ندرة المياه: هل نحن عاجزون أم نظامنا عاجز؟
ربع البشرية يواجه أزمة مياه تلوح معالمها في الأفق، وتشمل هذه الأزمة ندرة المياه التي تبدو غير قابلة للتصديق عندما ننظر إلى حقيقة أنّ 70% من سطح الأرض مكون من المياه. لكن يتم استهلاك 80% من المياه المتاحة على السطح أو المياه الجوفية كلّ عام، ويتوقع أن يزداد الطلب العالمي على المياه بنسبة 55% حتى عام 2050. لماذا يواجه العالم أزمة ندرة مياه وما الذي يبقي هذا الطلب المتنامي على المياه دون معالجة مستدامة؟
السبب الأول الذي يؤدي إلى الإجهاد المائي حول العالم هو النمو غير المتناسب بين السكان وموارد المياه من جهة، فالسكان ينمون بينما لا تشهد الموارد المائية تنمية بذات السرعة. فهناك حوالي مليار إنسان جديد على الأرض كلّ 15 إلى 20 عام، والموارد المائية ذاتها دون تنمية، ممّا يؤدي إلى عجز في ميزان موارد المياه العالمية.
السبب الثاني هو توزع الكثافة السكانية العالمية بشكل غير متناسب مع توزع الموارد المائية. فليس هناك ارتباط واضح بين توزع الكثافة السكانية في بعض المناطق وبين وجود المياه فيها. مثال: هناك ما ندعوه «مثلث العطش»، ويمتد من جنوبي إسبانيا إلى الباكستان إلى القرن الإفريقي عائداً من جديد. ضمن هذا المثلث، يقطن حوالي ملياري إنسان في منطقة ذات شحّ مائي شديد.
أما بالاتجاه إلى كندا أو إلى روسيا، فستجد لدى المجموعة السكانية مياهاً أكثر ممّا يحتاجونه إذا ما قسنا الأمر بعدد السكان هناك. وعليه فهذا سبب حاسم آخر لما نواجهه من أزمة إجهاد مائي في بعض المناطق من العالم- ولكن ليس في جميع مناطق العالم.
ولدينا تغيّر المناخ، وهو العامل الأهم في السنوات الأخيرة، فهو بمثابة الفاكهة للكعكة. فالتعاضد بين التغيّر المناخي والعوامل الآنفة الذكر هو ما يؤثر على مدى إتاحة المياه. لكنّ السياسيين اليوم، ووسائل الإعلام المرتبطة بهم، يركزون على التوزُّع الديمغرافي والكثافة السكانية للتعمية على مسألة تأثير التغيّر المناخي وتشتيت الانتباه عن الحاجة لإيجاد حلول جذرية لها. علاوة على التعمية على المسألة الأهم: من يستهلك المياه؟
نما استهلاك المياه بمعدلات تفوق ضعف نمو عدد السكان على طول العالم في العقد الماضي، وذلك بشكل جزئي بسبب استهلاك المياه في مجالات الأعمال، مثل الزراعة، والذي يشكل 70% من استهلاك المياه العذبة العالمية. إنّ هذه النسب المرتفعة من استهلاك المياه لإنتاج الغذاء تجعل من إيجاد توازن في هذا الاستهلاك حاجة ملحّة لا يمكن أن تُترك للسوق الذي يميل بطبعه إلى تفضيل الإنتاج المفرط في الغذاء.
حلول سريعة
هناك بعض الحلول السريعة التي يمكن اللجوء إليها. الأوّل هو القيام بتطوير فاعلية المياه في القطاع الزراعي. علينا أن نحقق على طول العالم، وخاصة في الدول النامية التي تعاني من شحّ المياه، فاعلية أعلى لاستخدام المياه في القطاع الزراعي دون زيادة استخدام المنتجات الصناعية الكيميائية، والمضي خطوة تلو أخرى إلى نظام اقتصادي من الزراعة المتآلفة عضوياً مع البيئة الحاضنة لها. قد يأخذ الأمر بعض الوقت، فهو لن يحصل في عام واحد ولن يكتمل في خمسة أعوام لكنّه قد يكتمل خلال عقد- وبغض النظر عن الوقت فهذا هو الخيار الأفضل.
ثانياً، هو الحل الذي قد يتطلب تحقيقه وقتاً أقل، تقليل جميع أنواع نفايات الطعام، وهي ما تمثل نسبة 30 إلى 40% من كامل الناتج الزراعي. الزراعة قطّاع ضخم يشمل زراعة المحاصيل، وكذلك يشمل تربية الماشية. كما أنّ وجود الهدر والنفايات لا يقتصر على مرحلة الاستهلاك، بل يوجد كذلك في مرحلة الإنتاج. مثال: خلال عملية نقل منتجات الطعام. البدء بسرعة بهندسة عملية تكرير للنفايات هو أمر هام، علينا أن نأخذه بالاعتبار. إن كنت قادراً على تقليص هدر المياه أثناء عملية إنتاج الغذاء بنسبة 30 إلى 40%، فعندها سيكون لديك نقص مياه أقل لأنّ استخدامك للمياه أقل بكل بساطة.
الحل الثالث أن نكون قادرين، خطوة بخطوة، على تغيير نمط الاستهلاك التجاري الذي نعيشه اليوم لجميع المنتجات الزراعية. إنّ استهلاكنا للغذاء اليوم تحكمه عملية ترويج هائلة للمنتجات الغذائية التي تبيعها الشركات التي لا يمكنها إلّا الاعتماد على الهدر. مثال: استهلاكنا للحوم، وهي التي تحتاج إلى كميات كبيرة جداً من المياه، نحن نستهلك اللحوم بشكل غير مستدام يدفعنا إلى ذلك النمط الثقافي للاستهلاك التجاري، الأمر غير الطبيعي ولا الفطري لدينا. إنّ كسر أسس النظام الغذائي الحالي الذي تحرضه دوافع ربح الشركات المنتجة والبائعة المروجة له بكثافة لهو أمر صعب، لكنّه لازم ومتاح.
هناك قطاعات صناعية أخرى غير الزراعة تستهلك المياه بشكل مكثف وتحتاج منّا أن نقاربها من ناحية هدر المياه، مثل قطّاع صناعة الملابس والسيارات. مثال: إنتاج ورقة واحدة يحتاج إلى استهلاك مائة لتر من المياه. إنّ هدر المياه كارثة يجب إيقافها. فإنتاج لتر من الحليب يستهلك ألف لتر من المياه. ولدينا كذلك المثال الشهير عمّا يستهلكه كوب قهوة واحد تشربه في الصباح من مياه. يحتاج كوب قهوة واحد كي يكون جاهزاً إلى 150 لتراً من المياه، فلا يقتصر استخدام المياه لكوب القهوة على التي تستخدمها لإعداده، بل يمتد إلى المياه اللازمة لتحضير حبوب القهوة والمواد اللازمة لزراعة القهوة وهلم جراً.
إنّ كلّ شيء لدينا يستهلك المياه، وهو ما يجب أن يحفز البشر على تنظيم عملية الاستهلاك، بحيث تقلص استهلاكهم العام للمياه على مدى الأعوام القادمة.
مياه الشرب والصرف الصحي
أكثر من ثلث سكان العالم ليس لديهم إمكانية الوصول إلى مياه شرب نظيفة، وأكثر من 4 مليارات إنسان يفتقدون وجود صرف صحي ملائم. كيف يمكن ترشيد هدر المياه هنا؟ هل تزويد كلّ إنسان حول العالم بمياه شرب نظيفة لا يزال هدفاً واقعياً يمكن تحقيقه؟
لدى الفرنسيين عبارة «parent pauvre» وتعني الارتباطات الضعيفة. معظم القرارات التي تُتخذ فيما يخص الوصول إلى المياه ليست مقبولة على المدى الطويل. ولهذا أنا أقول دوماً بأنّ إنشاء وتمويل بنية مياه الشرب التحتية يجب أن يتم بوقت واحد مع إنشاء وتمويل مياه الصرف الصحي.
مثال: إن كان لدى مدينتك برنامج لزيادة وصول مواطنيها إلى المياه، فسيحتاج هؤلاء الناس إلى برنامج للصرف الصحي أيضاً. إن لم تفعل ذلك فستعزز عدم التطابق والتكامل الموجود بين مياه الشرب ومياه الصرف الصحي.
فأحد الحلول لتنمية المياه وتقليص استهلاكها، والتي سيوضع السياسيون أمام استحقاقات اتباعها وتمويلها بشكل عام لا محالة، هي توفير مياه أكثر من خلال مورد المياه المستعملة. وإن كنت تريد أن تنتج مياهاً صالحة من مياه مستعملة، فسيكون لزاماً عليك حتى تُتم العملية أن تقوم بإنشاء وتطوير معالجة مياه الصرف الصحي، الأمر الوحيد الذي يحقق معادلة ربح- ربح كونه سيؤدي في النهاية إلى توفير مياه نظيفة صالحة للشرب والاستهلاك، سواء من خلال تقليص استهلاك مياه الشرب أو من خلال توفير المزيد من المياه للاستخدام.
ورغم أنّنا لا نشهد في الوقت الحالي سوى خطوات بطيئة في هذا السياق، فأنا متفائل بأنّ وعي الناس فيما يخص تلوث المياه- مثال تلوث الأنهار والبحار والمحيطات- سيؤدي بهم إلى الضغط من أجل تبني حكوماتهم لمشاريع تنمية عامة أسرع في قطاع الصرف الصحي بما يتناسب مع التنمية المنشودة لمياه الشرب على طول العقد القادم.
أنا لا أرى بأنّ «الأهداف العالمية» لتزويد الجميع بمياه شرب نظيفة وآمنة هو الحل الأمثل لدينا. أنا أميل أكثر للحلول والالتزامات الوطنية والمحلية بالمقارنة مع الالتزامات العالمية، رغم أهمية التنسيق العالمي. ولكن وضمن البنى المقبولة القائمة حالياً، فالجهود الوطنية والمحلية هي أقوى في هذا السياق من الوعود والالتزامات العالمية التي لا تملك سلطة تراقب مدى التقدم المنجز في تنفيذها. ففي الوقت الراهن سكان مدينة أو دولة هم فقط القادرون على متابعة قيام قادتهم بأداء عملهم فيما يخص الوصول إلى مياه نظيفة وآمنة.
المياه والمناخ السياسي العالمي
مع ما نشهده اليوم من نضوب موارد المياه العالمية، كيف يمكن للحكومات أن تتجنب الدخول في نزاعات سياسية أو عسكرية على المياه، كما نرى اليوم في حوض نهر النيل كمثال؟
إنّ هذه القضية معقدة لأنّه من غير الصائب عند الحديث عن الأمر برمته أن نستبعد الدوافع والسلوك السياسي الذي أدّى ويحكم مثل هذه الأمور في المقام الأول. ولكنّ كلمة السر الرئيسة الدائمة هنا هي: الحوار. الطريقة الوحيدة لحلّ النزاعات القائمة على المياه- أو منع أخرى من النشوب- هي في الحوار والبحث عن أسس المشكلة. فالإدارة السيئة للمياه في بعض الأقاليم، وليس ندرة المياه الطبيعية، كانت هي السبب الرئيس في الوصول إلى مرحلة نقص المياه وبالتالي تحويل المسألة إلى نزاع سياسي.
فإذا ما نظرنا اليوم إلى أرقام استهلاك المياه في مصر والولايات المتحدة، لوجدنا بأنّ الفرد فيهما يستهلك 800 لتر من المياه في اليوم، بينما يستهلك الفرد في أوروبا قرابة 200 لتر في اليوم. لكن وكما قلنا سابقاً، فالاستهلاك الفردي ليس سببه الاستهلاك المباشر للأفراد للمياه فقط، بل يعود لوجود هدر كبير في المياه في الصناعة والزراعة في هذين البلدين.
علاوة على ذلك، فمدن مثل القاهرة لا وجود فيها في حقيقة الأمر لشبكات مياه ملائمة. وعليه فإن تمّ تصحيح هذه الأمور، فسكان القاهرة سيستهلكون كمية مياه أقل، وبالتالي سيحتاجون إلى كميات مياه أقل من النيل، وهو الأمر الذي سيجعل من النزاع الحالي الذي سنشهده دون أسباب وغير محتمل الحدوث.
إذا ما استمرت الأمور على الحال القائم اليوم فإنّ عدم الاستقرار الاجتماعي بسبب نقص المياه محتمل الحدوث بشدّة. لكنني آمل بأن لا تبقى الأمور على ما هي عليه.
التكنولوجيا الحديثة
هناك بلدانٌ متعددة حول العالم وفي الشرق الأوسط تلجأ بشكل متزايد للتكنولوجيا الحديثة لتحل مشكلة ندرة المياه، مثل إنشاء محطات التحلية، لكن قد يكون لهذا الأمر تأثيرات سلبية على الحياة البحرية. وعلى النقيض، يتم اللجوء في بعض الدول إلى تقنيات قديمة، مثل تجميع مياه الأمطار «rainwater harvesting» التي نشهد اقتراحها في العديد من المدن حول العالم اليوم. ما رأينا في مثل هذه الممارسات وما هي الحلول الأخرى المتاحة لنا؟
هناك الكثير من الحلول المتبعة والتحلية هي أحدها. هناك اليوم ما يقرب من مائة دولة حول العالم تستخدم أو تحضّر لاستخدام التحلية كحلّ، وبالتالي هي مسألة جديرة بالبحث أكثر. لكن في ذات الوقت فإنّ حل استخدام المياه المستعملة يتطور بشكل سريع، وهو أزهد تكلفة بكثير من خيار التحلية. لكن علينا أيضاً ألا ننسى بأنّ تكاليف تحلية المياه قد انخفضت في الأعوام العشرين الماضية بشكل كبير، وهي اليوم أقلّ من 1دولار للمتر المكعب، بينما كانت 10 دولارات للمتر المكعب قبل 15 عاماً.
هناك آثار سلبية للتحلية توجد عند فصل المياه عن الملح، وهي ما يمكنه أن يقودنا للتصحّر. مثال: ما حدث في الخليج العربي، حيث كانت الكويت والسعودية والبحرين وقطر أول من استخدم معالجة المياه بالتحلية. فدرجة حرارة البحر كانت عند 30 درجة مئوية، بينما هي اليوم قد وصلت إلى ما يقرب من 40 درجة مئوية. إنّ هذه الزيادة في درجة حرارة البحر كنتيجة لمحطات التحلية قد أسهم في تغيير التنوع الحيوي. مثال، نحن نشهد اليوم اختفاء الأسماك بل وحتى قناديل البحر العملاقة- وهي الكائنات التي تتعامل مع وجودها بعض معامل التحلية في السعودية باستخدام آلات التمزيق، وهي نوع آخر من الكوارث الحاصلة.
كما أننا نحتاج في بعض الأماكن الأخرى للتحلية، ونزع الملح ليس في المناطق الساحلية وحسب، بل كذلك في الأراضي الداخلية. مثال: في إقليم «الصـحراء» في الجزائر والمغرب، المياه التي تأتي من جوف الأرض تكون مالحة، ولهذا فهم بحاجة لاستخدام التحلية في الأراضي الداخلية وليس على السواحل. لكن أين يذهبون بالملح في الأراضي الداخلية؟ يمتزج هذا الملح بمياه الأمطار، ويدخل إلى التربة، ويقوم بدوره بتدمير التنوع الحيوي هناك أيضاً. وعليه فإنّنا ملزمون بإيجاد وسائل حكيمة لاستخدام محطات التحلية.
وفيما يخص جمع مياه الأمطار، فهي تقنية مستخدمة منذ قرون وقد دعمتها بشكل كبير كحلّ لندرة الأمطار في الهند، وتحديداً في إقليم راجستان، وأظنّ بأنّها مؤهلة لتكون من الحلول المستخدمة في بعض المناطق على طول إفريقيا.
ولهذا أرى بأننا نحتاج لتبادل الحلول، فبعض الأشياء التي تكون ناجحة في مكان قد تنجح في مكان آخر. بهذا الشكل سنكون قادرين عند عرض الحل على الفلاحين السنغاليين أن نريهم بأنّه نجح عندما طبق في مكان آخر مثل الهند، وبهذا يمكن أن ينجح عندهم أيضاً...
اليوم الصفري
مليارات البشر مهددون بأزمات المياه. وقد يؤدي الإجهاد المائي إلى «أيام صفرية day zeroes» أخرى، وهو المصطلح الذي استخدم في عام 2018 في مدينة كيب تاون في جنوب إفريقيا، والذي عنى القرب الوشيك لنفاذ المياه تماماً. هل السيناريوهات ستؤدي إلى المزيد من هكذا أيام في أماكن أخرى؟
إنّ عدم التصدي لأزمات المياه كما ينبغي، سيعني إجبار الناس على الهجرة إلى أماكن جديدة، وهو ما يعني فقدان الحياة في الأماكن القديمة ووسائل استدامة وتنمية هذه الأماكن. فلن يكون هناك زراعة ولا حلاقون ولا مصانع ولا خدمات ولا أيّ شيء يعيد إنتاج الحياة.
بالنسبة لكيب تاون، فرغم أنّ شـحّ المطر كان سبباً من الأسباب، إلا أنّ الإدارة السيئة للمياه لها دور رئيس. فقد عرفوا بأنّهم أمام نقص في الأمطار، وكان عليهم تحضير مستوعبات لتخزين المياه عن كل عام للعام الذي يليه، مستفيدين من أية موارد مياه متاحة في الشتاء. لكنهم لم يفعلوا ذلك، وهو جزء من سوء الإدارة.
كما أنّ عاملاً آخر لا يتحدث الإعلام عنه عادة، وقد لعب دوراً رئيساً فيما حدث لكيب تاون. لقد استخدمت الحكومة المركزية لجنوب إفريقيا واردات المياه كأداة لعزل حكومة المدينة التي كانت جزءاً من المعارضة. ويمكننا أن نصنف هذا الاستخدام السياسي تحت بند سوء الإدارة أيضاً، والذي دفع ثمنه الناس في كيب تاون.
إنّ من يدَّعي بأنّنا عاجزون ولا حلول أمامنا، يحاول أن يُغطي على فشله أو على الأسباب الحقيقية للفشل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 955