متلازمة باريس!
إيغور فيريمييف إيغور فيريمييف

متلازمة باريس!

نشرت صحيفة «لو باريسيان» الفرنسية يوم الجمعة تقريراً على صفحتها الأولى عن حالة الذعر التي تشهدها باريس بسبب بقّ الفراش، ووصفت المشكلة بأنّها شكل من أشكال «الإرهاب الداخلي». ووفقاً للهيئة الوطنية للصحة والصرف الصحي الفرنسية، بين عامي 2017 و2022، كانت 11٪ من المنازل الفرنسية مصابة بالفعل بهذه الطفيليات الخطيرة. المشكلة الأخرى التي يعاني منها الفرنسيون هي الفئران. وإذا ما أضفنا ارتفاع الأسعار وفقدان مصادر اليورانيوم المنهوب في إفريقيا، سنكون أمام مشهد «باريسي» غريب.

ترجمة: أوديت الحسين

يوجد البقّ في كل مكان في باريس اليوم، في المنازل والفنادق والمحلات التجارية، وقد احتل العاصمة الفرنسية فعلياً. وكما قالت ماتيلد بانو، رئيسة حزب فرنسا الأبيّة اليساري للبرلمان، فالبق «خلق جحيماً لملايين الأسر في هذا البلد» ويجب على الحكومة أن تتحرّك. ووفقاً لها، في عام 2019 تعرضت للسخرية عندما دعت إلى اعتماد خطة وطنية طارئة لمكافحة بق الفراش. وقالت ماتيلد بانو في مقابلة مع الإذاعة الفرنسية: «نريد من الحكومة أن تعترف بهذا باعتباره مشكلة صحية عامة. إنّهم بحاجة للتوقف عن مطالبة الأشخاص بإصلاح هذه المشكلة بأنفسهم كما لو كانت مشكلة فردية، بينما تفرض الشركات أسعاراً باهظة مقابل رش المنتجات الكيميائية التي يقاومها بق الفراش.. إنّها مشكلة صحية وأيضاً مرتبطة بالصحة العقلية لأنّ الناس لا يستطيعون النوم، أو أنّهم يعانون من الصدمة أو يضطرون لتناول مضادات الاكتئاب».

اكتسبت مشكلة البق في باريس صدى دولياً بالفعل، حيث انتشرت موجة من الذعر والاشمئزاز في جميع أنحاء فرنسا، حيث نشر المسافرون صوراً ومقاطع فيديو على الإنترنت تظهر حشرات في وسائل النقل المحلية في باريس، والقطارات عالية السرعة، وحتى في مطار شارل ديغول. نقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن بعض المسافرين في مترو باريس أو قطارات الركاب وهم يعلنون أنّهم لن يسافروا بعد الآن في وسائل النقل العام لأنّهم يخشون الجلوس على المقاعد خوفاً من الحشرات، وعن نشر رواد السينما الباريسيين على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً للبق في السينما.

كتب ممثلو مكتب عمدة باريس إلى رئيس الوزراء إليزابيث بورن يطلبون منها تشكيل مجموعة عمل وطنية خاصة لمكافحة ما أسموه «هجوم» الحشرات. وقال نائب عمدة باريس للتلفزيون الفرنسي: «لا أحد في مأمن. يمكن التقاط البق في أي مكان وإعادته إلى المنزل، ولن يتمّ اكتشاف الأمر حتى يتكاثر وينتشر». وقال العمدة بأنّه يتعين على الحكومة تنسيق الإجراءات على جميع مستويات الدولة «بأسرع ما يمكن وبكفاءة.. إنّه الجحيم عندما يضطر شخص لمعايشة هذا» مضيفاً أنّ الوضع أصبح أسوأ بالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض التي لا تستطيع دفع التكاليف المرتفعة لشركات الحشرات الخاصة.

عاد البق الذي كان قد انقرض فعلياً في فرنسا بحلول الخمسينيات، وأصبح في العقود الأخيرة مقاوماً بشكل متزايد للمعالجة الكيميائية. لكنّ الباريسيين لا يعانون فقط من البق، بل أيضاً من الفئران. وفقاً لإدارة الصحة المحلية، يوجد لكلّ باريسي ما بين 1.5 إلى 1.75٪ فأر، ما يجعل العاصمة الفرنسية واحدة من أكثر مدن «الفئران في العالم». دفع هذا الأكاديمية الوطنية للطب إلى إصدار تحذير صحي في تموز الماضي بشأن الخطر الذي تشكله القوارض على الصحة، والأمراض التي يمكن أن تنقلها هذه الحيوانات.

إنّ مشكلة البق والفئران التي نشأت في العاصمة الفرنسية ليست من قبيل المصادفة، إنّها شهادة على التدهور العام الذي شهدته ليس فقط باريس، بل فرنسا بأكملها وبقيّة أوروبا في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة الاقتصادية وغزو جحافل المهاجرين.

ماذا حدث لفرنسا «الجميلة»؟

يسأل الصحفي الإنكليزي دانييل جونسون: «ماذا حدث لفرنسا؟ يبدو وكأنّ أجمل وأبهى دولة وأكثرها ثقافة على وجه الأرض قد سقطت في دوامة من التدهور الذي لا رجعة فيه. والفرنسيون أنفسهم يدركون هذه الحقيقة، ففي استطلاع للرأي أجري مؤخراً، قال 61٪ من المشاركين في الاستطلاع بأنّ وطنهم يتجه نحو الانحدار دون أن يستطيعوا منع ذلك. المزاج متجهم ومستاء وغاضب، ويوجد تحت السطح أعمال عنف، كما حدث خلال احتجاجات السترات الصفراء. وأي شخص يجرؤ على النظر إلى ما هو أبعد من واجهة الدولة الفرنسية سيجد أزمة متفشية تهدد وجود البلاد ذاته. هناك أسباب لا حصر لها لهذه الأزمة».

باريس هي صورة مصغرة عن فرنسا. الفوضى التي تصل إلى مستوى الإرهاب البسيط في ضواحي العاصمة، تصل إلى مدن أخرى أيضاً. انتشرت الكتابة على الجدران والتخريب والقذارة التي شوهت شوارع باريس في جميع أنحاء البلاد. تجسد البنية التحتية المتداعية والآثار البشعة تراجع الأناقة الباريسية. وكان حريق 2019 الذي كاد يدمر كاتدرائية نوتردام يرمز إلى انهيار المكان الذي «يقدّس» الفن والتاريخ. في النهاية، الضائقة السياسية مبنية على ضائقة اقتصادية.

بات اليوم في اليابان مصطلح خاص هو «متلازمة باريس». يعبّر هذا المصطلح عن خيبة أمل السياح الذين يزورون باريس والذين توقعوا الوصول إلى عاصمة الثقافة والموضة العالمية، لكنهم بدلاً من ذلك واجهوا جبالاً من القمامة في الشوارع ومهاجرين غاضبين. يعترف الخبراء الطبيون بـ «متلازمة باريس» ويقولون بأنّها اضطراب حقيقي، تشمل أعراضه الدوار والقلق والقيء والهلوسة والأوهام وحتّى تسرّع ضربات القلب.

تشير التقديرات من مؤسسة تحليل GlobalData بأنّ هناك 1.3 مليون سائح ياباني قد زاروا فرنسا في 2023، وأنّ جزءاً كبيراً منهم يعاني من متلازمة باريس «pari sekogun». صاغ هذا المصطلح الطبيب النفسي الياباني هيرواكي أوتا الذي عمل في مستشفى سانت آن في باريس في الثمانينيات. في 2004 نشر مع مؤلفين آخرين مقالاً حول الموضوع ذكر فيها بأنّ متلازمة باريس هي حالة من الصدمة الثقافية الكاملة. كتبت صحيفة فيجارو الفرنسية ما يؤدّي إلى المعنى ذاته: «الأوروبيون المصدومون ينظرون إلى بلادنا كما لو كانت سفينة غارقة، والتي كانت مؤخراً سفينة تحمل اسم «فرنسا الجميلة». واليوم هي دولة يدفع فيها الناس أعلى الضرائب، ورغم ذلك لا يمكن لسلطاتها أن تؤمّن للمواطنين الحدّ الأدنى الذي تتوقعه من الدولة».

تراكمت على مدى الأربعين عاماً الماضية على «فرنسا الجميلة» ديونٌ بقيمة 3 آلاف مليار يورو، لكن كما تتساءل صحيفة فيغارو: «من أين يأتي هذا الدين؟ ففي نهاية المطاف، لم تكن هناك حرب على أرضنا، ولم تكن هناك موجات تسونامي عملاقة، ولا شيء من قبيل ابتلاع ألمانيا الشرقية من قبل الغربية. بدأت خدمات الديون تتجاوز نفقاتها العسكرية. في الوقت نفسه ترتعش فرنسا كل يوم من الخوف من تجار المخدرات، وكذلك من وكالات التصنيف الائتماني الأمريكية، حيث فجأة ستخفض التصنيف وتحول فرنسا إلى فئة «المدينين غير الموثوق بهم» ليتقلب مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول في قبره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1143
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 16:33