ما هي تداعيات الصراع الحالي في فلسطين على أمريكا في الداخل والخارج؟
إنّ الصراع الذي تخللته الهدنة لأوّل مرة اليوم في فلسطين قد يستمر لبعض الوقت في المستقبل. لكن على الرغم من عدم اليقين بشأن النهاية، فإنّ العواقب على المستويين الإقليمي والعالمي أصبحت واضحة الآن، ويمكن القول، إن العالم لن يعود كما كان من قبل. وربما تكون إحدى الحقائق الواضحة له هي المزيد من التراجع الحاد للهيمنة الأمريكية في المنطقة والعالم. وعلى خلفية الأحداث الأخيرة في غزة، أظهرت الولايات المتحدة بشكل كامل عجزها التام عن لعب دور القوة المهيمنة بعد اليوم.
ترجمة: قاسيون
أولاً، سوف تعمل الأزمة على توسيع الفجوة داخل الولايات المتحدة نفسها بين الرأي العام الأمريكي وصنّاع القرار السياسي. لطالما كان لدى الولايات المتحدة خلافات حادة حول سياساتها تجاه «إسرائيل». في حين يدعم البيت الأبيض والكونغرس تل أبيب بقوة، فإن المثقفين والأكاديميين وأبناء الطبقة المتوسطة يعارضون أيضاً بشدة الحكومات الأمريكية التي تنفق بشكل متهور ثروة البلاد الوطنية على قضايا لا علاقة لها بمصالحهم الوطنية. لقد أظهر جون ميرشايمر وستيفن والت، في كتابهما الشهير بعنوان «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية»، اختلاف العديد من الأكاديميين مع السياسيين الأمريكيين.
وتشير الأدلة إلى أن الاتصالات الأخيرة بين الساسة الأمريكيين و«الإسرائيليين» ستؤدي إلى صدع أكبر بين المجتمع الأمريكي العادي ومجتمع صنع السياسات. أثارت أزمة غزة رد فعل فوري من البيت الأبيض عندما زار بايدن «إسرائيل» وطلب في خطاب عام من الكونغرس منحها مليارات الدولارات من التمويل الجديد. لكن الرأي العام الأمريكي كان في الواقع على خلاف مع البيت الأبيض والكونغرس. يدرك المجتمع أنّ احتلال فلسطين هو السبب الرئيسي للأزمة، لذلك خرجت مظاهرات حاشدة ضد الاحتلال والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في جميع المدن الأمريكية، بما في ذلك نيويورك وواشنطن.
شهد العقد الماضي انقسام الولايات المتحدة أكثر فأكثر بين الشعب والسياسيين، حيث أعرب المزيد من الناس عن عدم رضاهم عن السياسيين وسياساتهم. ومن المتوقع أن يؤدي عدم الرضا الحالي عن سياسات الإدارة الحالية فيما يتعلق «بإسرائيل» إلى توسيع الفجوة. وبينما تهز المظاهرات المناهضة «لإسرائيل» المدن الأمريكية، قام وزير الخارجية بلينكن الذي يحمل جواز سفر «إسرائيلي»، بزيارة «إسرائيل» مرتين، وأكد الدعم الثابت لإدارة بايدن.
ثانياً، لا شكّ أنّ أزمة غزة سوف تعمل على توسيع الفجوة بين الولايات المتحدة وحلفائها في العالم العربي. صحيح أن بعض القادة العرب يرغبون في رؤية نوع من الوجود الأمريكي القوي في المنطقة من أجل الحصول على الحماية الأمنية لدولهم. ولكن من الصحيح بالقدر نفسه عدم تضامن أي دولة عربية مع السياسة الأمريكية في المنطقة، حيث إن الولايات المتحدة كثيراً ما تدخلت بشكل صارخ في شؤونها الداخلية وقوضت بشكل خطير حق الفلسطينيين المشروع في إنشاء دولتهم الخاصة بسياساتها المنحازة والسلبية. وفي العقد الماضي على وجه الخصوص، تخلص العالم العربي تدريجياً من وهم «الدفاع» الأمريكي.
لقد كشفت أزمة غزة مرة أخرى، مثل العديد من الأزمات السابقة، عن السياسة الأمريكية شديدة الانحياز في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي». وبدلاً من بذل الحد الأدنى من الجهود لتهدئة التوترات، قامت الولايات المتحدة بالتستر على العديد من جرائم القتل التي ارتكبتها «إسرائيل»، ناهيك عن الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى تقويض الحد الأدنى من ثقة العرب بأمريكا. وتجلى الغضب بشكل رمزي، على سبيل المثال، عندما تعمد محمد بن سلمان إبقاء أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، في الانتظار 8 ساعات للقائه، ورفض القادة العرب بالإجماع لقاء بايدن بعد قيامه برحلة جوية مدتها خمس عشرة ساعة إلى الشرق الأوسط بعد وقت قصير من بدء أزمة غزة.
ومن المتوقع أن تؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع إلى تدمير العديد من الأحلام الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط، بما في ذلك خطة إنشاء نسخة شرق أوسطية من الناتو، والاتفاقات الإبراهيميّة، وبناء ممر اقتصادي من الهند إلى شبه الجزيرة العربية و«إسرائيل» وأوروبا. على الأقل، تم وضع كل هذه الخطط والأفكار على الرف لبعض الوقت وعلى الأرجح لن يتم تنفيذها أبداً. لا شكّ أن الإدارات الأمريكية فقدت الواحدة تلو الأخرى هيبتها واحترامها في الشرق الأوسط، ونفوذها يتضاءل مع مرور كل عام.
الفجوة في مناطق أخرى من العالم
ثالثاً، من شأن الأزمة أن تعمل على توسيع الفجوة بين الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم. تدرك دول العالم الأخرى تماماً مدى غطرسة الولايات المتحدة وحدود هيمنتها وأنانيتها، ونفاقها أيضاً. بوسع المرء أن ينظر إلى أوروبا اليوم، التي تعاني سياسياً واقتصادياً من الهيمنة الأمريكية ورغبتها في تحويل العبء الكامل للحرب التي تقودها في أوكرانيا ضد روسيا إلى عاتق الأوروبيين.
قد تكون أزمة غزة ذات أهمية كبيرة في العديد من النواحي، ولكن أبرز هذه النواحي لابد أن يكون فضحاً كاملاً آخر لنفاق الولايات المتحدة. انتقدت واشنطن بشدة قضايا حقوق الإنسان في بلدان أخرى، بما في ذلك الصين وإيران وحتى الدول العربية، باسم النزعة الإنسانية التي اخترعتها هي نفسها. ولكن عندما اندلعت أزمة إنسانية حقيقية في قطاع غزة نتيجة للحصار والاحتلال «الإسرائيلي»، لم تكتفِ الولايات المتحدة بعدم انتقاد «إسرائيل»، بل دافعت وشجعت تصرفاتها الرامية إلى تفاقم الوضع من خلال تزويدها بالمزيد من الشحنات من المساعدات والأسلحة الحديثة، وخاصة الطائرات والقنابل الجوية. سافر بعض القادة الأوروبيين إلى «إسرائيل» لإظهار انضباطهم بإمرة بايدن، لكن اتضح أن شوارع الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية «حكت» جزءاً مختلفاً تماماً من القصة. تحدثت هذه الشوارع ضدّ عقود من الاحتلال، وحصار غزة، وتدمير المنازل، والأزمة الإنسانية الأكبر.
تدخل هنا الولايات المتحدة المشهد، مدعومة بـ«أتباعها الخجولين» حول العالم، خاصة في أوروبا وكندا وأستراليا. الطائرات والقنابل التي تستخدمها إسرائيل تأتي من الولايات المتحدة. كما أنّ الدعم المالي عبارة عن أموال يقدمها دافعو الضرائب الأمريكيون. وتقدم الولايات المتحدة الدعم السياسي لخنق الانتقادات الموجهة «لإسرائيل». استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو حوالي 100 مرة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للدفاع عن السياسات والإجراءات الفاضحة للقيادة «الإسرائيلية». إنّ هذا الفيتو يعزل الولايات المتحدة عن بقية العالم، الذي يشهد ما يحدث على الأرض. يمتدّ قمع حرية التعبير إلى شواطئ الولايات المتحدة.
الأمريكيون الذين ينتقدون «إسرائيل» وسياساتها يتم تصنيفهم على الفور على أنهم معادون للسامية. وقد فقد آخرون وظائفهم. وحتى في الجامعات، التي يفترض أنها معاقل لحرية التعبير، يعبّر المانحون الأثرياء عن استيائهم من انتقاد «إسرائيل» من خلال حجب الدعم المالي عن المؤسسات التي لا تقمع انتقادات «إسرائيل». والأكثر فعالية هو الدور الذي تلعبه أموال النخب في السياسة الأمريكية، حجب الدعم المالي عن السياسيين والحملات التي لا تلتزم بالخط «الإسرائيلي».
يدرك العالم، بما في ذلك العرب والمسلمون والشعوب في الدول الغربية وغير الغربية، بشكل متزايد نفاق الحكومة الأمريكية. وهذا من شأنه أن يساهم إلى حد كبير في انحدار الولايات المتحدة، بل وسيعجّل به، وسيبدأ العالم في العيش في ظل القواعد الجديدة لمجتمع متعدد الأقطاب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1150