فنزويلا: لماذا علينا تصديق الرواية الغربية؟
ألفرد دي زياس ألفرد دي زياس

فنزويلا: لماذا علينا تصديق الرواية الغربية؟

إنّ وسائل الإعلام الغربية تتسرّع في إصدار عناوين مثيرة وتصدر أحكاماً سابقة لأوانها في كثير من الأحيان، والتي نادراً ما يتمّ تصحيحها عندما تكون خاطئة. فيما يتعلق بالانتخابات الفنزويلية في 28 تموز/يوليو 2024، من المتوقع –بحسب الإعلام الغربي- أن نصدّق أنّ نيكولاس مادورو قام بتزويرها. لكن لماذا يفترضون ميلنا إلى التفكير بهذه الطريقة؟ لماذا يصرّ صحفيو نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال على أنه يجب علينا الشك في نتائج الانتخابات؟ دعونا نحاول الإجابة عبر بعض المنظور التاريخي وننظر إلى الوراء في قصة فنزويلا التي شهدت مائة عام من السياسيين الفاسدين الخاضعين لواشنطن قبل أن ينتخب هوغو شافيز في عام 1998. علمتني تجربتي كخبير مستقلّ للأمم المتحدة في النظام الدولي، ومهمتي الرسمية إلى فنزويلا في نوفمبر/ ديسمبر 2017، ألّا أصدّق وسائل الإعلام هذه.

ترجمة: قاسيون

أدركَ الكثير منّا أنّ المشهد الإعلامي لدينا ليس خالياً من «الأخبار الكاذبة» والروايات المتحيّزة فيما يتعلق بالقضايا الجيوسياسية المهمّة. هذا هو الحال بالتأكيد مع التقارير الإخبارية والتعليقات المعتمَدة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. يبدو أنّ وسائل الإعلام لدينا متجانسة؛ حيث لم يكن هناك سوى رواية واحدة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ وسائل الإعلام الغربية تعكس إلى حد كبير التصريحات الصادرة عن واشنطن وبروكسل، فمن المستحسن بذل جهد إضافي للاستشارة والحصول على المعلومات والتعليقات من مصادر متعددة.
منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، شهدنا في الواقع قدراً كبيراً من التلاعب في التقارير الإخبارية عن الصراعات في يوغوسلافيا، مع العديد من القصص التي ثبت كذبها عند التحقق من صحتها. كانت التقارير بالأبيض والأسود مزعجة ولا تليق بأي دولة طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تهدف المادة 19 منه إلى ضمان الوصول إلى المعلومات وحرية الرأي، والأهم من ذلك حرية الاختلاف. تلا ذلك تلاعبٌ لا هوادة فيه بالرأي العام في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيما يتعلق بأفغانستان والعراق. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان التحيز الإعلامي مستمراً في معظم التقارير الإخبارية عن ليبيا وسورية وروسيا وأوكرانيا. واليوم نشهد الشيء نفسه فيما يتعلق ببيلاروسيا والصين وكوبا ونيكاراغوا وفلسطين وما إلى ذلك. تنقل جميع وسائل الإعلام الانطباعات والمشاعر والعواطف والتحيزات بالإضافة إلى المعلومات. يُقال لنا ماذا ومَن نصدِّق، وبمَن نشيد ومَن نكره. إنّ الأمر يتعلق بنظرية معرفية معيَّنة، وبنية معرفية، ونموذج اعتقاديّ. والناس يريدون أن يؤمنوا. وكما كتب يوليوس قيصر: «نحن نؤمن بما نريد أن نؤمن به».
فيما يتعلق بفنزويلا، كانت الدعاية الغربية تدير حملة «أخبار كاذبة» مستمرة منذ عام 1998، منذ أن أصبح شافيز رئيساً. كنت من بين العديد من ضحايا هذه الدعاية التي تغسل الأدمغة، وصدّقتُ العديد من الرسوم الكاريكاتورية التي عُثر عليها في صحيفة نيويورك تايمز. من أجل الاستعداد لمهمّتي في الأمم المتحدة في عام 2017، حاولتُ قراءة أكبر عدد ممكن من التقارير، بما في ذلك تقارير صحيفة واشنطن بوست، وصحيفة وول ستريت جورنال، وسي إن إن، ورويترز، وصحيفة FAZ، وصحيفة NZZ، ووزارة الخارجية الأمريكية، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة الدول الأمريكية، ولجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، وما إلى ذلك. عندما كنتُ في فنزويلا، وكانت لدي الفرصة لرؤية الأمر بنفسي، وطرح الأسئلة ذات الصلة على أشخاص مطَّلعين، والتحدّث مع المنظمات غير الحكومية الفنزويليّة، ومع أساتذة من جامعات مختلفة، ومع الطلاب، ومع ممثّلي الكنائس، ومع السلك الدبلوماسي، ومع السلطات الحكومية، فهمتُ تدريجياً أنّ المزاج الإعلامي في الغرب كان يهدف فقط إلى تغيير النظام، وكان يشوّه الوضع في البلاد عمداً. لم يكن الأمر يتعلّق بالمعلومات الكاذبة فقط، التي يقرأها المرء في الصحافة الغربية، بل كان يتعلّق أيضاً بالإغفال الكبير لما يحدث. آنذاك، كما هو الحال الآن، يمكن وصف العديد من وسائل الإعلام في الغرب ليس فقط بأنها «صحافة كاذبة» ولكن قبل كل شيء «صحافة الفجوة». التناقضات الزمنية موجودة في كل مكان. الأسباب والعواقب معكوسة. منذ عام 1999، اضطرّت الحكومة الفنزويلية إلى التعامل مع هذا النوع من الحرب الهجينة.

المنظمات غير الحكومية في فنزويلا

عندما زرت البلاد في 2017، تحدّثت إلى نحو 45 منظمة غير حكومية، والتقيتُ بهم بشكل فرديّ وفي مجموعات. ولم يقتصر الأمر على المنظمات غير الحكومية المعنيّة بحقوق الإنسان، بل امتد إلى تلك المتخصصة في القضايا المجتمعية العامة، والدين، والموسيقى، والتعليم، والصحة، والعمل، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق ذوي الإعاقة، وغيرها... كما حرصت على مقابلة سياسيّين معارضين وصحفيين ومنظَّمات غير حكومية متشدّدة.
في حين أنّ الكثير من المنظمات غير الحكومية بنّاءة وملتزمة بالصالح العام، فإن كثيراً منها سياسيّ ويركّز على المواجهة. وكما أبلغت مجلس حقوق الإنسان في تقريري لعام 2018، فقد تعرّضتُ للتنمّر قبل وأثناء وبعد مهمّتي. الواقع أنّ بعض المنظمات غير الحكومية السياسية بدأت حملةً ضدّي قبل وأثناء وبعد مهمّتي في فنزويلا. تعرّضتُ للتشهير والتهديد على فيسبوك وفي تغريدات على تويتر، لأنّ البعضَ فسّر لغةَ جسدي وتحفظّاتي على أنها دليلٌ على أنني لن ألعب لعبة أيّ شخص. من الواضح أنّ بعض المنظمات غير الحكومية كانت تخشى أن أتعامل مع ولايتي بجدّية، وأنْ أستمع إلى جميع الأطراف وأبحث عن أسباب المشاكل. ولم تكن هذه المنظمات غير الحكومية تتوقّع منّي سوى شيء واحد: لائحة اتهام عالمية ضد مادورو. مع ذلك، لم أكن أرى مهمّتي على أنّها إدانةٌ مسبقة للحكومة، بل كنتُ أريد قبل كلّ شيء الاستماع وتكوين رأيي الخاص. كما تلقّيت تهديدات بالقتل. واستمرّت حملة التشهير التي شنّتها هذه المنظمات غير الحكومية المزعومة بعد عودتي إلى جنيف، وبدأت مرة أخرى عندما قدمت تقريري إلى مجلس حقوق الإنسان في 2018. كثيراً ما تستخدم مثل هذه الأساليب لتشويه السمعة ضد المقرِّرين الخاصّين المستقلّين، بما في ذلك المقرِّرون الخاصُّون المَعنيّون بفلسطين، والتضامن الدولي، والتدابير القسرية الأحادية الجانب.
أتذكّر أنّ ممثل منظمة بروفيا غير الحكومية شوّه سمعتي أمام منظَّمة الدول الأمريكية، وزعم أنني لم أفعل شيئاً في فنزويلا باستثناء التقاط الصور في أحد المتاجر الكبرى. في الواقع، قمت بزيارة العديد من المتاجر متخفّياً - والتقطت صوراً لإثبات أنّه في عام 2017 لم تكن هناك «أزمة إنسانية» يمكن استغلالها لتبرير التدخّل العسكري «الإنساني». لقد وثّقتُ كيف حاولت الحكومة الفنزويلية سدَّ الثغرات الناجمة عن العقوبات الأمريكية، وأطلقَتْ برنامجاً واسع النطاق لتوزيع المواد الغذائية يُعرف باسم CLAP، وسَعتْ جاهدةً إلى تقديم رفوفٍ مليئة باللّحوم والأسماك والسلع المعلَّبة، على الرغم من أنّ التدابير القسرية الأحادية الجانب التي اتخذتها الولايات المتحدة تسببت في أضرار جسيمة للاقتصاد الفنزويلي.
إنّ العديد من المراقبين يشاطرونني الرأي القائل بوجود فئة خاصة من المنظمات غير الحكومية تعمل كنوع من الطابور الخامس أو «حصان طروادة» وتكرّس المال والجهد الكبير لتقويض الدولة المضيفة. وبعض هذه المنظمات مموَّلة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومهمّتها الرئيسيّة لا علاقة لها بحقوق الإنسان، بل بتسهيل تغيير النظام تغييراً ليس إلى ما هو أفضل للشعوب بل لمصلحتهم كمموِّلين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1190
آخر تعديل على الأربعاء, 11 أيلول/سبتمبر 2024 23:05