«اليمين الشعبوي» ومغالطة «ترامب ضد الاحتكارات العالمية»
راينر شيا* راينر شيا*

«اليمين الشعبوي» ومغالطة «ترامب ضد الاحتكارات العالمية»

في ظل المفاوضات بشأن أوكرانيا وردة فعل الاتحاد الأوروبي ضد ترامب بسبب استعداده للتفاوض مع روسيا، تبنّى اليمينيّون «المناهضون للمؤسّسة» تكتيكاً خطابياً جديداً. إنّهم يسعون لحشد الغربيّين الساخطين إلى صف الولايات المتحدة، التي هي في الواقع ديكتاتورية إمبرياليّة، وذلك تحت ستار محاربة الهيمنة الليبرالية. السّردية التي يروّجون لها تزعم أن أوروبا تمثّل المعقل المركزي للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي، وأنّ ترامب قد «انشقَّ» عن هذا النظام ليقود ثورة ضد رأس المال العالمي. يتم تأطير هذه القصة على أنها «ترامب ضد العَولميِّين»، حيث يتم تصوير الجانب الأمريكي على أنه النقيض لسيطرة الاحتكارات العالمية.

تعريب وإعداد: قاسيون

هذا التيار داخل وسائل الإعلام البديلة والسياسة «المعارضة» يروّج لفكرة محددة حول الصراع السياسي، وهي أن بزوغ التعددية القطبية بحد ذاته يُعتبر ثورياً. لا شك أن التعددية القطبية تُعد خطوة لا غنى عنها نحو هزيمة رأس المال الاحتكاري، إذْ إنَّ الإمبريالية تعتمد على استمرار النظام الأحادي القطبية القديم، لكن من أجل هزيمة الأعداء الطبقيين فعلاً، نحن بحاجة أيضاً إلى نضالٍ طبقي. فدون إحياء الحركة العمالية حول العالم، لن يكون بروز التعددية القطبية كافياً لإنهاء النظام الاقتصادي الحالي، بل ستتم إطالة عمر هذا النظام، مما سيتيح للإمبرياليِّين توسيعَ حملاتهم للإبادة في فلسطين وغيرها. قد يكون هناك صراع بين واشنطن وأوروبا حول مسألة أوكرانيا، لكن فيما يتعلق بفلسطين والكثير من القضايا، فهما متوحِّدتان تماماً، وإذا لم نبنِ حركةً بروليتاريّة جادّة، فسيواصل الجناحان الإمبرياليّان الإبادة بينما يهاجمان الطبقات العاملة لديهما.
من الواضح أنّه لا ينبغي لنا الاصطفاف إلى جانب أوروبا، لكن يجب علينا أيضاً مكافحة السردية التي تصوِّر واشنطن وترامب كقوّة تقاوم رأس المال الاحتكاري. ليس صحيحاً حتى أنّ أوروبا هي مركز النظام الإمبرياليّ، كما تلمّح هذه السردية. الواقع أنّ الولايات المتحدة، دون غيرها، هي المصدر الذي تتفرع منه جميع القوى الاحتكارية الإمبريالية الأخرى منذ أواسط القرن العشرين. القوى الكبرى الأوروبيّة إمبرياليّةٌ أيضاً، لكن رأسمالها في حقيقته بات امتداداً للرأسمال الأمريكي، ففي ظل النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، والذي فقدت فيه الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية مكانتها السابقة، تعدّ الولايات المتحدة القوة الرئيسية التي تبقي الإمبريالية حيّة. حتى المستفيدون الإمبرياليّون الآخرون باتوا مجرَّد دولٍ تابعة للولايات المتحدة. فلا توجد أي قوة إمبريالية أخرى تقترب من الولايات المتحدة في القوة الاقتصادية، ولهذا فهي اللاعب الإمبريالي الأساسي.
عندما نرى الأوروبيّين يشعرون بالغضب لأنّ لترامب استراتيجية مختلفة عن أتباعه الليبراليين المتحمّسين لـ«أوكرانيا»، فإننا في الحقيقة نشهد غضب الجناح غير الترامبيّ من طبقتنا الحاكمة نفسها. أوروبا هي المكان الذي لا يزال فيه القطاع الليبرالي لرأس المال الاحتكاري مسيطراً، على عكس الولايات المتحدة، وقد فسر الكثيرون هذا على أنه سبب بحدّ ذاته لمساندة أمريكا. لكن الاصطفاف مع أي معسكر داخل الإمبريالية هو خطأ دائماً؛ وعلاوة على ذلك، فإنّ الجانبين الأمريكي والأوروبي هما في الحقيقة جزءٌ من المعسكر نفسه.
كما أوضحت «المبادرة الدولية للسلام»، فمن الضروري دعم أي جهد لإضعاف «الناتو»، لكن البيت الأبيض في عهد ترامب ليس حليفاً للقضية المناهضة للإمبريالية: «ترامب والبيت الأبيض يبدوان مصمَّمين على المضيّ قدماً في محاولة تحقيق السلام مع روسيا. وهذا لم يكن ممكناً إلّا لأنّ روسيا نجحتْ في مقاومة الضغوط الإمبرياليّة. في المقابل، يواصل الاتحاد الأوروبي تصعيد حربه ضد روسيا، منغمساً في غرورٍ لا مثيل له ومحكوماً عليه بالانهيار. فكلما استمروا في هذا المسار، زاد عمق السقوط الذي ينتظرهم. ويمكن لهذا الوضع في النهاية أن يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي برمّته، ممّا سيفتح آفاقاً جديدة لنضال الطبقات الشعبية. لذا، نؤكّد دعمنا الكامل للسلام الفوري مع روسيا والانسحاب الكامل لقوات (الناتو) من أوروبا الشرقية، في الوقت الذي نواصل فيه الكفاح ضد الإمبريالية الأمريكية».
من الخطأ الاعتقاد بأنّ الإدارة الأمريكية الجديدة ستتبنّى سياسةً انعزالية. فالبيت الأبيض يسعى بدلاً من ذلك إلى أن تكون العولمة تحت سيطرته، وبالتالي سيحاول إعاقة توسّع دول «بريكس» وضربَ أيّ مقاومة مناهضة للإمبريالية.
هذه هي أهم نقطة تغفلها وسائل الإعلام البديلة اليمينية عن قصد: بينما تخوض واشنطن صراعاً ضد الجناح الأوروبي من العولَمة، فإنّ هدفها الوحيد هو توحيد السلطة الاحتكارية العالمية داخل نطاقها الخاص. حتى الجناح الأمريكي لا يختلف عن الأوروبيين في مسألة إخضاع روسيا، إذْ يسعى البيت الأبيض في عهد ترامب للضغط على روسيا أيضاً، ولكن بأسلوب مختلف. فقد قرر أنّ التخلي عن أوكرانيا ضروري من أجل أن تتمكّن القوى الإمبريالية من توجيه المزيد من الموارد إلى محاربة الصين، والانكفاء عن أماكن أخرى في العالَم لتركيز أولويّاتها في منطقة غرب آسيا.
تعمل وسائل الإعلام البديلة الشعبوية اليمينية على التغطية على هذا التحوّل المحوري، وتقديمه على أنه شيء ثوري. والكثير من الجهات الإعلامية البديلة الأخرى، بما في ذلك تلك التي لا تنتمي إلى اليمين أو إلى تيار ترامب، تساعد بشكل غير مباشر في هذا التضليل من خلال التركيز المفرط على التعددية القطبية على حساب الصراع الطبقي. من الصحيح دعم التعددية القطبية، لكن إذا لم تُعطَ الأولوية للنضال الطبقي، سيؤدي ذلك إلى نتائج عكسية. إذ سيقود أكثر الشرائح وعياً سياسياً بين الجماهير إلى حالة من التراخي، وإلى تبنّي فكرة أن الدفع الذاتي للتاريخ لا يحتاج لمساهمة الجماهير لهزيمة الإمبريالية.
الحقيقة أنّ جميع التطورات الإيجابية الأخيرة التي شهدناها على المستوى الدولي، من تصدي روسيا لـ«الناتو» إلى الثورات في منطقة الساحل الإفريقي، كانت نتاج تعبئة جماهيرية من الأسفل إلى الأعلى. الجماهير قادرة على استغلال الاضطرابات التي تحدث نتيجة صراعات النخب، لكن الرأسمال لا يمكن هزيمته بمجرد انتظار أزماته الداخلية لتطيح به. فلو تُرك الرأسمال المنهار ليحدد مصيره، فإنه لن يؤدي إلّا إلى مزيد من الهمجية، كما شهدنا ونشهد في غزة. هناك استعداد واسع بين الجماهير لمقاومة النظام الإمبريالي، وقد ظهر ذلك في الاحتجاجات المؤيدة لغزة، وفي تزايد الرغبة الشعبية في تبني وجهات نظر مناهضة للمؤسسة الحاكمة. لكن إذا أهملنا مهمة التنظيم الجماعي وبناء قوة الطبقة العاملة، فإنّ هذه الطاقة الشعبية لن تتحوّل إلى انتصارٍ ضدَّ الإمبراطورية.
السبب الذي يجعل «اليمين الشعبوي» يشكّل انحرافاً عن هذه المهمّة هو أنّ مصالحه الاقتصادية الجوهرية ليست بروليتاريّة، بل برجوازية أو برجوازية صغيرة. لا يسعى الشيوعيّون إلى استبعاد أصحاب الأعمال الصغيرة، بل على العكس، نعمل على حشدهم جنباً إلى جنب مع العمال؛ لأننا أصدقاء حقيقيون للجماهير، على عكس أولئك الذين يروّجون للصهيونية والإمبريالية تحت ستار «المعارضة». هذا التضليل الإعلامي موجَّه في المقام الأول إلى البرجوازية الصغيرة، من خلال الادّعاء بأنّ ترامب يحارب القوى الاحتكارية العالمية التي تهدّد أصحاب المشاريع الصغيرة في هذا البلد.
هناك بعض المحافظين الذين يرغبون في السلام مع روسيا بينما يصدّقون الدعاية الصهيونية دون تمحيص، لكن هناك أيضاً الكثير من مؤيِّدي «ماغا» الذين باتوا يدركون التناقضات في هذا التفكير. وهذا ما يُضعِفُ حملة التضليل «اليمينية الشعبوية» ويفتح المجال أمام المناضلين الحقيقيين للوصول إلى الجماهير.

* راينر شيا: كاتب أمريكي يُعرِّف عن نفسه بأنّه ماركسيّ-لينينيّ ويهتم في كتاباته بالحركات المناهضة للاستعمار والرأسمالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1218
آخر تعديل على السبت, 22 آذار/مارس 2025 22:03