أوروبا تريد إطلاق «حرب دعم» ضدّ الولايات المتحدة دون سلاح!
أوديت الحسين أوديت الحسين

أوروبا تريد إطلاق «حرب دعم» ضدّ الولايات المتحدة دون سلاح!

تُفاقم تصرفات قادة أوروبا الحالية من أزمة الطاقة في دول أوروبا، وكذلك المشكلات الاقتصادية الناجمة عنها. فمن جهة أدّت سياسة العقوبات ضدّ روسيا إلى ارتفاع التكاليف الصناعية، ومن جهة أخرى فإنّ مستقبل الاتحاد الأوروبي بات موضع شك بسبب المنافسة المتزايدة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي تسعى للحفاظ على مكانتها المهيمنة في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي وضع الأوروبيين في خانة منافس تكنولوجي بدلاً من كونهم حليفاً سياسياً. لكن هل يمكن حقاً «لحرب دعم» أن تنقذ أوروبا!؟

إنّ واقع اليوم الذي أدّى إلى فقدان ألمانيا لموقعها كأكبر مستورد وموزع للغاز الطبيعي في أوروبا، عنى إطلاق منافسة جديدة على «تسيّد الغاز الطبيعي» من قبل دول أوروبا الأخرى المتلهفة لتلعب هذا الدور، بما في ذلك بولندا وبلغاريا وإيطاليا وإسبانيا وتركيا.

لكلّ دولة من هذه الدول طموحها الخاص: تسعى بولندا لتصبح مركز توزيع الغاز الطبيعي المسيّل المستورد في شمال شرقي ووسط أوروبا، وبلغاريا تتطلّع إلى جنوب شرق ووسط أوروبا، وتستهدف إيطاليا جنوب ووسط أوروبا، وإسبانيا تريد وسط أوروبا، بينما تركيا تركّز على شرقي ووسط أوروبا وبحر قزوين والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

لكن ليس الطموح هو الفارق الوحيد بين هذه الدول، بل القدرة على إدراك هذا الطموح أيضاً. إنّ كلاًّ من بولندا وبلغاريا جزء من ممر الغاز الأفقي «شمال-جنوب» في الجزء الشرقي من الاتحاد الأوروبي ضمن إطار عمل «مبادرة البحار الثلاث»، المبادرة التي تقودها الولايات المتحدة من أجل إنشاء شبكة بنية تحتية لشبكة غاز في أوروبا الشرقية تقدم الغاز الطبيعي المسال الأمريكي كبديل عن خطوط أنابيب الغاز الروسي. لكن بولندا بموقعها في الجزء الشمالي من الممر هي فقط هي من لديها قدرة وصول مباشر إلى الغاز المستورد، بينما ليس لدى بلغاريا هذا الوصول المباشر، بل فقط وصول غير مباشر عبر اليونان أو تركيا.

تسعى تركيا لتكون مركز الغاز الأوروبي الجديد، وهو ليس بالحلم الجديد لمن يتابع قصّة «السيل التركي»، ولكن بعد المقترح الروسي المباشر بات حلماً قابلاً للتحقيق بقوة. كما يمكن لتركيا أن تنافس بلغاريا بشكل مباشر أيضاً كمسار لوصول الغاز الطبيعي المسال إلى جنوبي أوروبا عبر اليونان والبحر الأدرياتيكي، الأمر الذي ربّما سيكون علينا أن تستبعد إمكانيته في المستقبل القريب في حال استمرار تعمّق الصدع التركي الأمريكي وازدياد التقارب مع روسيا. في هذه الأثناء تسعى كلّ من إيطاليا وإسبانيا لتكونا مركزا توزيع الغاز الوارد من شمال إفريقيا إلى أوروبا.

بالنسبة للغاز الطبيعي المسال الذي لا يمكن نقله عبر الأنابيب، فالطريقة الوحيدة القادرة على تقليص تكاليفه بهدف إبقاء الصناعة الأوروبية حيّة هي عبر بناء منشآت تخزين ونقل غاز طبيعي هائلة. لهذا على الدول التي تريد أن تكون مراكز غاز فاعلة أن تستثمر المال والوقت لتطوير بنية غاز أوروبية لا تعتمد على الأنابيب. لكن إن أردنا أن نكون واقعيين آخذين بالاعتبار جميع العوامل المرتبطة بهذا الأمر، فإنّ أيّة بنية غاز لا تعتمد على الأنابيب وتعتمد على الغاز المسال الأمريكي ستكون مرتفعة التكاليف ولن تسمح للصناعة الأوروبية بامتلاك أيّة قدرات تنافسية. أي إنّه بمعزل عن الاستخدامات الأخرى للغاز وأحلام الدول المشاركة، يمكننا من هذا المنطلق الاستعداد لمراسم تأبين الصناعة الأوروبية، وليس هذا مرتبطاً فقط بما حدث حتى الآن، بل أيضاً «بحرب الدعم» المزمع إطلاقها، والتي تفتقد إلى المقوّم الرئيسي فيها كما سنرى.

«حرب الدعم»!

تعاني أوروبا اليوم من تدمير مزدوج من الولايات المتحدة. لم يعد خافياً أنّ «قانون تخفيض التضخم» الأمريكي الذي صدر في 16 آب 2022 قد شجّع الشركات الأوروبية – وبشكل رئيسي التكنولوجيّة – للانتقال إلى الولايات المتحدة. كان على قادة أوروبا أن يفهموا أنّ هذا القانون بمثابة «حرب اقتصادية» عليهم مصممة لجذب شركات أوروبا إلى الولايات المتحدة عبر تخفيض «النفقات الاجتماعية» عليها: تكاليف الطاقة والضرائب. ورغم الحديث عن التفاوض بين أوروبا والولايات المتحدة من أجل «تعاون أكبر» وليس التنافس على حدّ تعبير رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لين، فلا أحد لديه وهم أنّ هذه المفاوضات ستفضي إلى نتيجة ترضي الأوروبيين.

في الحقيقة حتّى فون دير لين، وهي من «بيروقراطية» الاتحاد الأوروبي التي تحمل الولاء للولايات المتحدة، لم تعد قادرة على إخفاء الشمس. في كانون الأول الماضي أثناء حديث لها في «جامعة أوروبا» في بروكسل، ذكرت بشكل تفصيلي المخاطر التي تضعها سياسة الولايات المتحدة الصناعية على أوروبا. في خطاب فون دير لين ذاته يمكننا أن نرى الدعوة المتجددة لتصبح أوروبا «رائدة الطاقة النظيفة العالمية» بحيث يمكنها الاستيلاء على حصّة السوق من المنافس الأبرز: الصين. فصّلت فون دير لين هدف الاتحاد الأوروبي بالفوز في مجال «الهيمنة التكنولوجية النظيفة». لتعلن بأنّ الاتحاد الأوروبي يعمل على مشروع قانون لدعم الصناعة الخضراء، والذي سوقت له على أنّه «مشابه بشكل صارخ» لقانون خفض التضخم الأمريكي. أي يمكننا أن نفهم من ذلك أنّ الاتحاد الأوروبي ينوي الدخول في «حرب دعم» مع الولايات المتحدة، فهل يمكن للأوروبيين عبر «حرب الدعم» إغراء صناعتهم بعدم مغادرة أوروبا إلى الولايات المتحدة؟

هناك مشكلة هنا، فحتى رئيسة المفوضية اعترفت بأنّ الدعم الحكومي الأوروبي سيتركز على البحث والتطوير وليس على تعزيز كامل سلسلة الإنتاج لتشجيع المستهلكين على شراء «المنتج الأوروبي». الأمر الآخر، أنّه من منظور مالي واقعي، لدى الولايات المتحدة فرصة وإمكانات أكبر في دعم هكذا نوع من المنافسة، والسبب الأهم توفّر الطاقة الرخيصة نسبياً في الولايات المتحدة. خاصة أنّ ذلك يتفق مع الإعلانات الأمريكية عن حظر بيع السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي في الولايات المتحدة بعد 2035، ما يعني خطة الانتقال الكلي إلى السيارات الكهربائية، وما يعني أيضاً أنّ هناك خطة أمريكية «للهيمنة على التكنولوجيا النظيفة» أيضاً.

لكن ما الذي ستفعله أوروبا مقابل أعمال تدمير المنافسة التي تقوم بها الولايات المتحدة؟ وفقاً لرئيسة المفوضية: الدعوة للتعاون في مجال الطاقة النظيفة من أجل الوقوف في وجه «الخصم المشترك» الصين! هل يمكن لسياسي جدّي أن يفترض أنّ الولايات المتحدة – بعد كلّ ما فعلته وتستمرّ بفعله مع أوروبا – ستغيّر سياستها معهم بهذه السهولة؟ ربّما على السياسيين الأوروبيين الحالمين أن يطرحوا السؤال الصعب: «لماذا ستقوم الولايات المتحدة ذات خطة الهيمنة التكنولوجية المشابهة، والتي أسعدها قدرتها على خنق المنافس الأوروبي، بالتراجع»؟

إنّ كلمة السر في أيّة خطّة أوروبية للحفاظ على الصناعة ورفض تدميرها ستعني أنّ على أوروبا أن توقف شكر الولايات المتحدة – كما فعلت فون دير لين – على «المساهمة الكبيرة في تعزيز أمن الطاقة في أوروبا» ببيعهم الغاز المسال مرتفع التكلفة، والبدء بمحاولة استعادة مصادر الطاقة الرخيصة من روسيا. التفكير في خطّة «لحرب دعم» مع الولايات المتحدة منطقي، ولكنّ مثل هذه الحرب لا يمكن الفوز بها ولا حتّى الوقوف في معركتها دون وجود سلاحها الأهم: الطاقة الأرخص التي يمكن إغراء الصناعة فيها بالبقاء في أوروبا. بغير هذا سيكون علينا كما قلت: أن نتهيأ لحضور مراسم تأبين الصناعة الأوروبية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1111