روسيا وسبيل الهروب الوحيد من مصير يوغسلافيا
دايان جاياتيليكا دايان جاياتيليكا

روسيا وسبيل الهروب الوحيد من مصير يوغسلافيا

ربّما يكون اشتعال التوتر في كوسوفو محض مصادفة، ولكن سواء أكان ذلك أم أنّه عمل مخطط، فإنّ له رمزيته الكبيرة بالنسبة للحرب الدائرة بين روسيا والغرب في أوكرانيا. فإن لم يكن الاتحاد الروسي يرغب في أن يعاني من المصير ذاته الذي عاناه الاتحاد اليوغسلافي، وإن لم تكن روسيا لتصبح صربيا الجديدة، فعليها أن تتفادى الأخطاء التي أدّت بصربيا إلى حالها، والتي يتمنى الغرب مجتمعاً أن تقوم بها روسيا من بوابة الدونباس.

ترجمة: قاسيون

من الناحية المثالية يعني هذا أن تنتصر روسيا في حرب دونباس، لكن كيف يمكن الوصول إلى هذه النتيجة من الناحية الواقعية؟ لنبتعد قليلاً عن التعقيدات العسكرية ولنعد إلى المصير الصربي لروسيا المعاصرة. بعض الأمور واضحة، ولكن أخرى ليست بهذا الوضوح.
كانت حرب الناتو ضدّ يوغسلافيا الدليل الأبرز على أنّ ما أراده الغرب في حقبة ما بعد الحرب الباردة. لم يكن الأمر متعلقاً بأيّ شكل من الأشكال بالفضاءات التي يشغلها الاتحاد السوفييتي السابق، فيوغسلافيا لم تكن يوماً جزءاً من الاتحاد السوفييتي، بل هي لم تكن في الكثير من المراحل على وفاق مع الاتحاد السوفييتي، وكانت تحاول أن تصدّر نفسها للعالم على أنّها دولة حياد بين الشرق والغرب. لكن هذا لم يمنع الناتو من قصفها وإزالتها من الوجود كدولة قائمة.
كان الغرب يريد أن يبني على إثر تدمير يوغسلافيا حقبته التي نشهد الصراع لتغييرها اليوم: النظام العالمي حيث للغرب وحده الكلمة فيما يحدث. منعت الولايات المتحدة والناتو الدولة اليوغسلافية من استخدام القوة داخل حدودها كدولة مستقلة ذات سيادة. هذا هو النظام العالمي الذي تقاومه روسيا اليوم وتعلن صراحة عن نيتها تغييره، وهو النظام العالمي الذي سنضطرّ للتعايش معه لو خسرت روسيا في دونباس اليوم. لكنّ الدرس الأكبر الذي يجب أن نستخلصه من يوغسلافيا أنّها استعدت بنفسها كي تُهزم رغم قدرتها على المقاومة، وسبب ذلك التحوّل في الإيديولوجيا والتفكير.
كانت يوغسلافيا منيعة من الناحية العسكرية. وبغض النظر عن رأينا في الحقبة التي حكم فيها المارشال تيتو يوغسلافيا، فقد كان النموذج الحاكم هناك مبنياً على نموذج الحرب «الحزبية» التي نجحت في قتال النازيين ورأب الانقسامات الداخلية. لهذا عندما تحوّل الجيش اليوغسلافي إلى جيش تقليدي للبلاد، كان مبنياً وقائماً على قدرته على خوض حرب طويلة المدى مع مستوى مقاومة لا محدود.
لكنّ الجيش اليوغسلافي، المهيأ للدفاع عن كامل يوغسلافيا، لم يستمد عقيدته من الفراغ، بل كانت عقيدته مندمجة فيما يمكننا أن نسميه اليوم «بالاشتراكية» اليوغسلافية، والتي جعلت يوغسلافيا تحت قيادة مجموعة من الحزبيين الذين نجحوا في بناء دولة اتحادية متعددة القوميات.
لكن بعد وفاة تيتو ووصول سلوبودان ميلوسوفيتش إلى السلطة على رأس «الحزب الاشتراكي الصربي»، تغيّرت العقلية ومنهجية التفكير إلى شيء سيكون مألوفاً لدى متابعي تطوّر روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. لقد بدأت المجموعات داخل الحزب الاشتراكي، والأحزاب القومية الصربية الأخرى، تخرج وتروّج لكون الاشتراكية والاتحاد اليوغسلافي لا يخدم الأغلبية الصربيّة، وبدأوا بتفكيك الإيديولوجيا العقائدية للدولة اليوغسلافية، لتحلّ محلها عقيدة قومية صربيّة تقابلها عقائد قوميّة أخرى للدول الأخرى في الاتحاد اليوغسلافي.
كان الجيش اليوغسلافي قادراً على النجاة من الحرب الجوية للناتو، والمقاومة وإنزال خسارات ثقيلة جداً بقوات الناتو، لكن لم يتم نشره على الأرض ليقاتل ويقوم بالأمور التي تدرّب على القيام بها. دون الجيش اليوغسلافي المدرّب والمجهز عقائدياً ليردع الغزاة، كان القوميون غير مهيئين لهزيمة الإمبريالية والدفاع عن بلدهم كما فعل من قبلهم أصدقاء اليوغسلافيين: الفيتناميون.

القطع مع حقبة يلتسين أولاً

بالعودة إلى روسيا، فقد اتخذت تحت قيادة يلتسين المسار ذاته التي اتخذته صربيا تحت قيادة ميلوسوفيتش، لينتهي بها المطاف تحت قيادته ضعيفة مفتتة بالكاد يمكنها الوقوف في وجه الغرب ونظامه. فهل تخلّت روسيا اليوم عن هذا الطريق بالكامل وعادت إلى المسار الصحيح الذي يمكنها من هزيمة الإمبريالية في أوكرانيا. علينا كي نجد إجابة على هذا السؤال أن نبسّط كلماتنا ولو بطريقة دراميّة: الجيش الأحمر تمكن من هزيمة الإمبريالية في حربين: الأهلية والعالمية الثانية، فهل يعمل الجيش الروسي اليوم بالعقيدة التي عمل الجيش الأحمر في ظلّها كي يتمكن من الفوز؟
إنّ الإستراتيجية الإمبريالية ضدّ روسيا هي ذاتها من حيث الجوهر منذ عام 1917، لكنّ روسيا هي التي تغيّرت، وجزء من عدم تمكنها من هزيمة الإمبريالية أنّها لم تستمرّ بالعقيدة التي بني عليها الجيش الأحمر. واليوم إذا ما أراد الجيش الروسي أن يهزم الجيوش والقوات الإمبريالية، آخذين بالاعتبار أنّ مصير روسيا مهدد بالزوال في حال عدم تمكنهم من النجاح في أوكرانيا، فعليهم أن يقاتلوا بعقيدة الجيش الأحمر: الاشتراكية والأممية التي تتخطى القومية الضيقة، ويمكنها أن تطحن القوميات والانقسامات في بوتقة واحدة.
الهدف– المعلن حتّى– من الحرب السياسية والعسكرية ضدّ روسيا: تدمير القاعدة المادية للبلاد، ومهاجمة الاقتصاد وسبل العيش والنسيج الاجتماعي للروس، وبالتالي تركيع البلاد على ركبتيها وإجبارها على تنصيب قيادة دمية من شأنها تحويل روسيا إلى دولة تابعة للغرب، وفتح مواردها لنهب الغرب.
ليست الحملة والإيديولوجيا الغربية ضدّ روسيا بالجديدة، فقد كانت حاضرة منذ الرغبة في خنق الرضيع البلشفي في مهده، كما قال تشرتشل يوماً، مروراً بإعلان أوروبا الحرة في هنغاريا 1956، وصولاً إلى وثيقة سانتا- في. إنّ محاولات التوسع المتتالي للناتو إلى الشرق، وقبله تدمير يوغسلافيا، كان بهدف ضمان أنّ هذا التمرّد الذي قد يخرج من روسيا ويقف في وجه الإمبريالية من جديد، لن يكون لديه الفرصة ليخرج.
لن يرضى الغرب حتى يتمكن من إعادة روسيا إلى التسعينيات البائسة، فهو يدرك بالتجربة المريرة له أنّ روسيا يمكن أن تنتج بشكل دوري قائداً قوياً تلو آخر يرفض الانصياع. أمّا التسعينيات فقد تمكنت من فتح الطريق لجعل روسيا «دولة طبيعية» تابعة.
حتّى تتمكن روسيا نفسها من النجاة من الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة/الناتو في أوكرانيا، أي الإستراتيجية الإمبريالية، فهناك مهمة غير قابلة للتأجيل هي أن يصبح الجيش الروسي من جديد هو الجيش الأحمر. لكن لا يمكن للجيش أن يقاتل مثل الجيش الأحمر، والعقيدة «الحمراء» تمّ محوها أو محاربتها، واستبدالها بعقيدة ونموذج تمّ تجريبه من قبل وفشل. يجب على قوى الدولة الروسية أن تتحرّك بسرعة للإطاحة بالحقبة التي قطعت مع الجيش الأحمر، وأن تعيد إنجابه إن كانوا يرغبون في تحقيق الانتصارات التي حققها.
لن يكون هذا قابلاً للتطبيق عسكرياً فقط، بل على روسيا العودة إلى حيث أكد ستالين على الصناعة الثقيلة، بما في ذلك الاعتماد على الذات في تصنيع آلات إنتاج الآلات. تخبرني تجربتي أن لدى روسيا في مؤسساتها البحثية الاقتصادية كلّ القدرات اللازمة لسياسة إبداعية لمواجهة العقوبات والتغلب عليها، فإن كانت كوبا قادرة على النجاة من عقوبات الولايات المتحدة والوصول إلى إنتاج لقاحين لفيروس كورونا، فهل تعجز روسيا؟ على روسيا العودة إلى استخدام ما سماه ستالين: «حزام نقل» بين الشعب والدولة يمكنها من استعادة الإيديولوجيا القادرة على هزيمة الإمبريالية.

بتصرّف عن:
If Russia Is Not to Be Reduced to a Second Serbia
The Second Great Patriotic War and Russia’s Reformatting

معلومات إضافية

العدد رقم:
1103
آخر تعديل على الإثنين, 02 كانون2/يناير 2023 22:16