الزراعة الحافظة.. اسألوا الطبيعة!

الزراعة الحافظة.. اسألوا الطبيعة!

(الأرض متعبة،  لم تعد طيبة كالسابق) تتردد هذه المقولة على ألسنة المزارعين لدى زيارة الخبراء لحقولهم، متذمرين من تراجع إنتاجية الأرض بين اليوم والأمس. إجابة تحمل الكثير من العمق، وسواء أكانت مصادفة أم عن وعي منهم، فقد أصابوا كبد الحقيقة..فما الذي أتعب الأرض

الزراعة الحافظة

لا لفلاحة الأرض، فلنحاك الطبيعة..

لئن كانت وظيفة العلم هي النفاذ من سطح الظاهرة إلى جوهرها، فلابد للمشتغلين في العلوم الزراعية من تجاوز الرائج من الأفكار الاستهلاكية التي تعالج ضعف الإنتاجية بزيادة مدخلات الإنتاج، فقد يكون الحل على النقيض من ذلك.. وهذا بالذات ما تقترحه الزراعة الحافظة، وهي ليست مفهوماً جديداً على مستوى العالم، إلا أن انتشارها يعتبر بطيئاً نسبياً مقارنة بالنتائج التي أثبتتها في كثير من دول العالم التي تبنتها كبديل للزراعة التقليدية. في سورية لم يبدأ تجريبها إلا منذ سنوات خمس، وكذلك، كانت النتائج مبشرة.

يُعد  نظام الزراعة الحافظة بمنزلة النظام الزراعي البديل، الذي يعتمد في جوهره على ثلاثة أسس رئيسة، فإضافة إلى التوقف عن فلاحة التربة، أو فلاحتها بالحد الأدنى، لابد من التغطية المستمرة لسطح التربة بالبقايا النباتية لمحصول الموسم السابق، أوزراعة محاصيل التغطية الخضراء بين الأشجار المثمرة، وتطبيق الدورة الزراعية المناسبة.

وتتم الزراعة بدون حراث ببذر الأرض والتسميد باستخدام بذارة خاصة، تقوم بالمهمتين معاً، من خلال إحداث شق صغير في التربة ووضع البذار على أعماق متجانسة إلى جانب كميات دقيقة من السماد بالقرب من البذرة مباشرة، بحيث تكون متاحة لها، دون أي ضياع.

بدأ أجدادنا بفلاحة الأرض على عمق 10-15 سم، بهدف تمهيدها وتهويتها وللقضاء على الأعشاب الضارة، ومع انتشار الجرارات الزراعية بالغ المزارعون بفلاحة الأرض فحرثوا على أعماق تصل حتى متر، وبالفعل كانت الحراثة تعطي زيادة في الغلة على المدى القريب، لكن في الواقع كانت المشكلات تتراكم تحت سطح التربة النظيف والممهد! وكان النظام البيئي الزراعي يتخرب باستمرار، وبدأ يعاقبنا بعد عدد من المواسم!

 لدى مقارنة النظم الطبيعية الغابية بالأراضي الزراعية نلاحظ وجود هوة شاهقة في»صحة» التربة التي تتدهور باستمرار في النظم الزراعية التقليدية، فالحراثة  تقضي على ديدان الأرض التي تقوم بدور «محراث بيولوجي» في تهوية التربة بحفر أنفاق فيها، وتقلل الفلاحة من عدد الكائنات الحية الدقيقة في التربة التي تقوم بتحليل للمادة العضوية تدريجياً إلى عناصر معدنية متاحة للنبات بدل إضافة كميات كبيرة من الأسمدة الكيماوية، وبالتالي فالحراثة تقضي على التنوع الحيوي. كما أن قلب التربة عملية تضخ الأكسجين في التربة بكثافة، مسببة أكسدة سريعة للمادة العضوية التي تعتبر العنصر الأساسي في الحكم على خصوبة تربة ما، كما تترافق عملية الأكسدة هذه بزيادة انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى إلى الجو.

ويسبب نظام الزراعة التقليدية فقداً كبيراً في المياه التي تعاني البشرية جمعاء شحاً في توافرها، حيث تقل نسبة المياه المفيدة للنبات التي يصطلح على تسميتها بالمياه «الخضراء» مقابل المياه «الزرقاء» وهي الفواقد المائية غير المنتجة التي تذهب إلى البحار دون الاستفادة منها، عبر الجريان السطحي والرشح العميق والتبخر، حيث يقل معدل رشح المياه إلى باطن الأرض بسبب  انضغاط طبقات التربة تحت السطحية حيث تتشكل طبقات صماء نتيجة مرور الجرار المتكرر في الحقل، كما أن الحراثة تجزئ حبيبات التربة إلى حبيبات أصغر تقوم بغلق مسامات سطح التربة فتشكل قشرة سطحية تزيد من فقد الماء بالجريان السطحي لدى هطول الأمطار. وتلعب بقايا المحصول المتروكة من الموسم السابق دور سدود صغيرة تحول دون الجريان السطحي وتزيد رشح المياه إلى باطن التربة.

وتكون حبيبات التربة الناعمة أكثر عرضة للانجرافين الريحي والمائي حاملة معها طبقة التربة الثمينة بما فيها من  كميات من الأسمدة والمبيدات والبذار، مقللة بذلك من العائد الناتج عن هذه المدخلات الزراعية، وملوثة البحيرات ومصادر المياه العذبة التي تصب فيها.

مخاوف مشروعة..

قد يتخوف المزارعون من مشكلة انتشار الأعشاب نتيجة ترك بقايا المحصول السابق، وعدم فلاحة الأرض، وهذه مشكلة حقيقية تم التركيز على الإحاطة بآثارها لدى نشر نظام الزراعة الحافظة، فعند تحويل الأرض من نظام الزراعة التقليدية إلى الزراعة الحافظة لابد من معالجة أولية للأراضي الموبوءة بالأعشاب، واستخدام كل الطرق الحيوية والكيماوية المعروفة، ورغم أن اتباع الزراعة الحافظة سيزيد الأعشاب في البداية إلا أنها تتميز بأن الاستمرار بالمكافحة الجيدة سيؤدي تدريجياً لمعاجلة الأرض من الأعشاب. فعادة ما تترك الأعشاب بذارها في التربة، فتحرض عملية قلب التربة إنباتها في الموسم التالي، لكن التوقف عن الحراثة سيجعل هذه البذار تنام في أعماق التربة فلا تقدر على الإنبات، كما أن تغطية سطح التربة بكمية كافية من بقايا المحصول سيمنع وصول الضوء إلى البذار مما سيقلل نسبة بادرات الأعشاب التي تبقى على قيد الحياة، كما أن حرارة التربة تبقي حول بذار الأعشاب أقل منها حول بذار المحصول نتيجة تغطية الأولى ببقايا المحصول، فلا تصل إلى الحرارة الدنيا اللازمة للإنبات. وتثير الزراعة الحافظة مخاوف لدى المزارعين من غزو فئران الحقول لمزارعهم، إلا أن التجارب أثبتت أن وجود فئران الحقل ترافق مع وجود الثعابين والبوم، التي تشكل سلسلة مفترسات لبعضها البعض، فلم تحدث أي أثر ضار على المحصول.

تجارب في العالم وفي سورية

تزداد الأراضي التي تطبق الزراعة الحافظة من سنة إلى أخرى. ويلاحظ أن أسرع انتشار للزراعة بدون حرث كان في أمريكا اللاتينية وخاصة البرازيل والأرجنتين والبارغواي. حيث أن ما يزيد عن 60% من الأراضي المزروعة تطبق نظماً زراعية تعتمد على الزراعة بدون حرث. وهناك دول أخرى فيها مساحات واسعة تطبق الزراعة الحافظة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا، ويحظى هذا النظام بالاهتمام في نظم زراعة القمح في كل من جنوب شرق آسيا وأسيا الوسطى.

وقام المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد) بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الفني GIZ بتطبيق نظام الزراعة الحافظة في كلٍ من سورية ولبنان والأردن وموريتانيا. ونُفذت التجربة في سورية بالاعتماد على بذارات مستوردة من البرازيل، ثمّ قام المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ايكاردا) بتشجيع وتمويل المصنّعين المحليين لتصنيع مثل هذه البذارة، وقد لاقت هذه الخطوة نجاحاً كبيراً، وكانت كفاءة البذارة المُصنّعة محلياً تعادل 80% من كفاءة البذارة المستوردة، وقد صدّر المصنعون السوريون بذارات إلى كل من العراق، ولبنان، والأردن، والمغرب.

في سورية أظهرت النتائج خلال خمس سنوات في حقول المزارعين التي طبقت فيها التجربة زيادة في إنتاجية القمح تعادل 23.45% وفي الشعير  27.9% أما في العدس فقدرت الزيادة بـ 15.6%. وقد بلغت مساحة الأراضي الزراعية التي تعتمد نظام الزراعة الحافظة في سورية 50000 هكتار، خاصة بعد أن حققت زيادة في الإنتاجية ترافقت مع توفير في استخدام الوقود الذي تعتبر الحراثة من أكثر العمليات استهلاكأ له، وتوفيرأ في البذار قدر بـ35% للقمح، و47% للشعير و 23.5% للعدس، كل ذلك أدى إلى زيادة دخل المزارع عبر ما سمي بالتكثيف الزراعي المستدام.

يمكن للنماذج المستوحاة من الطبيعة أن تثير تأملات مفيدة جداً، وأن تساعد المختصين مع المزارعين للتوصل إلى حلول إبداعية على الدوام. ويبقى أن على كل فكرة جديدة أن تخوض صراعاً مع القديم السائد، وهذا ما تتكفل التجربة العلمية بإثباته باستمرار.