لماذا يزعج كأس العالم في قطر الغربيين؟
أوديت الحسين أوديت الحسين

لماذا يزعج كأس العالم في قطر الغربيين؟

يهاجم الإعلام الغربي كأس العالم في قطر بشكل محموم يجعل حتّى المتابعين غير المعتادين يستغربون هذه «الغيرة» الغربية المفاجئة على حقوق وحريات الإنسان في دول الخليج، وهي الدول التي لطالما لعبت دور الحليف/ التابع للغرب. فما الذي أثار «حميّة» الغربيين؟ إنّ متابعة ذرائع الإعلام الغربي الذي يبرر فيها هجومه تجعلنا نتوصل إلى أنّ الغرب وإعلامه بات حتّى أكثر فراغاً من إقناع أيّ أحد بأجندته.

من يتحدث عن حقوق العمال الآسيويين والأفارقة المنتهكة في قطر والخليج عموماً، ألم يخطر بباله أن يتابع على أقل تقدير تقارير منظمة العمل الدولية عن الاستغلال المستمر لهؤلاء العمّال قبل عشرة أو عشرين عاماً وهل يقتصر هذا الاستغلال المستمر على بناء منشآت كأس العالم؟ ومن يتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية، هل فاته هذا النقص الديمقراطي في دول الخليج عندما كان يهاجم دولاً مثل كوبا وفنزويلا بالذريعة ذاتها؟ أمّا الذين يتحدثون عن الفساد والرشاوى للحصول على حقّ تنظيم كأس العالم فمّما يثير السخرية أنّ بعض أبرز هؤلاء المنتقدين هم أيضاً على أبرز لوائح الفساد وتلقي الرشاوى المباشرة وغير المباشرة، سواء أكانوا رسميين في الفيفا أو سياسيين أوروبيين. لنحاول أن نفهم ما يجري ضمن نقطتين رئيسيتين.

الخليج يتحسس رأسه

كان واضحاً للمتابعين لمشهد العلاقات المتغيرة بين دول الخليج والغرب الذي تتزعمه الولايات المتحدة أنّ الأعوام الثلاثة الماضية على أقلّ تقدير قد أخرجت للعلن مواقف خليجية رافضة لإملاءات الغرب لم يكن حتّى أشدّ المتابعين تفاؤلاً يتوقّع أن دول الخليج قادرة عليها.
سواء أكنّا نتحدث عن قرار السعودية بالاتفاق مع روسيا زيادة ضخّ النفط وتكبيد قطاع النفط الصخري الأمريكي خسارات هائلة أثناء أزمة كورونا، مروراً برفض دول أوبك+ زيادة ضخّ النفط بكميات كبيرة لتخفيف الضغط الناجم عن الحرب في أوكرانيا، والتعاقدات السعودية والإماراتية مع روسيا على صفقات سلاح وحبوب وغيرها ورفض اعتماد نهج العقوبات الغربي ضدّها، وتعاقدات النفط والغاز والعقود طويلة الأجل مع الصين الذي وصل إلى حدّ الإعلان عن الاستعداد لبيع النفط مقابل اليوان واستبعاد الدولار، وصولاً «للغزل» الدبلوماسي المتبادل مع إيران لتقزيم الخلافات التي لطالما لعبت الولايات المتحدة على وجودها وإدامتها. كلّ هذا يجعل الغرب «حساساً» لكون تابعيه القدامى يقرؤون خارطة التغيير العالمي بشكل جيّد ويسعون إلى التأقلم مع ظروف النظام العالمي الذي يتشكل. يمكننا في هذا السياق أن نفهم قيام مجلّة إيكونوميست الشهيرة بوصف محمد بن سلمان بأنّه أحد «أخطر رجال الألفية».
النخب في قطر ليست مختلفة عن بقيّة النخب في دول الخليج، والتي تحاول السعي لإدامة مصالحها ووجودها بمنح نفسها المرونة للتحوّل على الساحة الدولية تحضراً للنظام العالمي القادم. لكن إن أردنا أن نفصّل الخلافات الغربية الأخيرة بين ما أراده الغرب وما فعلته قطر، فسيخطر في بالنا أمران على قدر كبير من الأهمية: دعم قطر للمشروع الروسي– التركي لإنشاء مركز عالمي للغاز في تركيا، وهو المشروع الذي سيشكّل نقطة تحوّل كبرى في الخارطة الجيوسياسية القادمة للطاقة، ورفض قطر التراجع عن محادثات تزويد الصين بالغاز بالعقود طويلة الأجل أو برفع الأسعار، وهي المحادثات التي اكتشف الأوروبيون– الذين يشترون الغاز اليوم من السوق المباشرة– بأنّها أسفرت عن توقيع أكبر صفقة غاز طبيعي مسال في العالم بين شركة «قطر للطاقة» وشركة سينوبيك الصينيّة بقيمة 60 مليار دولار وتمتدّ إلى 27 عاماً.

منظومة الهيمنة الثقافية

لدى الرأسمالية الغربية المهيمنة منظومة ثقافية تابعة أبرز معالمها: الفردية والتفتيت المجتمعي وإعلاء قيم النخب الثقافية التي تشرّع استغلال الطبقة العاملة، وتظهر هذه المنظومة للعلن في جميع المجالات الحياتية التي تشكّل الرياضة جزءاً منها. ولأنّ الرأسمالية هي «إمبراطورية» ممتدّة على طول العالم، فمن المهم لها أن تفرض منظومتها الثقافية لإدامة قدرتها على التجدد والشرعنة، وذلك باستخدام المؤسسات الثقافية التي تسيطر عليها ويمكنها توجيهها.
إذا ما أردنا إسقاط الفكرة السابقة على كأس العالم في قطر، فإنّ الفيفا ليست مؤسسة محايدة، بل هي واحدة من المؤسسات التي يسيطر عليها الغرب ويستخدمها لإدماج المجتمعات ولضرب «العاصين» وتأديبهم. ولهذا عندما لا يتمكن الغرب من استخدام الفيفا ولعبة كرة القدم بالشكل الهادئ من أجل الترويج لقيم تصادمية وتفتيتيّة للمجتمع مثل «حقوق مجتمع الميم» أو «حقوق الإنسان» في مسائل ثانوية ليست رياضية مثل السماح بشرب الكحول داخل الملاعب، يصبح الجنون الإعلامي والضغط السياسي هي الأداة التي يحاول فيها فرض هذه المنظومة. بالنسبة للغرب ومشاريع «إعادة الضبط الكبرى» التي بدأ تسويقها من منتدى دافوس، فالطريقة لتسويق هذه المشاريع هي باستخدام الأحداث العالمية الكبرى، والتي يشكّل كأس العالم جزءاً منها.
ناهيك عن أنّ هذا الجنون الإعلامي يخدم هدفاً شديد الأهمية بالنسبة للرأسمالية: صدام الثقافات. فالغرب في كرة القدم كما في كلّ شيء آخر، يريد أفراداً ومجتمعات يتصارعون على القضايا الثانوية ولا يلتفتون إلى القضيّة الرئيسية. ربّما لهذا نرى بأنّ عدداً هائلاً من المدافعين عن «قطر» وكأس العالم اليوم هم– عمداً أو جهلاً– جزء من هذا الصراع الذي يتخذ أشكالاً غير حقيقية، بل وغير منطقية في بعض الأحيان.
إذا ما أردنا البحث عن القضايا الرئيسية التي يمكن رصد أبرز تجلياتها في سياق الحديث عن كأس العالم، فربّما من الأولى الحديث عن إيقاف منظومة استغلال العمّال بالكامل سواء في دول الخليج أو في أوروبا أو في جميع أنحاء العالم. فالعمالة التي تمّ استغلالها في قطر ليست مقتصرة على بناء منشآت كأس العالم، وهي قضيّة يجب أخذها على محمل الجد دون شك. قد يكون من الأولى أيضاً العمل من أجل إزالة كرة القدم مع مؤسساتها ولاعبيها وتمويلها من قائمة «الترفيه» الرأسمالي والاستخدام السياسي، وتنظيفها من «الخطايا» التي يتحتم وجودها مع مبادئ الربح الأقصى، مثل الإدمان والقمار والفساد والاحتكار، لتعود إلى كونها جزءاً من التعبيرات الإنسانية المجتمعية والثقافية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098