الإمبريالية والاستغلال الفائق لعمالة الدول غير الإمبريالية
أوديت الحسين أوديت الحسين

الإمبريالية والاستغلال الفائق لعمالة الدول غير الإمبريالية

يرى البعض أنّ الإمبريالية المعاصرة مفهوم يصعب فهمه. جزء من هذا مقصود دون شك، فالمستفيدون من الإمبريالية يحاولون تصنيفها كشيء من الماضي مرتبط ومشتق من التوسع الإمبراطوري القديم. لكن هناك في الحقيقة جانب معقّد للمسألة يتضمن تأطيرها النظري المرتبط بمسائل – على سبيل المثال لا الحصر – التبادل غير المتكافئ، وانكماش الدخل، وسلاسل قيمة العمالة، واحتكار التفوق التكنولوجي، والاستيلاء على القيمة، وهيمنة النظام المالي، والعقوبات، والحصار، والتدابير الاقتصادية القسرية، وبالطبع الحروب العدوانية والانقلابات والحروب المختلطة.

لكنّ هذه المسألة ليست نظرية فقط، ويمكن أن تؤثر بشكل كبير على تفسير الأحداث الجارية. مثال الجدل القائم: هل روسيا إمبريالية أو دولة رأسمالية غير إمبريالية، ليس هذا مجرّد نقاش نظري عابر بل هو تصنيف شديد الأهمية علينا أن نتخذ موقفاً منه. فالذي يريد الوقوف ومحاربة الإمبريالية عليه أن يفهم عدوّه الذي يتخفى في الكثير من الأحيان، كي لا يجد نفسه يحارب طواحين هواء، أو الأسوأ يحارب حلفاء قائمين أو حلفاء محتملين ليقدم بذلك خدمة للإمبريالية، لهذا من المهم فهم كيف تبدو الإمبريالية وكيف تعمل وأين نحتاج إلى ضربها.
في هذا المقال سأركّز على جانب واحد من سمات الإمبريالية: الاستغلال الفائق وسلب القيمة المصاحب له. إنّ التعريف التقليدي للاستغلال الفائق «Super exploitation» بكونه تخفيض الأجور إلى ما دون قيمة العمل شديد الأهمية، لكن كيف تمكن مواءمته بحيث يتماشى مع القيم المختلفة في أسواق العمل؟ في المركز الإمبريالي هناك استغلال للعمالة، وفي الأطراف هناك استغلال فائق للعمالة، يجعلني هذا متفاجئاً عندما أقرأ لأحد الذين يقولون عن أنفسهم أنّهم «يساريون» أو «ماركسيون» وهم ينكرون وجود مثل هذا «الاستغلال الفائق». هل يمكننا أن ننكر كمثال أنّ امرأة في سورية، أو في أيّة دولة أخرى من الدول الطرفية التي تعمل فيها المصانع لصالح الشركات الغربية وتشغل عمّالها لصالح هذه الشركات بعقود من الباطن، تعمل في المصنع لمدّة 12 ساعة وتقبض أجرها على أساس القطعة دون رعاية اجتماعية أو صحية أو معاش تقاعدي، هي عرضة للاستغلال أكثر من العمّال الذين يعملون في الدول الإمبريالية؟ هذا هراء تبريري للاستغلال الفائق ليس إلا.

الإمبريالية في فنجان قهوة

في مقال للكاتب الشهير جون سميث بعنوان: «الإمبريالية في فنجان قهوة»، يستخدم مثال فنجان القهوة الذي يشتريه الإنسان في أحد دول المركز الإمبريالي من المتاجر الشهيرة مثل «ستاربكس» أو «كوستا كوفي» ليشرح الآلية التي تقوم فيها الإمبريالية بالاستيلاء على القيمة أثناء إدارتها عمليات الاستغلال الفائق، ومن أبرز ما قاله:
يبلغ ثمن فنجان القهوة اليوم ما بين 3 إلى 3.5 باوند «£» في بريطانيا. إن قمنا بتحليل تكاليف فنجان القهوة سنجد أنّ الفلاحين الذين يزرعون القهوة يحصلون على بنس واحد «كلّ باوند واحد يساوي 100 بنس» من سعر فنجان القهوة 3 باوند. سيحصل التاجر أو الوسيط في البلد الذي تمّت فيه زراعة القهوة على بنس آخر – على أبعد تقدير. يتبقى لدينا 2.98 باوند ستظهر على أنّها من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا.
الأكثر إثارة للاهتمام أنّ قرابة 40٪ من سعر المبيع النهائي لفنجان القهوة البالغ ثمنه 3 باوند سينتهي به المطاف في يد الحكومة البريطانية عبر الضرائب على: الأجور والأرباح والإعلان والإيجار الذي يتقاضاه صاحب الأرض التي عليها منشأة المقهى. هذا هو المتوقع لأنّ إجمالي إيرادات الضريبة للدولة البريطانية يبلغ حوالي 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فبالمتوسط إنّ 40٪ من سعر البيع النهائي لأيّة سلعة ينتهي به الأمر في يد الدولة البريطانية.
إذاً 40٪ من سعر فنجان القهوة البالغ 3 باوند يعني 1.20 باوند، وإذا حسبنا أنّ الدولة البريطانية تنفق 30٪ من عائداتها الضريبية على خدمات الصحة العامة NHS، فهذا يعني أنّها تنفق هذا المبلغ من الـ 40٪ التي تحصل عليها من سعر فنجان القهوة. يمكننا أن نرى بأنّ الفلاح الذي أنتج القهوة في حقله والذي لا يمكنه تحمّل تكاليف الحصول على رعاية صحية أساسية له ولأطفاله، قد انتهى به المطاف وهو يساهم بـ 40٪ من دفع تكاليف الرعاية الصحية NHS في بريطانيا.
يُعتقد بأنّ هناك 25 مليون فلاح يزرع القهوة في العالم، معظمهم من صغار الفلاحين الذين يستخدمون عمّالاً من أسرهم: الأطفال، لزراعة وتنمية محاصيل القهوة. وإذا أخذنا بالحسبان أنّ بريطانيا تشتري 3.5٪ من محصول القهوة العالمي، فبحسبة بسيطة نجد أن قرابة 600 إلى 700 ألف فلاح يخصصون كامل حياتهم في العمل لإرضاء مستهلكي القهوة الذين يعيشون في بريطانيا.
هناك قيمة زائدة في فنجان القهوة من قبل المحامص في البلدان الإمبريالية أو في بلدان ثالثة، لكن القيمة الزائدة الأكبر في فنجان القهوة هذا قد ساهم به في الواقع فلاحو البن وأفراد أسرهم. تحجب الإحصائيات هذه الحقيقة وتجعلها تبدو كما لو أنّ قيمة عملهم الشاق، قيمة العمل الحي المطلوب لزراعة وحصاد حبوب البن التي يحتاجها فنجان القهوة، لا تساوي أكثر من بنس واحد!

إنكار القيمة

عندما يكون هناك منتج ما مصنوع في الصين أو بنغلادش أو فيتنام معروضاً للبيع في الدول الإمبريالية، فمن المرجح أنّ هذا المنتج لم تشرف الشركات الإمبريالية على صناعته بشكل مباشر، بل تمّت صناعته عبر طرف ثالث محلي، وهذا ما يسمّى اصطلاحاً: «علاقة الذراع الطويلة Arms-length relationship».
لن نتمكن عند تفحص الأمر بدون تحليل عميق من إيجاد أي أثر على تدفق الأرباح أو القيمة الزائدة التي تتدفق من البلدان الفقيرة إلى الثريّة. فإذا ما أخذنا ما ورد في كتاب أندريا ريتشي: «القيمة والتبادل اللامتكافئ في التجارة العالمية» عن مثال تصنيع الملابس التي يتمّ تصنيعها في بنغلادش، يمكننا فهم سلب القيمة والاستغلال الفائق بشكل جيد: «عندما تشتري ملابسَ كُتب عليها 30 باونداً من متاجر ماركس & سبنسر، سيكون باوند واحد فقط منها قد بقي في بنغلادش». سيعني هذا أنّنا سنقرأ في الإحصاءات بأنّ 29 باونداً هي من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا.
تعني علاقة الذراع الطويلة بشكل موضوعي أنّ الرأسماليين الإمبرياليين سيستمرون بالضغط على متعاقديهم من الرأسماليين المحليين المتعاقدين بجميع الوسائل من أجل تخفيض التكاليف والأسعار، ما يعني أنّ المحليين لن يكون لديهم لا الدافع ولا الحافز ولا القدرة على تحسين أماكن العمل أو الأجور، وسيستمرون في الاعتماد على الأدوات القمعية الخاصة بهم أو حتى تلك التي يمكنهم استغلالها في جهاز الدولة. منذ تسعة أعوام انهار برج رانا بلازا في بنغلادش ومات عمّال معمل النسيج في داخله، منذ ذلك الوقت والحملات العالمية تتحدث عن الضغط على الرأسماليين العالميين والبنغلاديشيين من أجل تحسين أجور وحياة عمّال النسيج. لكن في دراسة منشورة حديثاً، كان واضحاً أنّه بالرغم من جميع الوعود التي تلت الكارثة، كان المشترون العالميون يضغطون باستمرار على المنتجين في بنغلاديش لتخفيض الأسعار.
طالما أنّ الإمبريالية قائمة، فالتبادل غير المتكافئ والاستغلال الفائق وسلب القيمة قائم، والحل الوحيد هو الثورة ضدها وتوجيه الوعي الطبقي لفهم ما تعنيه «الإمبريالية»، أو على الأقل الوقوف على سماتها الرئيسية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1110