النظام العالمي القديم مات بالفعل..
تيموفي بورداتشيف تيموفي بورداتشيف

النظام العالمي القديم مات بالفعل..

التناقض المهم الذي واجهته روسيا على الساحة الدولية في عام 2022 هو مزيج من السياق العالمي المؤاتي تماماً مع العقبات الهائلة التي تحول دون تحقيق أهداف محددة للسياسة الخارجية. فمن جهة كانت الحرب المستمرة اليوم هي آخر حلقة في مناهضة حكم الغرب الذي دام لعدّة قرون. من جهة ثانية لدى عدوّ روسيا موارد «ресурса» كبيرة تعينه على إطالة القتال. ليس هناك شكّ في أنّ معظم هذه القصص ستبقى تتفاعل مع تأثيراتها في عام 2023، وكلّما كنا أكثر تحضراً أدركنا بنجاح تشكيل النظام العالمي الجديد الذي تلعب روسيا بقطيعتها مع الغرب دوراً هائلاً في تشكيله.

ترجمة: قاسيون

النظام العالمي القديم مات. كانت آخر محاولة لإحيائه قيام الولايات المتحدة بعقد ما يسمّى «قمّة الديمقراطيات» في 2021، والتي لم تكن فقط بلا معنى، بل فشلت في أن تترك أثراً معلوماتياً على الأقل. ليس من المصادفة أنّها لم تتلقَ أيّة استمرارية ذات قيمة. لقد مات النظام الغربي لأنّ أكثر الدول تطوراً من الناحية الاقتصادية والعسكرية قد فقدت القدرة على الحكم مع تقدير ما سيفعله الآخرون للنجاة. إنّ قدراتهم التحكّمية الكبيرة قد أثبتت أنّها بلا جدوى في القمع الاستباقي لأولئك الذين يتمردون ويرفضون اتباع أوامر واشنطن.
الأداة الوحيدة التي بقيت للولايات المتحدة وأوروبا في 2022 هي الإكراه والتهديد. علينا أن نقرّ اليوم بأنّه حتّى تعاون دولي مستقر نسبياً لم يعد له أساس جيّد اليوم. فعندما نقول أنّ دولة محددة أو شركاتها قد «امتثلت للعقوبات ضدّ روسيا»، فهذا يعني أنّ الأشخاص المعنيين قد تعرضوا لتهديد حاليّ ومباشر لأمنهم أو لرفاههم الاقتصادي النسبي. ضمن هذا النمط يمكن للغرب محاربة روسيا أو الصين، لكن يستحيل عليهم إنشاء أيّ شيء يقلل من التبعية الجديدة وخلق طرق بديلة عامة للتواصل.
المثال الممتاز هو نتيجة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة. يبدو أنّ المزيد فالمزيد من الدول حول العالم، حتّى تلك التي لديها مجموعة من الرسميين الذين يريدون إدانة الأفعال الروسية، ليست مستعجلة لفعل ذلك، فهم مدركون بشكل تام بأنّهم قد يكوّنون الأهداف التالية للضغط.
لكن الأكثر أهمية هنا أنّ تقليص الاعتماد على الغرب يصبح شرط تنمية هام بالنسبة للكثير من الدول في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. كيف سيستجيبون لهذا التحدي، لا الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الأوربيون يعلمون ما سيفعلون بعد. لهذا يتبعون أسهل الطرق عبر محاولة إقناع مواطنيهم بأنّهم الأفضل بينما لديهم العنف فقط تجاه البقية.
يتحول العالم الغربي اليوم – الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهم القلائل – إلى مخيم عسكري في مواجهة بقية البشرية. لديهم بالفعل تجربتهم التي يعتمدون عليها، فالإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية نشأت من خلال الحرب والإكراه. لكن العالم في حينه لم يكن عالماً من الدول ذات السيادة، والتي وصل معظمها اليوم إلى مرحلة من التطور تسمح لهم باتخاذ قراراتهم المستقلة. في ذلك الوقت لم تكن الصين موجودة لتقدم بدائل، وكانت روسيا جزءاً من العالم الإمبريالي ولم تكن بعد ضدّه. لهذا فمسألة قدرة المخيم العسكري الغربي على استعادة بعضٍ من مكانته هي اليوم مسألة «إيمان» وليست مسألة «معرفة». لكن لا يمكننا أن ننكر أنّه لا يزال هناك كثيرون ممّن «يؤمنون» بالقدرة الغربية المطلقة، ومنهم موجودون ضمن روسيا.
علاوة على ذلك، لدى الولايات المتحدة وأوروبا موارد ضخمة. كانوا قادرين حتى الآن على التأثير بشكل مدمر على معظم البنية التحتية الهامة في العالم المعاصر: التجارة الدولية والتمويل. أكبر ميزة يتمتع بها الغرب هي بنيته الاستبدادية المتكاملة هرمياً. ففي الوقت الذي يكون لدى المجتمع الدولي شكوكه ومخاوفه على مصالح مواطنيه وأمنهم، لا تقلق الحكومات الغربية بشأن عواقب أفعالها على الأمريكيين أو الأوربيين العاديين. بالإضافة إلى أنّ الناخبين مستعدون لتحمل الصعوبات آملين بالعودة إلى حياتهم الهادئة على حساب بقيّة العالم الذي يكافح. بأيّة حال، يظهر لنا التاريخ أنّ الأنظمة المستبدة يمكنها أن تكون ناجحة تكتيكياً فقط، بينما تخسر دوماً إستراتيجياً.
لدى المخيم الغربي قواته المستعد للتضحية بها، والتي يتمّ رميها كي تُذبح. هم اليوم شعب ما بقي من أوكرانيا، وبشكل جزئي دول شرقي أوروبا التي تشمل فنلندا، الدولة التي باتت جامحة في الأشهر الأخيرة، وربّما أيضاً شعب تايوان. المسألة الأوكرانية هي دراماتيكية بشكل خاص حتّى الآن، فعندما بات الجميع مقتنعاً بأنّ شعب هذه المنطقة غير قادرين على إنشاء دولة متساوية وصديقة لجيرانها، تحولت إلى أداة للحرب بأكثر الصور فجاجة. علاوة على ذلك فقد سهلت ثقافة العنف والعدوانية المتجذرة هناك من الأمر. في 2022 عادت منطقة أوكرانيا إلى موقعها التاريخي لتكون «حقلاً جامحاً» على الحدود الأوروبية الروسية. حتى الآن لا تزال هذه الموارد في أيدي الولايات المتحدة وأوروبا، والأحداث العسكرية تظهر أنّ الكفاح لإصلاح عقول الأوكرانيين سيستمر إلى وقت طويل.
على الصعيد العالمي لا تحتاج روسيا للقتال من أجل الحصول على تعاطف شعوب وحكومات الدول التي تشكل 85٪ من سكان العالم، وهذا جليّ في رفض الكثير من الدول فرض عقوبات على روسيا. هذا التعاطف موجود بالفعل إلى جانب روسيا، وجزء منه مسؤول عنه الوضع الروسي، ولكن معظمه نابع من تمييز الكثير من الدول المستقلة لمصالحها. السبب هو الرغبة البسيطة في حرية تحديد كيفية التطور بدلاً من البحث عن مكانهم في «سلسلة الغذاء» التي تقودها الولايات المتحدة. هذا هو الأساس لنشوء ظاهرة جديدة في 2022 شملت غالبية العالم: مجموعة الدول التي تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة، وتريد في الوقت ذاته أن تتخلّص من السيطرة التي يمارسها عليها الغرب.
لكنّ موت النظام القديم لا يعني أنّ الطريق انتهى، فالتعاطف والرغبة بالتعاون لن تجعل الدول الصديقة لروسيا تضحي بمصالحها من أجل حقوق الدولة الروسية. إنّ تغيير النظام العالمي هو عملية طويلة ومكلفة على الجميع، وعلى الجميع أن يدخروا طاقاتهم لأجلها. حتى اليوم يجد الكثيرون في روسيا صعوبة في فهم وقبول دوافع الآخرين، فالكثير من المراقبين اعتادوا أن يكونوا مثل الغربيين: يفكرون في الحاضر من منظور الماضي. لهذا على روسيا أن تفهم بأنّ شركاءها وداعميها من الغالبية العالمية يقومون بذلك سعياً لرغبة موضوعية في تحقيق مصالحهم. لهذا فإنّ مؤشرات مثل نمو معدل التجارة التي تجري بين روسيا ودول مثل الصين وتركيا وغيرها شديد الأهمية، وخاصة في مجال البضائع عالية التقنية. ينطبق هذا على جيران روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق الذين لا تتطابق خياراتهم على الدوام مع الخيارات الروسية.
إنّ الحدث الأهم في 2022 ليس انهيار النظام العالمي القديم، بل بداية تشكّل نظام جديد. وقاعدة القوة لهذا النظام هي: الغالبية العالمية التي تسعى إلى الاستقلال وتحقيق مصالحها. قاعدة القوة للنظام السابق هي الكتلة العسكرية الاقتصادية للغرب الذي يدافع بنشاط عن موقعه ويظهر القدرة والاستمرارية على استخدام موارده. لهذا فروسيا هي أحد أهم اللاعبين في تشكيل النظام العالمي الجديد الذي سيكون عام 2023 شديد الأهمية لمنحه شكله، فروسيا تجاوزت بالفعل في علاقاتها مع الغرب خط المواجهة العسكرية-السياسية.

بتصرّف عن:
Старый мировой порядок умер

معلومات إضافية

العدد رقم:
1104