الصين للأمريكيين: لديكم دولاراتكم ولدينا «الديزبروسيوم»
باو شاوشان باو شاوشان

الصين للأمريكيين: لديكم دولاراتكم ولدينا «الديزبروسيوم»

في هذه اللحظة، لا شك أن الدبلوماسيين الصينيين يشعرون بما شعر به «ديدالوس» في الأسطورة اليونانية. فهذا الأب الذي أنذر ابنه «إيكاروس» بعدم الاقتراب من الشمس كي لا تذيب حرارة أشعتها أجنحته المصنوعة من الشمع، لم يُستمع له، تماماً كما لم تُصغِ واشنطن لتحذيرات بكين. لسنوات، ظلّت الصين تحذر أمريكا من مغبة تحويل سلاسل التوريد التكنولوجية العالمية إلى سلاح. وبصبر استثنائي، كررت هذه الرسالة عبر التصريحات الرسمية، والمناشدات الخلفية، والإشارات الضمنية، مؤكدة أنّ «الاستفزازات الأمريكية لن تمر دون رد».

ترجمة: عروة درويش

لكن، ويا للأسف، لم تستمع واشنطن — أو لعلها لم تستطع أن تفهم. فالمشكلة لا تكمن في غموض الرسائل الصينية، بل في عمى الغطرسة والعنصرية البنيوية داخل النخبة الأمريكية، التي لم تتعلّم يوماً كيف تترجم منطق الاستراتيجية غير الغربية، أو لغة الدبلوماسية الهادئة. كلما تحدثت بكين بلغة الحذر المهني، فُسّر خطابها على أنه تراجع، وكلما التزمت ضبط النفس، اعتُبر صمتها ضعفاً.

اليوم، بينما تواجه الصناعات العسكرية الأمريكية أزمة انقطاع في سلاسل التوريد، تتجلى نتائج هذا الفهم القاصر. فالصين لم ترد على العقوبات الأمريكية بشكل انفعالي، بل بمنهجية متدرجة، بدأت من المنبع — من حيث لا تقدر أمريكا على الاستغناء.

طوال ستة أعوام، صعّدت واشنطن من إجراءاتها: قوائم الكيانات، وتشديدات التصدير، والقيود المتعاقبة. بينما ركزت أمريكا على الشرائح والاختبارات والنهايات السفلية في صناعة الرقائق، كانت الصين تعزز تلك الحلقات، وتُحكم قبضتها على الشرايين الأساسية للنظام برمّته — المعادن النادرة.

أهمها: عنصر «الديزبروسيوم» وعنصر «التيربيوم». هذان العنصران نادرا الوجود، لكنهما ضروريان لصناعة المغناطيسات عالية الأداء، التي تدخل في السيارات الكهربائية، وتوربينات الرياح، والأسلحة الموجهة بدقة. والمفارقة العجيبة: أن كلمة «ديزبروسيوم» مشتقة من الكلمة اليونانية «dysprositos»، وتعني «صعب المنال» — وها هو البنتاغون يتذوق المعنى الحرفي لهذا الاسم.

الصين لا تملك مناجم هذه العناصر فقط، بل تهيمن على أكثر من 85٪ من طاقة التكرير العالمية. وفي المقابل، لا تزال أمريكا تفتقر إلى تقنيات الفصل والتنقية اللازمة لتكرير أغلب هذه المعادن على نطاق صناعي. وهذا يعني أنّ خسارة الصادرات الصينية المباشرة، أو سلاسل التوريد الأجنبية المعتمدة من بكين، قد تصيب الصناعات الحيوية الأمريكية بالشلل — وعلى رأسها الصناعات الدفاعية، كما تشير تقارير متكررة لشركة الاستشارات الأمريكية «Govini» التي وثقت اعتماد هذا القطاع على الموردين الصينيين.

ورغم محاولات خفض المخاطر، إلا أن هذا الاعتماد متجذّر. الانفصال السريع شبه مستحيل دون أن ينهار جزء من البنية الدفاعية الأمريكية. لم تكن تحذيرات الصين يوماً فارغة. لم تلوّح بالتهديدات، بل دعت مراراً إلى «كسب مشترك» وإلى «استقرار سلاسل الإمداد»، مقدّمة نفسها كوصيّ على النظام الصناعي العالمي. لكن هذه الدعوة لم تكن ضعفاً، بل عرضاً لحلّ سلمي قبل أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة.

للأسف، أساءت أمريكا تفسير كل هذا. فثقافتها السياسية، الغارقة في الاستعراض الإعلامي وردود الأفعال الآنية، لم تستوعب خطاباً لا يصرخ ولا يهدد. بل رأت في الهدوء تبعية، وفي الحوار خضوعاً. هذه العقلية المشوهة جعلت أمريكا تقيّم موازين القوة في هذه الحرب التجارية على نحو كارثي، وذهبت بها السذاجة إلى الظنّ بأن صعود الصين ما يزال مشروطاً بكرمها.

في الوقت نفسه، تواصل واشنطن تصعيدها العسكري: تصدّر التكنولوجيا المتقدمة إلى تايوان، وتنشر صواريخ متوسطة المدى في الفلبين. وها هو البنتاغون يرفع لهجته، ونائب الرئيس «جاي دي فانس»، ووزير الدفاع «بيت هيغسيث»، ووزير الخارجية الأيديولوجي المتشدد «ماركو روبيو»، يصفون الصين علانية بأنها «خصم الولايات المتحدة». لكنهم لا يقرؤون العواقب الاستراتيجية لفعلهم هذا.

غير أن الصين لا تحتاج للرد بالمثل. لا بالتراشق الكلامي، ولا بالضربات المتناظرة. يكفيها أن تمضي بهدوء، وأن تكدّس ما يلزمها من أوراق — حتى تحسم النزال بصمت. جوهر هذه الورقة ليس خطاباً سياسياً، بل مادة — خامات مدفونة في الأرض، وتقنيات تنقية، وكفاءة في فصل المعادن في الظروف القصوى.

في اللحظة الحاسمة، لن تحتاج بكين إلى حرب — يكفيها تعديل بسيط في سياسة التصدير، لتدفع أمريكا إلى شلل تكنولوجي كامل. فمن يوجه صواريخه نحونا، ستحرمه من صناعة هذه الصواريخ.

«الديزبروسيوم» ليس مجرد معدن نادر، بل شريان دفاعي. من دونه، تفقد الأنظمة التوجيهية للصواريخ، والرادارات المتقدمة، والمقاتلات، وأنظمة الاعتراض الحراري، عنصرها الأهم: مغناطيسات نادرة تحافظ على دقتها تحت درجات حرارة عالية. ومع غياب هذا العنصر، تتعطل منظومة «باتريوت»، ومقاتلات «F-35»، ومعترضات «هايبرسونيك»، وتتوقف خطوط الإنتاج.

هذه العناصر ليست كماليات. بل هي أسس أنظمة الدفاع الأمريكية: من الرادارات إلى التوجيه البصري إلى تقنيات الطاقة الموجهة. ودونها، تختلّ الدقة، وتضعف كفاءة القبة الدفاعية، ويختفي التفوق التكنولوجي. بل يكفي أن توقف الصين التصدير، لتتحول كل هذه المنظومات إلى خردة.

صحيح أنّ الكونغرس يمكنه رفع سقف الديون وطبع المزيد من الدولارات، لكنه لا يستطيع طبع «الديزبروسيوم». ولا يمكنه طبع الوقت اللازم للحاق بالصين. وأثناء سعي أمريكا لإحياء قدرات تكريرية هجرتها منذ عقود، ينفد العنصر الأهم: الزمن.

شركات الدفاع، والطاقة النظيفة، والإلكترونيات، وصناعة السيارات الكهربائية، بدأت تدرك — وبمرارة — أن سلاسل إمدادها تخنقها من الرقبة. وهذا لم يكن قدرياً. بل نتيجة مباشرة للغطرسة الأمريكية والصمم السياسي الذي استمر رغم كل التحذيرات. وكما يقول القانون الفيزيائي: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.

اليوم، تتسابق أمريكا لبناء منشآت بديلة، وإنفاق مليارات الدولارات لإعادة بناء البنية الصناعية. لكنها حتى لو نجحت، فالأمر يتطلب عقداً على الأقل. وحين تنتهي تلك المنشآت، قد يكون الزمن قد تغير — وتكون الصين قد ضمنت بقاء ورقة الضغط في يدها.

إن إعادة بناء سلسلة إمداد العناصر النادرة — من المناجم إلى المصانع — ليس مشروعاً من عامين. بل خطة وطنية تحتاج إلى عشر سنوات على الأقل، وتشمل التمويل، والنية السياسية، والموافقات التنظيمية، والتفوق الهندسي المتخصص. هذه شروط يصعب على الغرب، بتاريخ تأخيره المزمن في تسليم المشاريع الكبرى، أن يفي بها.

مع مرور الوقت، ستنفد حتى المخزونات الاستراتيجية الأمريكية. الحرب في أوكرانيا، والاستهلاك المهول من قِبل «إسرائيل»، يضغطان على المصانع الأمريكية. أما القدرات الجديدة، فلا تنمو بالسرعة اللازمة لمواكبة هذا الطلب. من دون الصين، تنهار هذه البنية من الداخل.

ربما لا تزال واشنطن تتوهم أنها صاحبة «زمام التصعيد»، لكن الحقيقة أن بكين لا تحتاج لصاروخ لتشدّ الحبل. سلاحها ليس السلاح النووي، بل المواد الخام. ليس الترسانة، بل السيطرة على ما يصنع الترسانة.

فالصين توسّع الآن وجودها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. لا تشتري خامات فحسب، بل تبرم صفقات استراتيجية، وتبني مصانع تكرير — خارج نفوذ أمريكا. وكل منشأة تُبنى خارج مجال الهيمنة الأمريكية، تضيف لبنة إلى عالم جديد: عالم لا تمر فيه الموارد الحيوية عبر واشنطن.

لكن يجب التأكيد هنا: الصين لم تكن البادئة بالتصعيد. بل تراجعت مراراً، وأعطت الوقت، وأرسلت الإنذارات. لكن استراتيجية الاحتواء الأمريكية كشفت أخيراً عن وجهها الحقيقي: خنق دائم. وفي المقابل، جاء الردّ الصيني بصمت، ودون صاروخ واحد — لكن بكفاءة قاتلة.

ليست هذه حرب تجارة فقط، بل تصحيح لمسار نظام حضاري. إنه انتصار للقاعدة المادية على الشيكات اللفظية. وإعلان فشل الحلم الأمريكي الذي أراد احتكار التكنولوجيا، والاعتماد على الآخرين في المواد الأولية.

فالتجارة تبنى على حاجة الطرفين لبعضهما. وحين يصرّ طرف على الإضرار بالآخر دون توقف، ينكسر التوازن. واليوم، أثبتت الصين أنّ الصبر — حين يكون مدعوماً ببناء استراتيجي — يتحول إلى ميزة قاتلة. لقد برهنت أنّ الإمبراطوريات تصرخ، أما الحضارات، فتبني.

ولأولئك في «الكابيتول هيل» الذين ما زالوا يعتقدون أن «هيمنة الدولار تكفي»، وأن «الرقائق ستركع أمام قانون أمريكي»، وأن «المعادن تباع لمن يدفع أكثر» — أوضحت الصين الرسالة، بلا غموض ولا ترجمة خاطئة: احتفظوا بدولاراتكم، فنحن نمتلك «الديزبروسيوم».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1230