الكشف عن سبب جديد لاختفاء الإمبراطورية الآشورية
لم تنهر الإمبراطورية الآشورية فقط بسبب العدوان الخارجي وبسبب الحروب الأهلية المستمرة والاضطرابات الدائمة، ولكنها انهارت بسبب الظروف غير الملائمة والتغيرات المناخية المفاجئة، حيث تسبّب الجفاف والحرارة الكبيرة بمجاعةٍ في مدن الإمبراطورية المزدحمة، فضلا عن زعزعة قوّتها العسكرية.
هذه كانت استنتاجات المؤرخين الأمريكيين والأتراك الذين قاموا بتحليل المعلومات التي نعرفها من الحياة اليومية لأول إمبراطورية عظمى في بداية العصر الحديدي، علماً أن نتائج هذه الدراسات تم نشرها في مجلة «Climatic Change ».
نشأت الإمبراطورية الآشورية في وقت واحد تقريباً مع نشوء دول أخرى من بلاد ما بين النهرين، لكنها وحتى بداية القرن العاشر قبل الميلاد بقيت في ظل دولة بابل وغيرها من القوى العظمى الأخرى في تلك الحقبة. في هذه الأثناء وبفضل عدم الاستقرار العام في المنطقة والغارات والهجرة الجماعية للشعوب، ضعفت جميع دول ما بين النهرين والبحر المتوسط بشكل ملحوظ. لكن الحكام الآشوريين الذين حافظوا على سلامة أراضيهم استغلوا نافذة الضعف هذه لإنشاء أكبر قوة عسكرية .
كانت الإمبراطورية الآشورية الثانية قد سيطرت على منطقة الشرق الأدنى منذ عام 910، وحتى عام 610 قبل الميلاد وفي أوائل القرن السابع قبل الميلاد أصبحت واحدة من أولى الإمبراطوريات العالمية، فقد كانت دولة متعددة الأعراق تتألف من العديد من الشعوب والقبائل المختلفة، لكن زوالها السريع حير العلماء وعزوا ذلك إلى الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية، وتدمير العاصمة نينوى من ائتلاف الميديين والبابليين عام 612 قبل الميلاد
انهيار الإمبراطورية الآشورية
شكك كل من آدم شنايدر من جامعة كاليفورنيا وزميله البروفيسور سليم عدلي من مركز أبحاث جامعة كوتش للحضارات في اسطنبول ، بحقيقة أن انهيار الإمبراطورية الآشورية كان فقط لأسباب سياسية. فقد لفت هؤلاء الاهتمام إلى السجلات المنقوشة على ألواح الطين في السنوات الأخيرة من حياة الإمبراطورية، حيث تحدث مؤلفوها عن السنوات العجاف عندما لم يتمكن المزارعون في المناطق النائية من بلاد آشور من جمع المحاصيل على الإطلاق.
وبالتالي، فإن مثل هذه الأحداث من حياة أهم قوة عسكرية في ذلك الوقت، أجبرت العلماء على لفت الانتباه إلى حقيقة كيف كانت الزراعة مبنية في الإمبراطورية، وكيف عاش ونما سكانها. ولم يقتصر الباحثون على السجلات والمخطوطات التاريخية لتلك الحقبة التي كانت موجودة في المناطق الآشورية وخارجها، ولكن أيضاً على وقائع مختلفة من تاريخ مناخها. إذ تم جمع المعطيات بواسطة الأقمار الاصطناعية، وتم تحليل عينات من الصخور والماء والأجزاء الأخرى من الطبيعة المحيطة.
حياة التحضر المتطورة
وكما يؤكد شنايدر وعدلي، فإن الميزة الأساسية للحضارة الآشورية كانت تكمن في حياة التحضر المتطورة، إذ أن حياة سكان المناطق الآشورية كانت متركزة حول المدن التي شهدت كثافة سكانية أعلى بكثير من جميع دول بلاد ما بين النهرين الأخرى.
وكان المصدر الغذائي الرئيسي للمواطنين يأتي من خلال الأراضي شبه الصحراوية القاحلة، التي لم تكن صالحة لزراعة الحبوب والمحاصيل الأخرى التي تحتاج إلى ري مستمر. مع الإشارة إلى أن هذه الأراضي تعاني في عصرنا الحالي بصفة دورية من الجفاف والذي يستمر لأربع إلى خمس سنوات. وفي هذه الفترات ينخفض مستوى المحاصيل بشكل حاد، مما يسبب مشاكل إنسانية على الأراضي العراقية التي تعتبر مركزاً للإمبراطورية الآشورية الغابرة.
البيانات المناخية
وكما تظهر البيانات المناخية، فإن الوضع كان مختلفاً تماماً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل الميلاد، إذ أن مناخ هذه المناطق كان أكثر لطفاً، ومستوى هطول الأمطار كان أعلى من ذلك بكثير. وفي حال حدوث جفاف فكان لفترة قصيرة نسبياً، ونادراً ما كان يستمر إلى أكثر من عام، علماً أن المؤرخين يذكرون كثيراً في كتاباتهم عن الفيضانات والأمطار الكثيفة المواتية لمواسم الحصاد.
وفي بداية القرن السابع قبل الميلاد تغير الوضع بشكل كبير، فقد أصبح المناخ في المناطق الآشورية جافاً بشكل تدريجي حتى منتصف القرن، عندما بدأت المنطقة تعاني من جفاف كامل. ووفقاً لما كتبه المنجم والكاهن أكولان، في إحدى رسائله إلى الملك آشور بانابال وهو آخر إمبراطور آشوري، فإنه لم يكن لدى المزارعين، في عام 657 ق.م، محاصيل على الإطلاق بسبب انعدام كامل تقريباً للأمطار.
الزراعة الجافة
وهذه المشكلة لم يكن لها أن تكتسب خطورة كبيرة لو أن اقتصاد الإمبراطورية لم يكن يعتمد آنذاك على الزراعة. إذ أن جميع المدن الآشورية كانت تعيش، قبل الفترة الانتقالية في القرن العاشر، بفضل ما يسمى بالزراعة الجافة، والحديث يدور عن زراعة الحبوب والمحاصيل الأخرى بدون استخدام أنظمة الري، حيث كانت الأمطار مصدر المياه الوحيد لهذه المزارع، وهذا حدّ من حجم القرى الآشورية، إذ أن مثل هذه الحقول بإمكانها أن تطعم عددا قليلا فقط من المواطنين.
ومع الانتقال إلى الإمبراطورية تغير الوضع، إذ أنه بعد كل حملة ناجحة، قام ملك آشور سنحريب بإعادة توطين إجباري من سكان المناطق التي تم غزوها في المناطق الوسطى للدولة، وبسبب ذلك ازداد حجم كثافة السكان بشكل كبير في القرنين الأولين من وجود الإمبراطورية. وبالإضافة إلى ذلك كان معظم الملوك الآشوريين يعملون على بناء المدن، وبالتالي كانوا ينهجون سياسة التوسع الحضاري.
ونتيجة لذلك أصبحت العاصمة الإمبراطورية نينوى أضخم مدينة في تلك الحقبة مع توسيع مساحتها من 150 وحتى 750 هكتارا. إلا أن الجزء الكبير من المستوطنات الجديدة في نينوى وفي مدن آشورية أخرى كانت مبنية على أراضي الحقول الخصبة، وهذا ما سبب في نقص مزمن في الموارد الغذائية.
دروس الماضي
وختم الدراسة قائلاً: «يمكن فهم سبب تركيز اهتمام الإمبراطورية الآشورية على الأهداف السياسية والاقتصادية القصيرة الأجل، وعدم الاهتمام بالمخاطر المناخية المتزايدة. ويمكن أيضاً أن نغفر لها ذلك إلى حد ما، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى تطورها العلمي وفهم كيفية تطور الطبيعة. أما بالنسبة لنا، فإن مثل قصر النظر هذا، لهو أمر لا يغفر له، إذ أنه لا يمكن أن يكون هناك أعذار، خاصة وأننا نعرف ما حدث في الماضي. فدروسه تظهر لنا، بشكل واضح، ما الذي يحدث عندما لا يأخذ الساسة بعين الاعتبار مشاكل وتحديات التنمية المستدامة على المدى الطويل.
«داعش» و«إسرائيل» وآشور
وقد ترجمت بعض المواقع هذه المقالة بطريقة تفتقر للحد الأدنى من الأمانة العلمية وأدخلت إليها في نوع من إسقاط غير ذي معنىً، أن تردي مستوى الحياة، أجبر الناس على البحث عن خلاص من خلال السياسة والدين، عبر تشكيل خلايا تنظيم «الدولة الإسلامية» والجماعات المتطرفة الأخرى، في نوع من إقحام يحاول تبرير وجود أو ظهور ما يسمى «داعش» في المنطقة ذاتها التي تتكلم عنها الدراسة، كما أدخلت دولة إسرائيل وعيلام، والسياسة العسكرية العدوانية لدولة آشور في نوع من التشويه المتعمد للدراسة والواقع والتاريخ باسم نقل الدراسات الحديثة.