«سيطر على أعصابك.. أو دعنا نفعل ذلك»
امتلأت المنصة بالمدعوين منذ الصباح، مئات من النجوم الذهبية المعلقة على الاكتاف، والعديد من الأوسمة اللامعة على الصدور، إنه نهار مشمس ومثالي جداً لإجراء هذه التجربة العلمية المثيرة، ولابد من إثارة إعجاب الممولين والداعمين لهذه التجربة، فقد حضروا اليوم بعد انتظار شهور طويلة، وعليهم اليوم تقييم هذا العمل بغية تبنيه لاحقاً في تطبيقات مناسبة، يبدأ «العرض» بعد انتظام الحضور في أماكنهم،
تحلق ممثلو المجمعات العسكرية الأمريكية وكبار ضباط الجيش هناك في هذا المكان وهم لا يطيقون صبراً لرؤية ما يجري، يتقدم أحد الجنود إلى وسط العرض، يرتدي خوذة خفيفة ثم يجلس على كرسي قريب، يغمض الرجل عينيه فنرى رجلاً آليا ضخماً يتقدم بخفة إلى أن يصطف بجانب هذا الكرسي، تبدأ الخوذة على رأس الجندي باللمعان بأضواء زرقاء خفيفة، فينهض الرجل الآلي من سباته ويتلفت إلى الخلف، ويبدأ بإطلاق النيران على أهداف اصطفت في الأفق بعد أن نهض الجندي ناظراً إلى كل منها، أطاع الرجل الآلي جميع «الأوامر العقلية» للجندي حتى فرغ من تدمير الأهداف، وحصد العرض الكثير من الإعجاب والتصفيق، أصبحت هذه التقنية جاهزة للعمل الآن بعد أن طال انتظارها، وأصبح الجيش الأمريكي قادراً على استثمار اولى تطبيقات «التحكم العصبوني» في القريب العاجل، لكن هل يمكن للعالم أن يأتمنه على مثل هذا الاختراع؟
لقد رأينا مثل هذا الأمر من قبل، سبق علمي ثوري تسيطر عليه المؤسسة العسكرية الأمريكية بالذات بعد أن طورت اهتماماً مفاجئاً بالأبحاث المتعلقة به، ليبدأ العالم بعدها بالتغير، نحو الأسوأ، فقد حملت الحرب العالمية الثانية أول الأمثلة عن ذلك، حيث كانت الفيزياء الذرية محط اهتمام المؤسسات العسكرية حول العالم، فظهر «مشروع مانهاتن» الأمريكي بغرض صناعة أول قنبلة ذرية، ذلك المشروع السري الذي بقي خافياً عن وثائق الميزانية الأمريكية لسنوات، لم يكن الكونغرس الأمريكي يعلم ماذا يمول، حتى أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان قد اعترف في أكثر من مقابلة بأنه كان أيضاُ على جهل تام بتفاصيل هذا المشروع رغم أنه كان نائباً للرئيس أيام إطلاقه، وبالتالي لم يستطع أحد مناقشة مدى «أخلاقية» استخدام هذا السلاح وآثاره المريعة على البشرية إلى أن تم الإسقاط المشؤوم لتلك القنبلة على مدينتي هيروشيما وناكازاكي، لكن بعض الوثائق المسربة اليوم قد كشفت محاولات خجولة لبعض العلماء المشرفين على ذلك المشروع الأسود لتحذير الإدارة الأمريكية من الآثار الشيطانية لهذا السلاح على منحى تطور البشرية وتنبؤوا بسباق تسلح أعمى ستكون هذه القنبلة شرارته الأولى، كانوا على حق، لكن أحداً لم يستمع إليهم، وتمت المهمة بكل وقاحة، لتغير الكثير بعد أن خضع مصير العالم لرحمة «أسلحة الدمار الشامل».
يخضع العالم اليوم لامتحان جديد، مجال الاهتمام العملي - العسكري اليوم لم يعد الفيزياء الذرية، بل علوم «التحكم العصبوني» وتطبيقاته المثيرة الجديدة، وها هي مراكز الأبحاث الأمريكية المرتبطة بمجمعات التسليح هناك تسابق الوقت لاستثمار تلك التطبيقات في ساحات الحروب، فقد أعلنت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة DARPA والحاضنة للعديد من الاختراعات الأميركية القاتلة عن بدء التجارب العملية لأبحاث «التحكم العصبوني» ليشمل ذلك تطبيقات «الملاءمة العصبونية» لخلق واجهات مخاطبة بين العقل البشري والآلة عن طريق الأوامر الدماغية، وتطبيقات «الروبوتات البشرية» التي تحوي أجزاءً مزروعة من أدمغة بشرية، وتطبيقات «البصمات الدماغية» وهي الاخطر والأكثر انتهاكاً للحقوق الإنسانية حيث تسمح هذه التطبيقات بقراءة الأفكار عن طريق مجسات خاصة موضوعة في مداخل المطارات ومحطات القطارات بغية كشف النوايا الإرهابية لمستخدمي تلك المرافق، لكن ذلك قد يفتح المجال لتطبيقات غير أخلاقية أخرى قد تمولها الحكومة الأمريكية تسمح بسرقة الأفكار وقراءة العقول، بالإضافة لأبحاث «التحفيز العصبي» التي تمنح الجنود قدرات عصبية ونفسية إضافية تسمح لهم بتنفيذ المهمات دون الحاجة للنوم أو الراحة، كما قد تتلاعب بميولهم النفسية تجاه القتل والتدمير.
لم يتحدث أحد بعد عن مخاطر الاستحواذ الأمريكي بالذات على هذه التقنية، لكن الذرائع جاهزة: «إن لم نأخذها نحن.. سيسبقنا الآخرون إليها» فدعوها في يد أمينة ، في يد «المدافعين عن الحرية» بدلا من أيادي «المتطرفين»، كما ينطبق الأمر على العلماء أنفسهم، «إنه سباق، إن لم تكن الأول كنت الأخير»، كما أن خيارات تمويل الأبحاث لم تعد متنوعة كما السابق، إما أن تخضع للتمويل العسكري ، أو تفكر جدياً بتغيير مجال أبحاثك، كما أن هناك حضوراً قويا للوهم القائل بأن هذا الاختراع الدموي الجديد قد يستخدم لفعل الخير، «قد تستخدم أبحاث التحكم العصبوني في معالجة الأمراض العقلية كالباركنسون والإعاقات الدماغية الاخرى» يقول البعض، لكنهم لا يستطيعون إخفاء إحباطهم عندما يعملون بأن هذه المؤسسة البحثية الخيرية التي يعملون فيها ماهي إلا واجهة للمؤسسة العسكرية التي تجنبوها من البداية!
لكن، وعلى الرغم من التطور السريع والمتهور الذي يميز تطبيقات هذا العلم، إلا إنه يختلف قليلاً عما كانت عليه الحال في بداية أيام «الأبحاث النووية»، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على كتمان تلك المشاريع السرية بوجود منافسة قوية ورقابة شديدة فرضتها وقائع التطور التكنولوجي المتسارع يومياً، لذا يبدو أنه من الضروري اليوم إجراء اللقاءات المكثفة والتجمعات المناسبة بين علماء «التحكم العصبي» والخبراء الأمنيين في إطار شفاف ومعتدل حول العالم، لتنقذ هذه التقنية الثورية من براثن المتطرفين والمتهورين الذي قلبوا وجه الأرض منذ زمن ليس بالبعيد، وهم مستعدون اليوم لتكرار ذلك مهما كلف الثمن، فقد لا تمنحنا الأقدار فرصاً أخرى..