الهروب والتسليم أم المواجهة
إلى أي حد تشكل المواقف في حياتنا مصدراً للقلق؟ وإلى أي حدٍ قد تكون المواقف مصدراً للتفكير الدائم في كونها الموقف الصحيح أم الخاطئ؟ وهل جميع المواقف التي نتخذها هي مواقف بالمعنى التي تقرر مصير حياتنا، ومصير علاقتنا بالمحيطين بنا؟
يخلص الباحث في العلوم العصبية Moran Cerf إلى أنه، أهم موقف ممكن أن نتخذه هو: حول من يجب أن نحيط أنفسنا بهم، وبالتالي تقليص المواقف التي نتخذها في يومياتنا إلى الوجود مع أشخاص، تساعدنا على عدم اتخاذ الموقف بشكل فردي والتفكير به (كموقف) بل على التماثل بمن يأخذ الموقف، هذا لكون_ وبحسب الكاتب_ إن المواقف اليومية وتلك السهلة والصعبة منها، هي مصدر أساسي للقلق وتستنفذ الكثير من الطاقة لكي تتخذ. وبحسب المقال الذي نشر في مجلة business insider إن علاقاتنا الاجتماعية تؤثر على طريقة تفكيرنا التي تحولها إلى طريقة تفكير مشابهة مع من نتعاطى معهم بشكل يومي، وهذا قد يقلل الطاقة التي نصرفها على اتخاذ المواقف، لذلك إذا أردنا التقليل من هذه الطاقة، علينا أن نتخذ إجراءات تضعنا بين أشخاص نتجانس معهم في الأمور اليومية، وتسمح لنا بتوفير هذه الطاقة للمواقف الأصعب في الحياة.
تغليف العقل البشري
في أطرٍ ضيقة
المواقف التي يتحدث عنها الكاتب، لا تتعدى تلك التي تصبح تلقائية في حياتنا اليومية، ماذا سنأكل اليوم، إلى أين سنخرج، ما الذي سنفعله في وقت فراغنا، ومواقف تشبه هذه في بساطتها، ويعتبر أن هذه المواقف تشكل قلقاً وتتستنفذ طاقةً من جسدنا لكي نأخذها. ولا يتحدث الكاتب هنا عن كوننا لا يمكننا العيش خارج الإطار الاجتماعي، وخارج علاقاتنا مع غيرنا، وحاجتنا إلى تبادل المواقف والآراء مع غيرنا، لكونه مرتبطاً بتطور وعينا وإدراكنا. ولا يعتبر أنه من الطبيعي والبدهي، أننا يجب أن نحيطَ أنفسنا بمن يؤمن لنا راحة (بناءً على عمل مشترك وإنتاج جماعي) في الحياة اليومية، وأن هذه العلاقة متبادلة بيننا وبين الآخرين. وهنا يقوم العلم السائد بتأطير نفسه خارج سياق الحياة، وخارج قلق الأفراد المبني على مشاكل حياتية حقيقية، بل يغلف نفسه في إطارٍ ضيقٍ من تبسيط تطور البشر ليصيروا أفراداً ناضجين قادرين على حلّ المشاكل(الكبرى والمصيرية) ولكنه يبسط مصدر القلق الذي يأتي من ضرورة اتخاذهم مواقف تحدد مصيرهم في الحياة لدرجة، أن ماذا سنأكل اليوم، يشكل قلقاً، أو يجب أن نعتبره موقفاً (يماثل المواقف الوجودية مثلاً!).
السذاجة التي يغلف فيها العلم السائد حياتنا اليومية، تقود وعينا إلى سذاجة مطلقة في المواقف الصعبة (الصراعية أساساً). وبالتالي تصبح أسئلة: أين وماذا سنأكل اليوم هي محددة لمسار حياتنا، ومحددة لأي نوع من الأفراد نحن. لا ينفي هذا بالطبع أن الأمور البسيطة في الحياة تعبر عن مدى مرونة شخصيتنا، ومرونة الحياة التي نتخذها والتي هي نتيجة صقل وتطور وعينا وإدراكنا، ولكنها ليست جوهر المسألة.
انعكاس تغليف العقل البشري
تتكاثر المطالبة بالحقوق الفردية أو الذاتية للأفرد، والتي تأتي من الطريق المسدود الذي وصل إليه العلم السائد في تفسير حياتنا اليومية، وتفسير مصدر اضطرابنا. فيقوم بتبرير هذا القلق بأمور بسيطة يومية، ووضع حلول خارج الإطار العلائقي الاجتماعي، الذي يساعدنا على تقليل القلق. فمثلاً: الحديث المتكاثر عن ضرورة أن نأخذ خياراتنا بأنفسنا من دون التقيد بالأطر الاجتماعية، أو من دون التقيد بالضغط (الهروب بالمعنى الصريح) الذي يتسبب به النظام الاجتماعي، والذي لا يتعدى الحديث عن أمور حياتية بسيطة لا تشكل أي فرق، مقارنة مع الأمور الحياتية المعقدة، والتي ستغير مجرى حياتنا (الدور والمصير والاستغلال والحرية والتطور...). وهنا نعود إلى ذاتية المواقف في الحياة، ومنها: ما الذي يشكل فارقاً في حياتنا، وما الذي لا يشكل فارقاً؟ بالطبع وللتبسيط هنا: ماذا سنأكل يمكن له أن يشكل فارقاً في حال كانت إمكاناتنا ومصادرنا قليلة، لدرجة أنها تشكل ضغطاً على حاجة أساسية لنا كالغذاء. ولكن هذه الحاجة والمشكلة لن تُحَل إذا قلنا: إننا سنأكل أي شيء سيقرره شخص آخر لنا، لكون المشكلة هنا هي ليست في أي من الخيارات سنختار بل أي منها يَسمح لنا وضعنا المادي بأن نختاره.
إذاً، إن تحويل المشاكل اليومية الناتجة عن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد إلى مواقف فردية حلها في بساطة التماثل مع شخص آخر، هو تسخيف لقدرة البشر على التفكير، وماذا يعني ضرورة أن نتخذ موقفاً. هذا ما لا يمكن للعلم السائد أن يعترف به، لكونه لا يرى أن مسار الحياة لا يرتبط فقط بالفرد بذاته (وخياراته) بل يرتبط أيضاً بالمحيط (النظام السياسي القائم) الذي يعيش به، ومدى تأثير هذا المحيط عليه.
المحاولات الدائمة إلى عزل العقل البشري، والقدرة البشرية، على خوض تجارب (تناقضات ومشاكل) والتطور من خلالها وتخطيها، هو ما يقوم به العلم السائد، لكي يسيطر على هذا العقل، ولا يسمح له بالانفلات من المحدودية التي وضعت له، إلى إطار أوسع حرٍّ. فحتى لو كانت بعض المواقف بسيطة لدرجة أنها لا تعتبر مواقف محددة للمصير، ولكنها بانفصالها عن الواقع، تبقينا في إطارٍ ضيق من معرفة العلاقات، حيث إن كسرها من محدوديتها إلى اتساع أفقها وإمكاناتها، يحدد تطور إدراكنا ورفضنا التعليب في حدودٍ مصطنعة، ولا يبقينا ككائناتٍ تخاف من المواجهة، بل إلى ذوات فاعلة ومصارعة من أجل تخطي الأزمات لا الهروب منها.