«تصدعات» مجموعة العشرين وواقع العالم اليوم
قبل عام 2008 لم يكن لمجموعة العشرين واجتماعاتها صدىً كبير، ولكن على خلفية الأزمة المالية التي زعزعت ثقة الغربيين بأنفسهم وبمؤسساتهم، حاول الغرب تلميع مجموعة السبع المتعثرة من خلال إشراك القوى الصاعدة– على رأسها الصين– لإظهار جانب من العصرية، فتمّ توسيع جدول أعمالها ومشاركة رؤساء الحكومات والدول. لكن لطالما حاول «التكتل الغربي» بقيادة الولايات المتحدة أن يظهر نفسه كمركز العالم الذي تدور بقيّة دول مجموعة العشرين حوله، فهل كانت إستراتيجيته ناجحة كما ظهر في آخر لقاء للمجموعة في بالي في إندونيسيا؟ وما هو موقف الولايات المتحدة؟
ربّما الحدثان الأبرزان لنركّز عليهما في تحليلنا هما: البيان الختامي، واللقاء الأمريكي الصيني على الهامش. في الحقيقة بدأت الخسارة الغربية- الأمريكية منذ ما قبل القمة حين دعا الرئيس بايدن إلى إخراج روسيا من مجموعة العشرين، وردّ الصين بأنّ «روسيا عضو مهم في مجموعة العشرين ولا يحق لأيّ عضو طرد دولة أخرى منها»، ومعارضة البرازيل الواضحة لذلك، ناهيك عن رفض إندونيسيا والهند وجنوب إفريقيا لدعوة بايدن.
حاولت الولايات المتحدة أن تكسر قاعدة ذهبية في لقاءات مجموعة العشرين: لا حديث عن القضايا الأمنية، لتظهر بأنّها لا تزال قادرة على إملاء ما تريد على الجميع. كانت محاولة الضغط من أجل إدانة روسيا بشأن أوكرانيا هي مناورة مكشوفة يريد صاحبها أن يبرز كمهيمن، لكنّها فشلت ولم يحوِ إعلان بالي إدانة لروسيا بشأن أوكرانيا، لدرجة أنّ المتحدث باسم الكرملين، بيسكوف، قد صرّح بأنّ البيان الختامي: «انتصار للفطرة السليمة والحل الوسط».
أما اللقاء على الهامش بين بايدن والرئيس الصيني شي جين بينغ فهو أمر أكثر تعقيداً. يذهب البعض في تحليل سببه إلى أنّ بايدن كان يأمل أن يزرع بذرة شرخ بين الصينيين والروس، ولكن إذا ما راقبنا الأحداث الأخرى فقد لا نصل إلى النتيجة ذاتها، خاصة أنّ الإدارة الأمريكية مستمرة في محاولة تصعيد حربها الاقتصادية ضدّ الصين ودعم تايوان الاستفزازي ونشر الغواصات النووية مع أستراليا... وكلّ ما يثير حفيظة الصين ويقوّي تحالفهم مع الروس ولا يضعفه.
مؤخراً اجتمع رئيس المخابرات الأمريكية مع نظيره الروسي في تركيا، وهو الأمر الذي غطّته وسائل الإعلام الغربية بكثافة بشكل غير معتاد في هكذا لقاءات، ونقلته على أنّه «تحذير أمريكي لروسيا بعدم استخدام السلاح النووي». لكن قد يكون هذا الاجتماع في الحقيقة هو بداية لظهور «رسمي» للأمريكيين بوصفهم المحاربين الفعليين في أوكرانيا، مع ما يرتبه ذلك من مفاوضات. لكن إن لم يكن لدينا ما يكفي للحديث عن نيّة تفاوض حقيقية، يمكننا أن نستنتج من الردود السريعة من قبل القيادات الأمريكية، وقيادات الناتو، بشأن الصاروخ سوفيتي الصنع الذي سقط في الأراضي البولندية وإنكار إطلاقه من الأراضي الروسية، بأنّ الأمريكيين على أقل تقدير لا يريدون تصعيداً جديداً للنزاع مع روسيا.
إذا ما حاولنا الابتعاد عمّا يدور في عقل بايدن عند طلب اللقاء مع شي جين بينغ وما كان يهدف من ذلك، فالأمر الذي يثبته سلوك التعاطي الأمريكي الأخير مع الروس والصينيين أنّ الولايات المتحدة لم تعد مستعدة أو قادرة على الاستمرار في تحمل عبء لعبة الهيمنة بالأسلوب ذاته.
لا بدّ وأنّ هذه «الصحوة» الأمريكية مرتبطة بشكل أو بآخر بالتصدعات ليس بين أعضاء مجموعة العشرين وحسب، بل أيضاً ضمن «التكتل الغربي». فبقدر ما كررت أوروبا صرخات الحرب الأمريكية في أوكرانيا، تشهد أوروبا اليوم إعادة تفكير عميق كبيرة فيما حدث، حيث إنّ «الاستقرار الأوروبي الإستراتيجي» يعني محاولة الأوروبيين التخلّص من آثار تصرفهم السيء، وإعلانهم بشكل مسبق عن نأيهم بأنفسهم عن أيّ اشتراك بترديد الصرخات الأمريكية ضدّ الصين، وهو ما يمكن استخلاصه من الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني شولتز إلى بكين بشكل واضح، أو من الانتقادات الأمريكية الصريحة لهذه الزيارة.
ورغم أنّ الاتحاد الأوروبي قد أثبت بأنّه أضعف من أن يكون حيوياً بأيّ شكل من الأشكال فيما يخصّ القضايا التي تخدم مصالحه، فالواقع أنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على توفير قيادة اقتصادية عالمية فعالة بعد أن فقدت مكانتها البارزة كأكبر اقتصاد في العالم بهامش واسع. علاوة على عدم قدرتها على عرض أيّ شيء يضاهي الحزام والطريق الصيني أو مشاريع التنمية الرديفة له.
بحلول الوقت الذي ستعقد فيه قمّة العشرين التالية في الهند العام المقبل، قد تصبح خطوط الصدع التي ظهرت في بالي ودياناً عميقة تمنع الولايات المتحدة من فتح جبهات تصعيدية أخرى بالوكالة عنها في العالم. إنّ انجذاب دول مجموعة العشرين غير المنتمية لتكتّل الغرب، مثل تركيا والسعودية وإندونيسيا، نحو بريكس هي رسالة قوية مفادها أنّ الإستراتيجية الأمريكية بتحويل المجموعة إلى حلقة تابعة هي أوهام من الماضي، وأنّ ما أعلنه بوتين في مؤتمر فالداي من أنّ العالم الذي عرفناه حتى الآن قد وصل إلى نهايته واقع وليس تنبؤاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1097