رعب المؤسسات الإمبريالية: الصين تؤسس لعولمة مختلفة
تشعر الإمبريالية بالقلق مما تمثله مشروعات البنية التحتية العالمية الضخمة في الصين من تحدٍ للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. استضافت جمهورية الصين الشعبية قمّة في 14 أيّار تدعى مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، والتي تعرف أيضاً باسم مشروع طريق الحرير الجديد. حضر القمة 29 رئيس دولة وممثلون عن 130 بلداً من مختلف أنحاء آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا، ووقعت سبعون دولة منها اتفاقيات مع الصين للمشاركة في المشروع.
تعريب: عروة درويش
تشير كلمة «حزام» إلى الحزام الاقتصادي لطريق الحرير. وهو يتضمن تطوير الطرق البرية من وسط الصين إلى آسيا الوسطى وإيران وتركيا وأوروبا الشرقية. وتشير كلمة «طريق» إلى طريق الحرير البحري، وهذا يشمل الموانئ والبنية التحتية الساحلية من جنوب شرق آسيا إلى شرق إفريقيا والبحر المتوسط.
تهدف الخطة إلى إقامة شبكة من الطرق التجارية عن طريق خطوط سكك حديدية جديدة وموانئ وطرق سريعة وخطوط أنابيب ومرافق للاتصالات ومراكز للطاقة، كي تربط البلدان في أربع قارات. وهو يشمل التمويل لأجل تعزيز التخطيط المديني ومياه الشرب والصرف الصحي والتنمية الغذائية.
«خطّة القرن»
تصف الصين المشروع بأنّه إحياء لطريق الحرير القديم وربطه مع تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. ومن المتوقع أن يكون حجمه 12 ضعف حجم «خطة مارشال»، الخطّة الأمريكية التي أعادت بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية (مع كل الفوارق بين الخطتين).
وتحذِّر وسائل الإعلام الكبرى في جميع أنحاء العالم من أن هذا التجمّع يشير إلى نهاية القرن الأمريكي، حيث تزعم الولايات المتحدة بأنّها القوة العظمى الوحيدة في العالم. فيما يشير الكثير من المحللين إلى إمكانية قيام المشروع بنقل مركز الاقتصاد العالمي، ليتحدّى النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
وصف مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، تشارلز فريمان، المشروع بأنّه: «يُحتمل أن يكون الجهد التحويلي الهندسي الأكبر في تاريخ البشرية. وستصبح الصين مركز الثقل الاقتصادي في وقت تحوّلها لأكبر اقتصادٍ في العالم. ولا يتضمن برنامج الحزام والطريق أي عنصر عسكري، ولكنّ قدرته على قلب الجغرافيا السياسية في العالم، فضلاً عن اقتصاده، واضحة» (أخبار إن.بي.سي، 12 أيّار).
تنبأت صحيفة «نيويورك تايمز» في مقالة نشرت في 13 أيار بعنوان «ما وراء خطّة الصين ذات التريليون دولار لهزّ النظام الاقتصادي»: «إنّ المبادرة... تُنسج ضمن نطاق ومعيار له قليل من السوابق في التاريخ الحديث، للتعهّد باستثمار أكثر من تريليون دولار في البنية التحتية، ولتمتدّ لأكثر من 60 بلداً. ويهدف السيد زي – السكرتير العام للحزب الشيوعي الصيني – إلى استخدام الثروة والمعرفة الصناعية الصينية لخلق نوع جديد من العولمة التي سوف توقف سيطرة المؤسسات المترهلة التي يهيمن عليها الغرب. الهدف هو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، وجذب الدول والشركات بشكل أمتن إلى مدار الصين. يستحيل على أيّ زعيم أجنبي، أو مدير تنفيذي لشركة متعددة الجنسيات، أو مصرفيّ دولي، أن يتجاهل ضغط الصين نحو إعادة تشكيل التجارة العالمية. إنّ النفوذ الأمريكي في المنطقة يتراجع».
البنية التحتية
الأمريكية آيلة للانهيار
في هذه الأثناء، تتداعى البنية التحتية في الولايات المتحدة بشكل حرفي. لقد منحت «الجمعية الأمريكية العامّة للمهندسين المدنيين» علامة (D+) للطرق المتدهورة والجسور والسدود والمدارس. ويبلغ الاستثمار في البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، أدنى مستوى له منذ 30 عاماً.
وقد تعهد دونالد ترامب، بشعاره «أمريكا أولاً»، بإعادة بناء البنية التحتية المهترئة في البلاد. ولكن مذ أصبح رئيساً لها، قررت إدارته بدلاً من ذلك أن تخفّض الضرائب على الأغنياء، وأن تزيد الميزانية العسكرية. وفي الوقت ذاته، انهارت «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» التي بدأتها الولايات المتحدة، والتي كانت تهدف إلى استبعاد الصين.
لقد أحدث مشروع «الطريق والحزام» الصيني اهتماماً كبيراً لأنّ لدى الإمبريالية الأمريكية قدرات أقل وأقل لتقدّمها لأية دولة نامية، باستثناء مبيعات الأسلحة والقواعد العسكرية.
تهديد للهيمنة الأمريكية العالمية
حيث توجد مشاريع البنية التحتية الأمريكية على طول العالم، فإنّها تركِّز على بناء وصيانة شبكة واسعة من التكنولوجيا المتطورة لأكثر من 800 قاعدة عسكرية، ولخدمة أسطول حاملات الطائرات والغواصات والمدمرات النووية. وكلّ منها تحكم على البلد المضيف بالنفقات وتشكّل تهديداً له. وتعدّ المساعدات الخارجية للولايات المتحدة الأدنى تقريباً من بين جميع مثيلاتها في الدول المتقدمة، والتي تشكّل أقلّ من 1% من الموازنة الاتحاديّة. وهي في أغلبها مساعدات عسكرية لأفغانستان والعراق و«إسرائيل» ومصر وباكستان.
وقد أسفرت الحروب الأمريكية عن أرباح كبيرة للشركات الأمريكية، في حين أنّها دمّرت بشكل كبير البنية التحتية المدنية الحيوية في البلدان النامية التي تعرضت للهجوم. وقد دمّرت عمداً محطات تنقية المياه والصرف الصحي والري والشبكة الكهربائية ومراكز الاتصال والمستشفيات والمدارس في كلّ من يوغوسلافيا والعراق وليبيا وسورية وأفغانستان. وعلى النقيض من ذلك، فليس لدى الصين قواعد عسكرية في الخارج، ولا تشمل مبادرتها الطموحة المعدّات أو المنشآت العسكرية.
ومع ذلك، فإن الشركات الأمريكية ذات السطوة تنظر إلى أية تنمية اقتصادية أخرى على أنّها تهديدٌ لهيمنتها العالمية. إنّها تهدف إلى حماية النظام الرأسمالي غير العقلاني على الإطلاق.
الردّ على محور الولايات المتحدة تجاه آسيا
إنّ المحور تجاه آسيا، والذي بدأ أثناء إدارة أوباما، ما هو إلّا خطّة عسكرية عدوانية تشمل الترسانة النووية للولايات المتحدة والبطاريات الجديدة لصواريخ ثاد المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية. إنّه يركز على احتواء وتهديد التأثير الاقتصادي المتنامي للصين في المنطقة.
يتبجّح المخططون العسكريون الأمريكيون بقدرتهم على خنق الصين وقطع ممراتها البحرية الحيوية، مثل مضيق ملقا. وتتولّى نقطة العبور الضيقة هذه بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي مقدار 80% من نفط الصين الخام والواردات الحيوية الأخرى.
وقد استجابت الصين، والتي تعدّ الآن أكبر دولة تجارية في العالم، بإطلاق خطة «الطريق والحزام» غير العسكرية التي ستفتح العديد من الطرق التجارية عبر البلدان المحيطة. وتقدّم هذه الطرق، على عكس القواعد العسكرية الأمريكية، منافع فورية لتنمية هذه البلدان. ويُتوقّع أن تستثمر الصين قرابة 1.3 تريليون دولار في مشاريع بنية «الحزام والطريق» التحتية.
«AIIB»: كابوس المؤسسات الدولية
كانت الممارسات الأميركية السابقة في الاستيلاء على أصول البلدان التي تملك أموالاً كبيرة في البنوك الأمريكية تعني بأنّ مبلغ 1.26 تريليون دولار، الذي تملكه الصين على شكل سندات الخزينة الأمريكية، كان ضعيفاً بشكل خاص. حتّى ستة أشهر خلت، كانت الصين هي المُستثمر الأول في سندات الخزانة الأمريكية. أمّا الآن فتقوم الصين ببيع هذه السندات والتخلّص منها.
وقد استخدمت الصين جزءاً من احتياطها الهام لإنشاء «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية- AIIB». يلعب البنك دوراً أساسياً في تشجيع التعاون التجاري والاقتصادي مع بلدان أخرى في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية. ويُنظر إلى هذه المبادرة الصينية على أنّها مواجهة ضدّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة.
وكما كتب الإعلامي الكوبي في صحيفة «غرانما» في 6 آذار: «يهدف بنك الاستثمار في البنى التحتية إلى إنقاذ مناطق الإقليم التي تخلّى عنها كلّ من البنك الدولي ومصرف الاستثمار الآسيوي، بجانب تشجيع التعاون التجاري والاقتصادي».
يمارس كلّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي نفوذاً هائلاً عبر سياسات «التكيُّف الهيكلي». ويتطلّب سداد الديون أن تقوم البلدان بخفض الإنفاق الحكومي على التعليم والصحّة والغذاء والنقل. ويكمن الهدف الحقيقي في إجبار البلدان النامية على خصخصة أصولها الوطنية.
القلق الكاذب على البيئة
تدّعي «المنظمات غير الحكومية» المموّلة من الشركات والحملات الإعلامية الاجتماعية بأنّ الصين لن تُظهر «الاحترام» ذاته الذي تظهره الولايات المتحدة وغيرها من القوى الإمبريالية للبيئة ولحقوق الإنسان. ويدّعون بأنّ الصين قد لا تتبع القيود البيئية على القروض تلك التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هذا محض نفاق. فالآلة العسكرية الأمريكية تعدّ أكبر مستهلك مؤسساتي للمنتجات النفطية في العالم ومصدّراً لغازات الدفيئة وللعديد من الملوثات السامّة. ورغم هذا، فلدى البنتاغون إعفاءٌ شامل من جميع اتفاقات المناخ الدولية.
لقد أدّت الحروب الأمريكية إلى تلويث التربة والمياه في مناطق شاسعة واقعة تحت الاحتلال الأمريكي باليورانيوم والبنزين وثلاثي كلور الإيثلين المستنفذين في عمليات القواعد الجوية، وبالبيركلورات: وهو مكوّن سام في وقود الصواريخ.
رغم الضغوط الأمريكية: «AIIB» ينمو
رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الولايات المتحدة لتثبيط المشاركة الدولية في صندوق «الطريق والحزام» للبنية التحتية، فقد ساهمت روسيا وإيران ودولٌ من أميركا اللاتينية على الفور برأس مال كبير. ثمّ – وعلى نحوٍ يهدم الاصطفافات- أصبحت ألمانيا وكوريا الجنوبية مساهمين رئيسين، وتبعتهما كلّ من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأستراليا. ورأت الفلبين، وحتّى المملكة العربية السعودية، مزايا المشاركة. لقد بدأ بنك الاستثمار في البنى التحتية، الذي تأسس في 29 حزيران 2015، عمله منذ العام الماضي.
وفقاً لافتتاحية صحيفة «التايمز» في 5 كانون الأول 2015: «تجد الدول بأنّه يجب عليها العمل بشكل متزايد ضمن مدار الصين. وتقلق الولايات المتحدة من أن تستخدم الصين البنك لوضع أجندة أعمال اقتصاديّة عالمية بشروطها الخاصّة».
وإضافة إلى بنك الاستثمار في البنى التحتية، يقوم «بنك التنمية الصيني» و«بنك الصين للتصدير والاستيراد» بالفعل بتمويل مشاريع كبيرة في آسيا وأفريقيا. تبلغ الأصول الصينية في الخارج مجتمعة بحسب تقديراتهم ما قيمته 500 مليار دولار، أي أكثر من رأس مال كلّ من البنك الدولي ومصرف التنمية الآسيوي مجتمعين.
التخطيط الاشتراكي
للتغلب على التخلّف التنموي
إنّ العقود الماضية من التنمية والتحديث في الصين، وفوائضها الحالية، هي ما يجعل هذه الخطط العالمية الجديدة ممكنة. يقدّر بأنّ الصين تملك من احتياطيات النقد الأجنبي نحو 4 تريليون دولار. أمّا صوامعها فممتلئة، وهنالك فائض لديها في الإسمنت والصلب.
عندما استلمت الثورة التي يقودها الحزب الشيوعي السلطة في عام 1949، كانت الصين بلداً متخلفاً مزقته الحروب ومعظمه من الأميين وغالبية سكانه من الفلاحين. نهبت القوى الإمبريالية الغربية واليابانية الصين لمصالحها الخاصة. وكانت الخطوة الأولى على طريق التحرر هي كسر قبضتهم المحكمة، لكن الصين كانت منهكة من الفقر.
بعد قرابة الـ30 عاماً من الجهود البطولية لتحديث الاقتصاد على أساس تنظيم جهود الجماهير، فتح الحزب الشيوعي الصيني في عام 1978 البلاد على بعض أشكال الملكية الرأسمالية والاستثمار الرأسمالي الأجنبي.
تستمرّ هذه السياسة المحفوفة بالمخاطر منذ ما يقرب من 40 عاماً، ممّا سمح للمليونيرية الصينيين، بل وحتّى للمليارديرية، بالازدياد وبنشر الفساد. وقد استثمرت رؤوس الأموال الأجنبية، والتي تأمل في أن تنقلب تماماً على الدولة الصينية، بسبب إمكانية تحقيق الأرباح. لكنّ الحزب الشيوعي استخدم سنوات الاستثمار الرأسمالي في سبيل بناء بنية تحتية حديثة مملوكة للدولة، جنباً إلى جنب مع نمو رأس المال الخاص.
تصنّف الصين الآن كدولة نامية ذات أغلبية سكانيّة مدنية تعيش في مدنٍ حديثة منظمة. الطبقة العاملة هي الطبقة الاجتماعية الأكبر في الصين. وتضاعفت أجور العاملين في المتاجر في الصين ثلاث مرّات في العقد الأخير، لتصبح الأعلى في آسيا النامية.
اعتمدت الصين سياسة صناعية جديدة في عام 2015: إنّها «صنع في الصين 2025»، والتي تعتزم رفع مستوى قدرات تصنيع المنتجات عالية التقنية. وقد تمّ دعم هذه الخطط بـ150 مليار دولار في صناديق عامة أو مرتبطة بالدولة. هذا هو نوع التخطيط الاشتراكي طويل الأجل الذي لعب دور محرّك خطّة الصين الجديدة: «حزام واحد، خطة واحدة».
وبينما تحاول الولايات المتحدة منع هذه الجهود اللازمة للبنية التحتية، بنقل الصواريخ وحاملات الطائرات قبالة سواحل الصين، وبإرسال أقل وفد دبلوماسي ممكن إلى الصين لحضور قمّة «الحزام والطريق»، فقد كان لدى واشنطن الجرأة والغطرسة الكافية لتحذير الصين من مشاركة كوريا الديمقراطية. لكنّ جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية أرسلت وفداً رفيع المستوى للحضور.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 814