المؤشّر لولادة «هويّة أوروبية مستقلة»
إذا ما أردنا الحديث عن الواقع الجيوسياسي اليوم، فأوروبا تتحوّل إلى مكان ذي ماضٍ كبير وحاضر يقرب من «التافه». هذه ليست محاولة بلاغية لتقزيم الدور الأوروبي العالمي، فالأرقام والإحصاءات– العسكرية والاقتصادية– تؤكد ذلك. لكن هل ستستمر نخب أوروبا في التسامح مع السياسات التي تجعلها أكثر تبعية للولايات المتحدة وربّما تقضي عليها نهائياً؟ يستحق هذا جردة سريعة.
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بدأت بعض الأصوات الأوروبية تخرج لتحذر من الانجرار الأعمى وراء السياسات الأمريكية، ولتطالب بصياغة سياسات أوروبية مستقلة تراعي مصالح أوروبا. بعض هذه الأصوات كانت مستترة بشعارات ودعوات أخرى، وبعضها كان واضحاً في عدائه للأمريكيين. اليوم بات الوقوف في وجه تسليح أوكرانيا والدعوة إلى التفاوض والسلام هو المؤشر الأهم بالمعنى السياسي لتعاظم الموقف الأوروبي الرافض للبقاء تابعاً لواشنطن.
منذ شهر آذار الماضي، كتب هانس كونداني، مدير مركز أبحاث «Chatham House» النخبوي في لندن: «على أوروبا أن تتجنب الوقوع في الفخ الذي نصبه المحافظون الجدد في المملكة المتحدة والولايات المتحدة اللذين يسعيان إلى تأطير السياسة الدولية على أنها صراع عالمي بين الديمقراطية والاستبداد. التاريخ ليس حكاية أخلاقية. إن السرعة التي غيّر بها الاتحاد الأوروبي مساره وحقيقة أنه لا أحد يعرف الاقتصادات التي ستتضرر بشكل أكبر ومتى، هي أمر مرعب. إن الاعتماد المتبادل بين روسيا واقتصادات الاتحاد الأوروبي أكبر مما يتصور كثير من الناس. سيمنع التأثير المضاعف للعقوبات تصدير القمح الروسي والأوكراني إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هل القادة الأوروبيون بحاجة إلى من يذكرهم بأنّ انعدام الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار ساعدا على اندلاع الثورات في جميع أنحاء الأراضي العربية في 2011؟».
النخب الأوروبية تخاف أن تُسحق
في بريطانيا، ذكّرت مظاهرات حملة «جمعيّة الشعب People’s Assembly» المناهضة للتقشف والخصخصة الناس بأنّ سياسة الشارع لم تمت، وبأنّ النخب الحاكمة البريطانية غير القادرة على إبقاء رئيس وزراء ليس لديها حلّ للمشكلات. ربّما الخوف من الشارع هو ما دفع رئيس الوزراء الجديد ريتشي سوناك إلى رفض إقرار الزيادة في الموازنة الدفاعية التي تمّ تمريرها في عهد سلفه تراس.
علّقت صحيفة «مورننغ ستار» البريطانية على موقف سوناك بالقول: «... هذا رفض خفي للضغط الأمريكي على الدول الأوروبية لزيادة الإنفاق العسكري. قد يتمّ إجبار الحكومة على القبول بها بسبب أزمتها المالية، لكنّها رغم ذلك تعتبر خطوة معبّرة».
في إيطاليا نزل أكثر من 100 ألف شخص إلى الشوارع للتظاهر من أجل السلام. كانت صرخة شديدة الوضوح تكشف عن حجم مناهضة الناتو في الفضاء السياسي- الشعبي الإيطالي. تمّ توجيه النقد العنيف لإنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق وزعيم «الحزب الديمقراطي PD»، بسبب نفاقه وظهوره في مظاهرات السلام، والتزامه مع حزبه بزيادة صادرات السلاح إلى أوكرانيا. في باريس وبراغ نسمع أصواتاً متزايدة مناهضة للناتو، ومناهضة للاتحاد الأوروبي. وفي بعض دول أوروبا الأخرى، مثل بلغاريا، وصل الأمر إلى دعوة بعض السياسيين إلى: «تقسيم أوكرانيا بين أوروبا وروسيا ورفع العقوبات وعدم الانقياد وراء الولايات المتحدة».
تشهد المدن الألمانية بدورها وبشكل مستمر مظاهرات تطالب الحكومة بإيقاف نزيف الاقتصاد الألماني، والائتلاف الحاكم كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار على مسألة الطاقة النووية. ربّما زيارة شولتز إلى بكين في هذا السياق تعني شيئاً، وربّما كما يشير البعض فإنّ شولتز: «عضّ لقمة يصعب عليه مضغها» حيث إنّ الانتقادات الأمريكية الصريحة لهذه الزيارة ستكفي لوأد أيّ معانٍ لها. يرى البعض بأنّ شولتز يحاول الاستعانة بماضي أسلافه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني: فيلي براندت «1969 - 1974» وهيلموت شميدت «1974 - 1982». قام هذان بمبادرات رائدة تجاه الاتحاد السوفييتي السابق والصين على التوالي خلال لحظات حاسمة في التاريخ الحديث، ليتحديا بذلك قيود الناتو والتبعية للولايات المتحدة.
بالنسبة لعدد كبير من المراقبين، فهؤلاء كانوا قادة على طراز يفتقد له شولتز ومن حوله، ولكن أيّاً يكن من سيشغل منصب المستشار في ألمانيا فعليه أن يتعامل مع حقيقة أنّ العقوبات ضدّ روسيا قد أصابت ألمانيا بضربة شديدة، وأنّ قطّاعات اقتصادية بأكملها توشك على الانهيار، أو الانتقال إلى الولايات المتحدة «سيكون لانتقال الشركات من ألمانيا إلى الصين أو إلى الولايات المتحدة- هو مسرحٌ جديد من الصراع في الحقبة القادمة، ففي حين أنّ المدراء التنفيذيين لبعض أهمّ الشركات الألمانية مثل بوش ومرسيدس بنز قد رفضوا وفقاً للتقارير الصحفية مرافقة شولتز إلى بكين، فهناك شركات مثل BASF، الشركة الكيميائية الألمانية متعددة الجنسيات الأكبر، قد نقلت إنتاجها إلى الصين من أجل إدامة قدراتها على المنافسة».
تجنّب السحق الاقتصادي
يمكننا عبر النظر إلى التغيرات في أسعار الصرف بين الدولار الأمريكي واليورو أن نرى اتجاه تدفقات رأس المال. لطالما تمتعت أوروبا ببيئة استثمار جيدة جذبت الاستثمار من العديد من البلدان، بما في ذلك الصين. لكن في إطار فرض عقوبات على روسيا، تزايدت الدعوات من جانب مؤسسات الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي للمطالبة بمصادرة الأصول الروسية، الأمر الذي جعل المستثمرين الأجانب– وخاصة المستثمرين الصينيين– مليئين بالشكوك. تسعى الولايات المتحدة بشكل واضح إلى عزل أوروبا ضمن تحالف يتعامل مع روسيا والصين بوصفهما «محور شر». إذا استمر الاتحاد الأوروبي في اتباع النمط الأمريكي وتضخيم التنافس المؤسسي مع الصين في المستقبل، فهل ستظل الشركات الصينية تعتبر استثمارها في أوروبا آمناً؟ إذا تدهور الوضع الأمني في أوروبا وارتفعت تكاليف الطاقة بشكل حاد، فما هي فرص نجاح جهود الاتحاد الأوروبي في إعادة التصنيع، أو الإبقاء على الموجود على أقلّ تقدير؟
في الحقيقة لا تبذل الولايات المتحدة الكثير من الجهد لإخفاء نيتها تدمير أوروبا اقتصادياً. فإذا ما نظرنا إلى «قانون تخفيض التضخم الأمريكي IRA»، وإلى الظروف التي وضع رأس المال الأوروبي بها نفسه، لن تبقى شركة أو مصنع في أوروبا إلّا وستفتح لها فرعاً رئيسياً أو رديفاً في الولايات المتحدة. وكما قال وزير المالية الفرنسي لو مير عنه: «يجب أن نقول بوضوح لشركائنا الأمريكيين أنها مشكلة كبيرة بالنسبة لنا. هذا غير مقبول. يمكن أن يخلق صدمة كبيرة للصناعة الأوروبية».
النخب الأوروبية– وخاصة غير المالية– تحت ضغط البقاء اليوم، وهو ما يدفعهم بشكل أوضح من أيّة مرحلة سابقة إلى البحث عن «هويّة أوروبا المستقلة». ربّما لهذا فالمظاهرات التي تتزايد في أوروبا، يدعو إليها القوميون والحركات التي تعتبر «يمينية». إنّ كون هذه المظاهرات التي لا تزال في مراحلها الأولى قد تضمنت، وفي بعض الحالات تم إطلاقها من قبل عناصر قومية ويمينية، هو ببساطة توضيح أن هناك تناقضات حقيقية بين إستراتيجية الولايات المتحدة ومصالح قطاعات من رأس المال الأوروبي. ولهذا وبالعودة «إلى مؤشر التبعية» الذي ذكرته، فالدعم الأوروبي العام للحرب في أوكرانيا لم يعد له أيّ وجود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1096