الاتحاد الأوروبي، الخاصة بمهل النشر، التي هي سنة من تاريخ تسجيل نهاية التجربة. حيث قام فريق من مختبر المعطيات الطبية المستندة إلى الدلائل في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة بمراجعة 31 ألف و821 تجربة منذ العام 2004 وتبين أن 7274 تجربة تم الالتزام بالتبليغ عن نتائجها وتبيّن أن 11 بالمئة فقط من التجارب التي قامت بها الجامعات التزمت بالمهلة المذكورة، أما تجارب الشركات الملتزمة فكانت 68%.
وتم تأسيس موقع خاص(eu.trialstracker.net) بمتابعة هذه القضية من قبل حملة «كل التجارب» AllTrials campain التي تطالب بنشر نتائج كل التجارب، وقال القائمون عليها: إن المسألة ليست فقط قضية مسألة فردية بعدم التبليغ، بل هي مسألة غياب القواعد الملزمة في هذا الخصوص، والتي لا تخضع المخل بها إلى أية عقوبة، وعزوها أيضاً إلى الفوضى في كيفية حركة الباحثين حسب حركة سوق العمل ضمن الميدان البحثي، ومن أسوأ الجامعات التي تضمنتها اللائحة كانت مستشفى جامعة شاريتي في برلين، ومستشفى جامعة لودفينغ- ماكسيميليان في ميونخ في ألمانيا، وكذلك معهد كاروليسنكا في ستوكهولم- السويد. هذا التهرب من النشر قد يكون غالباً لإخفاء النتائج التي توصل إليها البحث، التي قد تتعارض مع الممولين وأهداف الشركات التي تقوم بالبحوث، ويقترح القائمون على الحملة: وضع قيود صارمة على مسائل التمويل والنشر والمراقبة والتبليغ، ووضع عقوبات على غير الملتزمين.
أما التقرير الآخر المنشور ذات الأسبوع، فهو: حول قضية التضخّم في حجم المنشورات العلمية للباحثين لحد يصل معه عدد الأوراق المنشورة إلى 70 ورقة في السنة أي: بمعدل 6 أوراق شهرياً تقريباً وهو رقم كبير جداً باعتبار أن البحث الجدي المتضمن لنتائج وأفكار حديثة يحتاج إلى فترات لا تعبر عنها النسب أعلاه، والمقال المنشور تحت عنوان «بعض الباحثين ينشرون أكثر من 70 ورقة في السنة، هاكم لماذا وكيف يقومون بذلك» هي مقابلة مع جون لوانّيديس وهو إحصائي في جامعة ستانفورد في بالتو آلتو- كاليفورنيا والذي تساءل: ما إذا كان هناك تلاعب من قبل هؤلاء الباحثين، حيث إن مراجعة ترتيب 265 كاتب من عام 2000 حتى عام 2016 تبين أن ترتيبهم ارتقى 2،5 ضعفين ونصف منذ عام 2001.
ويعزو لوانّيديس صاحب المقابلة إلى أن الأسباب هي: سيادة معيار كمية المنشورات في الميدان البحثي لناحية الحصول على التمويل، أو الشهرة، أو الراتب والتوظيف، ما يؤدي إلى سيادة منطق الهيمنة في النهاية، وهو منطق الاحتكار ذاته الذي يسود في العام الرأسمالي من قبل الشركات الكبرى، والتي تغلق أي أفق أمام ظهور أي لاعب جديد في الميدان، وهذا ما يدفع بعض الحيتان البحثيين إلى تحولهم إلى «نجوم» يتحكمون باتجاه الميدان كلّه. وهناك أسباب أخرى هي: أنّ ازدياد الأوراق البحثية ينال عليها الناشر عوائد مالية أكثر من الرواتب التي ينالونها. واعتبر لوانّيديس أن ذلك يهدد نوعية البحث وجديته وخصوصاً، أن هذا الارتفاع بكمية الأوراق يتم عبر تسجيل اسم الكاتب دون أن يشارك في الورقة المنشورة. إذاً هو نوع من التخادم من قبل الباحثين نفسهم لرفع تصنيفات بعضهم.
التقريران المذكوران دليل آخر على إفساد الرأسمالية للعلوم بشكل مباشر، حتى لو أن كُتّاب التقارير لا يشيرون إلى النظام الرأسمالي نفسه، بل إلى قضايا «إدارية وقانونية» غير صالحة!