العِلم والعُمّال، علاقة حريّة
محمد المعوش محمد المعوش

العِلم والعُمّال، علاقة حريّة

للعِلم دور أساس في تطوير المجتمعات، إن كان في تطوير أدوات الإنتاج المادي، علوم الطبيعة والكون عامّة، أو في دراسة جوانب الحياة الاجتماعية كافةً والكشف عن قوانين ظواهرها. وهو ما يعود على المجتمع بالانتقال إلى نمط حياة أكثر تقدماً (طبعاً في مجتمع نقيض لنمط الإمبريالية التدميرية الرّاهن المتعارض مع كل تقدُّم وحياة).

والنتيجة المباشرة لدور العلوم على حياة القوى الاجتماعية العاملة (حُكماّ_ حيث قوى الرّيع والاستغلال عامة تغيب في مجتمع نقيض للرأسمالية) تّتوسّطُها مراحل زمنيّة عمليّة تطول أو تقصر حسب الميدان الذي يجري فيه التطور العلمي المحَدَّد كتطور الإنتاج، وزيادة الخيرات، وغيرها من التطبيقات العملية لنتائج للعلوم (الطب، النقل، الاتصالات...).
طرقٌ أكثر تلامُساً بين العلوم وحياة القوى الاجتماعية المُنتجة؟
في ظل الرأسمالية يمكن القول وبشكل عام: إن العلم السائد خادم للنهب والتدمير الإمبريالي، والذي بدوره يتعارض نظرياً وتطبيقياً مع الإنسان والطبيعة، والمواد المنشورة على صفحات «قاسيون» تشير بشكل مستمر إلى أمثلة عن النتيجة التدميرية -الاستغلالية للعلم السائد.
هذه الخدمة «العلميّة» تتناقض مع حياة القوى العاملة ليس فقط بالمعنى العام للعلاقة الاستغلالية، بل حتى في العملية الملموسة لنهب فائض القيمة، أي: عمليّة العمل نفسها كوجود للعامل.
وهذا ليس بجديد، ولكن هذا التّمهيد هو مدخل يمكن أن يشير إلى بند محدد على جدول أعمال وبرامج أحزاب التغيير الجذري في دُولنا.
علم «بيئة العمل» أو «هندسة العَمل» (Ergonomics)  
علم بيئة العمل أو هندسة العمل (الإنتاج المادي نفسه) هو حقل واسع الانتشار عالمياً وخصوصاً في المجتمعات الصناعية التي تتعقد فيها بيئة العمل، والتي تبتغي مردوداً ربحيّاً عالياً ولتقليل الحوادث التي قد تشكل عرقلة لخط الإنتاج (وليس كما يدّعون زوراً أنهم مهتمون بحياة العامل كرأسماليين).
هذا القطاع عامة ضعيف أو شبه غائب في المجتمعات التي يغلب عليها اقتصاد الريع أساساً، أو حتى في القطاعات الريعية ضمن مجتمعات تعتمد على التصنيع بنسب وازنة.
وللتكثيف، فإن علم_ هندسة «بيئة العمل» هو: دراسة متطلبات وظروف وشروط وخطوات وأهداف عملية العمل الملموسة (مهمات العمل) من أجل الخروج بتنظيم عملية «أعلى إنتاجية» (ربحية) وأقل مشاكل وحوادث، وأسرع وأكثر «سهولة» ووضوحاً للعُمّال. وتطور هذا المجال خصوصاً بعد دخول التكنولوجيا الحديثة في عملية العمل، وهو ما أضاف مهاماً من مستوى نوعي جديد، إلى بيئة العمل.

التناقض مجدداً
ككل حقل علمي يحضر التّناقض الفكري هنا ما بين التيار الماركسي، والتيارات البورجوازية عامة. فحيث إن العلم الرأسمالي يقوم على دعم (التّعمية عن) مبدأ الاستغلال أساساً فهو في موقفه من بيئة العمل (الإنتاج) في تناقض موضوعي مع ما يدّعيه أنه يطمح إلى «إزالة الصّعوبات» من أمام مهمّات العامل.
التناقض الموضوعي هذا عبّر عنه عدّة علماء اشتراكيين، في أن هندسة بيئة العمل التي تعتمد على علم العمل نفسه وعلم النفس التطبيقي، وغيرها كالميكانيك وعلم الحركة (Kinetics) بمعزل عن نقاش نمط الإنتاج نفسه، تهدف إلى تثبيت الاستغلال أساساً كونها لا تكشف جوهر التناقض والأزمة في عملية العمل ككل، ليس فقط كتناقضات عملية «إجرائية» كاستيعاب أداة العمل، أو عدم وضوح خطوات وخيارات مهمة العمل مثلاً.

نظرية النشاط مجدداً
عدة مقالات سابقة عرضت «نظرية النشاط» (التاريخية-الثقافية، فيغوتسكي، ليونتييف...في الاتحاد السوفياتي)، وفيها: أن نشاط الإنسان هو شامل كلي لا يمكن تجزيئه. وهو نظام تلتحم فيه حاجات الإنسان ورغباته وأهدافه ومشاعره، وشروط النشاط والعلاقة بين الأشياء التي يقع فعل الإنسان عليها، والعلاقة ما بين البشر في عملية النشاط وظروف نشاطهم.
هكذا، وباعتبارها، ولأن النشاط الإنساني ككلٍ، محكوم بتناقضٍ أساسٍ في الرأسمالية، القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج والتقسيم العالي للعمل، وتغرب العامل عن منتوج عمله، فلا يمكن حل التناقض الداخلي للنشاط_ الذي هو بجوهره إنتاج الحياة المادية ككل، إلا من خلال كسر التناقض الأساس نفسه (اشتراكياً عبر الملكية العامة لوسائل الإنتاج) مهما جزأنا هذا النشاط إلى مهامٍ أو ميادين فرعية.
هكذا، ومهما تم تنظيم عملية العمل، يبقى التناقض قائماً ما بين الدوافع والحاجات والرغبات الإنسانية، وبين عملية العمل التي تُخضِع الإنسان لها لا العكس، والتي يعاد تنظيمها بكسر الاستغلال، حيث ينحلُّ التناقض بين الحاجات والرغبات والدوافع والأهداف الإنسانية، وبين شروطها وعلاقاتها وظروفها وغاياتها (توسع في هذا البحث العلماء السوفييت في تطويرهم لبيئة العمل على أرضية اشتراكية).
وينشط في المجال حالياً الباحث يرجو انغستروم (Yrjö Engeström) في معهد «النشاط» في جامعة هيلسنكي(فنلندا) حيث يُصَنّف من «الجيل الثالث» في نظرية «النشاط»، كصاحب نظرية «التعلُّم التوسعي»، والمستخدمة أبحاثه في التربية والتدريب والتعليم، وتنظيم عملية العمل مثالاً.
كون جدول أعمال أحزاب التغيير الجذري، يضع حلاً للتناقض الأساس في عملية النشاط، فهذا يتضمن بالضرورة إذاً مجمل طرح تطوير بيئة العمل وتنظيمها علمياً أمام العُمال (جسدياً وذهنياً)، خصوصاً في تعقدها. بل هو يضع هذا الطّرح على سكّته الصحيحة، في تماسّ الإنسان في جوهر وجوده ككائن منتج مع ميدانٍ علمي يطال هذا الجوهر ويلامسه في تحققه. 

معلومات إضافية

العدد رقم:
833