الإحصاء الاستثنائي في سورية وجروح الهوية الوطنية السورية (2 - 2)
شكّلت التسويغات «الكيانية» أو «السيادية» مجرّد غطاء إيديولوجي لتبرير عملية إقصاء 28% من سكان منطقة الجزيرة عن المواطنة (عبر الإحصاء الاستثنائي)، ووضعهم في مأزق أن لا مكان لهم في الدولة. هكذا قد تشكّل إجراءات الدولة المركزية شؤماً لكثيرٍ من مواطنيها؛ إذ زادت عملية «التجريد» أو «الإقصاء» من هامشّيتهم؛ وهم بسبب أن معظمهم كانوا فلاحين فقراء، وغير متعلّمين، وخاضعين لسيطرة زعماء العشائر والعائلات الكردية لم يحسّوا في البداية بدلالات «الإحصاء»، لكن بعد فترةٍ وجيزةٍ جداً استيقظوا على «الكارثة».
دور الأمن وزعامات الأكراد في المأساة
كان سعيد السيّد هو العرّاب الحقيقي لعملية الإحصاء، فهو من تولّى صياغة المسوّغات والتبريرات. فقد قام بعد «تكريس» نتائجها بتبرير ذلك بقوله بأنّ هجرة الأكراد الأتراك إلى سورية «تشكّل خطراً كبيراً على سلامة سورية العربية»، في محاولة لاستثارة الرأي العام السوري. ولم يكن للعظم الثالث أية صلةٍ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، بإيديولوجيا السيّد القوماوية المتطرّفة؛ لكنّه استخدمها في مرحلة بحثه بشتّى السبل عن تكريس «الانفصال» تحت اسم الدفاع عن «الكيان الخالد» لتزويد سلطته بأدواتٍ إيديولوجيةٍ إضافيةٍ.
من جهة أخرى لعب أيضاً دوراً في الأمر تنامي نشاط الحزب الديموقراطي الكردي (البارتي) الذي تشكّلت هيئته القيادية الأولى في 14 حزيران/ يونيو 1957 من نخبةٍ محدودةٍ من المثقفين الشباب الأكراد، ثم تحوّل إلى مركز جذبٍ للجمهور الفلاحي الفقير والمعدم. وفي حين لم تكن اتجاهات هذا الجمهور متطابقةً بالضرورة مع اتجاهات الحزب الفتيّ، ولكنّه كان القوة الكرديّة الوحيدة المنظّمة يومئذٍ.
ولكن للحقيقة لاتوجد وثائق تثبت أن «البارتي» قد واصل نشاطات «استفزازية» للسلطة السورية بعد حملة شباط/ فبراير 1962، دفعت هذه السلطة لأن تتّخذ أخيراً قرار «الإحصاء الاستثنائي» في أيلول- تشرين الأول 1962. لكنّ صراعاً عنيفاً كان دائراً بين الزعامات الكردية التقليدية التاريخية وبين الحزب الصاعد في إطار موجة جماهيرية قوميّة كردية أزكتها الثورة في العراق، قد دفع القيادات الكردية التقليدية في إطار منظورٍ ضيّقٍ لمصالحها إلى تحريض السلطة على نشاطات البارتي.
استغلّ السيّد ذلك بشكلٍ بارعٍ، واستمر بضغطه على الحكومة لتقرير الإحصاء الاستثنائي، وتمكّن من ذلك في فترة شلل حكومة العظمة وتسليمها الأمر إلى العظم الثالث. وقد اندرج العظم الثالث الذي شاخ فكرياً وسياسياً وتجاوزته التحوّلات في اللعبة. في حين كانت هذه هي لعبة معقّدة للسيّد، بينه وبين كبار الملاك الأكراد الذين شملهم الإصلاح الزراعي، أو باتوا معرّضين لخطر الاستيلاء على ملكياتهم المشمولة به، وكانوا مستعدّين لفعل أيّ شيءٍ، حتّى تجريد مواطنيهم من المواطنة في سبيل مصالحهم الآنية، مدمّرين في الوقت نفسه قدراتهم ونفوذهم على المدى الطويل. كانت هذه مثلاً هي محنة عائلة (نظام الدين) التي كانت إحدى المسبّبين بالإحصاء ومن ضحاياه في وقتٍ واحدٍ. وكانت براعة العظم الثالث وبراغماتيّته في الانخراط في اللعبة بهدف تقويض قانون الإصلاح الزراعي تحت ستار إصلاح منطقة الجزيرة؛ حيث صوّت العظم بقوّة لإلغائه باسم «التعديل»، ودافع في تصويته ومواقفه وكلامه عن «إخلاء» الفلاحين أو «تهجيرهم» من أراضي كبار الملاك.
الإصلاح الزراعي
لطالما تداخلت المصالح مع السلطة في تاريخ سورية الحديث، وجعلت من الدولة مركبةً لأصحاب المصالح المسيطرين. وقد اشتدّ هذا التداخل في مرحلة الانفصال بحكم أنّ عبد الناصر كان قد وجّه ضرباتٍ تاريخيةً كبرى لأصحاب القوة والنفوذ، تفتح المجال أمام توسيع مشاركة «العامّة» في قرارات السياسة. ولم يكن عبد الناصر ليقبل أن يفرض عليه «العامة» تأثيرهم، بحكم حجزه للسياسة في نطاق السلطة، لكن إجراءاته قادت هؤلاء «العامة» إلى إثبات حضورهم وقدراتهم حتى ولو تطلّب ذلك التضحيات والسجون. بحيث تمّت ثورة «العامة» للمفارقة باسم عبد الناصر نفسه.
هكذا تعيد هذه المسألة القصة إلى بداية إشكاليتها. إذ كانت عملية تثبيت الجنسية في الإحصاء الاستثنائي الخاص بمحافظة الحسكة قد اشترطت أن يكون السوري هو من كان مسجّلاً في قيود الأحوال المدنية قبل العام 1945، وأن يستحصل مسبقاً على صورة عن قيده وقيد عائلته لإبرازها وتسجيلها. ولكنّ هذا الشرط كان غير واقعيّ في حدّ ذاته، ولايشكّل مؤشراً يعتدّ به في إثبات الجنسية، إذ أن ظاهرة «المكتومين»، آباءً وأبناءً معاً، كانت من أبرز خصائص المجتمع السكّاني العربي أو الكردي على حدٍّ سواء في محافظة الحسكة. هكذا كانت تصفية حسابات القوّة والنفوذ والقدرة والسلطة جزءاً من عملية الإحصاء، أي من العملية المعقّدة التي قادت إليه.
كانت وظيفة هذا المؤشّر الذي اعتمده الإحصاء الاستثنائي واضحةً تماماً، إذ صمّم بشكلٍ أساسيِّ على مستوى الدوافع والوظائف كي يتمّ تجريد الفلاحين الأكراد الذين استفادوا خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة من الانتفاع بأراضي الإصلاح الزراعي المستولى عليها والموزّعة يومئذ، من حقوقهم في الانتفاع. إذ أنّ عبد الناصر لم يميّز في توزيع الأراضي المستولى عليها بين كرديّ وعربي، ولا بين كرديّ «أصلي» وكرديّ «متسلّل»، بل ميزّ بين كبار الملاك وبين الفلاحين. وهو في الأصل لم يكن ضد قضية الأكراد بل أوّل زعيمٍ عربي اعترف بثقافتهم وحقوقهم الثقافية القومية، وقدّم براهين على ذلك.
لكن ما أثارته حكومة العظم، وحاولت تهييج الرأي العام ضدّه هو أنّ هؤلاء المستفيدين من قانون الإصلاح الزراعي لم يكونوا سوى «متسلّلين» مشبوهين للحصول على ملكية الأرض، ممّا يهدد «أمن» سورية و«عروبتها» ثم «سيادتها». فخلال فترة 17 نيسان - 13 أيلول 1962 لم تقدّم ولا شكوى واحدة تشير إلى أن هناك «أجانب متسلّلين» قد استفادوا من قانون الإصلاح الزراعي في الجزيرة، مع أن هذه الفترة كانت أكثرها تسريعاً لتطبيق القانون ممّا كان عليه إبّان فترة الوحدة. لكن بعد تمكُّن الرياض والولايات المتحدة وغرفة تجارة دمشق وشركة «كونكودريا» المتضافرة مع جهود «العظم الثالث» من التخلّص من حكومة بشير العظمة، أثيرت هذه «الأكذوبة» التي لم يسمع مثلها إبّان حكومة العظمة.
ولم تتعامل أيّ صحيفة سورية مهنيّاً مع هذه القضية. وقامت بعض الصحف السورية بتقدير أنّ عدد المتسلّلين خلال فترة الوحدة للانتفاع بأراضي الإصلاح الزراعي كان 50 ألف متسللاً. كان ذلك نوعاً من «المبالغة التبريريّة» من أجل تجريد الفلاحين الأكراد البؤساء من الأراضي التي وزّعت عليهم إبان عهد الجمهورية العربية المتحدة.
وقد كشف السيّد بشكلٍ صريحٍ للغاية وظيفة الإحصاء الاستثنائي من خلال قوله «إنّ توزيع الأراضي لا يجري جزافاً وعلى كلّ طامعٍ، وإنما يجري التوزيع على قواعدٍ ثابتةٍ محدّدةٍ، ولا يتناول إلاّ أبناء البلاد فقط؛ أمّا الغريب فلن يكون له أيّ نصيبٍ في الأراضي التي توزّع». كان ذلك هو جوهر هذه القصة «الرهيبة». وقد شّكلت قضية قرية «أبو راسين» نموذجاً لها، تستحق إضاءةً تاريخيّة.
مشكلة قرية «أبو راسين»..وتواطؤ الملاكين الأكراد
كان النائب والوزير السابق «النافذ» في الخمسينيات (عبد الباقي نظام الدين) ينتمي تقليدياً إلى كتلة خالد العظم البرلمانية، وكان يمثّل معتمد العظم في توزيره في الحكومات التي يتعاقد على تشكيلها تحالفياً في إطار اللعبة السياسية-البرلمانية. وقد اشتهرت قصّة هذا النائب بشره التملك، إذ ادّعى ملكية الأرض التي كانت الدولة ستقيم عليها مطار القامشلي، لكنّه خسر الدعوى وهو وزيرٌ للعدل في أوائل الخمسينيات. ويعود ذلك إلى أن القضاء السوري في النصف الأول من الخمسينيات كانت له حرمة و«عصمة»، إلى درجة أن ديكتاتوراً مثل أديب الشيشكلي قد اضطرّ إلى احترام إجراءاته في دعوى على أحد خصومه، في حين كان سيّد السلطة.
كان عبد الباقي نظام الدين يملك أشياءً كثيرة. لكنّ إحدى ممتلكاته وأهمّها، وهي قرية «أبو راسين» في الحسكة قد تعرّضت إلى استيلاء الإصلاح الزراعي عليها. هكذا قامت وزارة الإصلاح الزراعي إبان الجمهورية العربية المتحدة بتوزيع أراضيه المستولى عليها على الفلاحين، وتمليكهم حيازاتهم لها بموجب سنداتٍ نظامية. وكان نظام الدين قد دخل في خلافاتٍ مع إخوته وأقربائه حول ملكيتهم «المشاعة» لهذه القرية كما في ادعاءاتهم القانونية. وبغية التخلّص من الفلاحين المنتفِعين بتوزيع أراضي الدولة عليهم، ادّعى نظام الدين أنّ هؤلاء الفلاحين ليسوا «سوريين» بل مجرّد «أتراك» متسلّلين بهدف تملّك الأراضي تحت اسم الإصلاح الزراعي، وأنّه لا يحقّ لهم التملك بسبب نقص أهليّتهم. ولأسباب اللياقة سمّت الحكومة يومئذ هؤلاء الفلاحين باسم: «مكتومين» وليس «متسللين». ولكن كان المقصود بـ«مكتومين» أنهم أتراك وليسوا سوريين مسجلين.
هكذا نشأ «تحالفٌ» غريب بين سعيد السيّد، وزير الإصلاح الزراعي في مرحلة حكومة مأمون الكزبري الانتقالية، وهي أوّل حكومة بعد الانفصال، وبين نظام الدين، حاول فيه سعيد السيّد أن يرغم كافة الفلاّحين المنتفعين بموجب سندات بتوزيع أراضي قرية «أبو راسين» على إخلاء الأرض، سواء أكانوا «مسجلين» في الأحوال المدنية أم «مكتومين» بدعوى أنّهم «أتراك» الجنسية.
ثمّ تحولت قضية فلاحي قرية «أبو راسين» في شباط 1962 إلى إحدى أبرز قضايا المداولة في المجلس النيابي السوري. وهو ما كان يشير إلى أنّه مهما كان الوضع سيئاً فإن الديمقراطيات أفضل حتى في حال تشوّهها في الدفاع عن حقوق «المغبونين» و«المهمّشين». ولكن بسبب نفوذ نظام الدين «التاريخي» في السلطة، فإن سكرتارية مجلس النواب السوري في عهد الانفصال قد شطبت الفقرة المتعلّقة به من سؤال أحد النواب، وهو نوري العارف نائب حلب، وهو كرديّ ينتمي إلى الزعامات، ولكنه كان متحسّساً بشكل مخلص لقضايا الفلاحين.
وقد اضطرّ وزير الإصلاح الزراعي اللاحق بكري قباني (الحزب الوطني- حلب)، وهو وزيرٌ حلبي «شرس» اختير في منصب وزير الإصلاح الزراعي كي يلغي هذا القانون، إلى منع نظام الدين «ظاهرياً» من فلاحة «أبو راسين»، وإجازة العائلات التسع «المكتومة» بتسجيل نفسها كي تتمتّع قانونياُ بسندات التمليك، بينما بقيّة المنتفعين كانوا من غير المكتومين.
أما القصة الكاملة لقرية «أبو راسين» نفسها فكانت في الحقيقة قصّة أراضي دولة وضع نظام الدين حين كان في السلطة يده عليها، واعتُبِرَ بموجب القانون مستأجراً لها مقابل 3 آلاف ليرة سنوياً. وفي آخر محاولة له لمعاودة استيلائه على هذه الأرض اقترض نظام الدين مبلغ 40 ألف ليرة سورية من مصرف سورية والمهجر كي يثبّت حقه في استثمار الأرض وعدم «هجرانها». غير أن الحملة البرلمانية التي أرغمت الحكومة على إعادة النظر بقرار سعيد السيّد بإلغاء توزيع أراضي «أبو راسين» على الفلاحين، قد دفعته إلى التوقّف عن تسديد القرض، مما دفع مؤسسة الإصلاح الزراعي إلى حجز كافة ممتلكاته بما في ذلك الأراضي التي يحقّ له الاحتفاظ بها. بينما سار سيده خالد العظم في طريقٍ آخر، فقد رفع دعوى على الحكومة كي لا يسدّد قرضه. وأدخلها في «أغنية الشيطان» ورحل دون أن يسدّده، حيث كان قرض العظم بعد إسقاط حكومة الكزبري الفوائد عن الملاكين المقترضين من البنوك وغير المسدّدين لها قد بلغ يومئذ 300 ألف ليرة سورية، بينما كان قرض نظام الدين لايتعدّى 25 ألف ليرة سورية..
الحصاد المرّ لكبار الملاك الأكراد
كان عبد الباقي نظام الدين أحد أكبر «شياطين» عملية الإحصاء الاستثنائي، حيث بادل سعيد السيّد حين كان وزيراً للإصلاح الزراعي «إخلاصه» للدولة حول «خطر المتسلّلين» عبر محاولة إخلاء الفلاحين «المتسلّلين» من أراضيه، إذ كان يعتقد أن إلغاء قانون الإصلاح الزراعي قد سار إلى نهايته.
ففي فترة حكومة بشير العظمة واصلت الحكومة اليسارية توزيع الأراضي دون أيّ تمييزٍ ثقافيّ أو عرقيّ أو إثني وبوتيرةٍ سريعةٍ جداً. والحقيقة أن أحمد عبد الكريم قد أكمل الاستيلاءات على أراضي كبار ملاّك كانوا قبل سنوات سادة القرار في سورية. وفي فترة «وهن» حكومة بشير العظمة تمّ تمرير مشروع الإحصاء الاستثنائي دون مناقشة حكومية حقيقية ، ليصبح هذا الإحصاء هو قضيّة حكومة العظم الثالث الأولى، لكن تحت اسمٍ مفخّم هو «برنامج إصلاح منطقة الجزيرة».
تمّت عملية الإحصاء، وهي عملية سياسية-اجتماعية وليس أمراً فنياً على الإطلاق. حيث كانت الزعامات العشائرية والعائلية الكردية الكبرى حينها منقسمةً فيما بينها، ووقفت صفاً واحداً تقريباً ضد صعود الحزب الديموقراطي الكردي، وكانت تحاول جميعاً الدفاع عن مصالحها. ودخلت في الحقيقة كطرفٍ فعليّ في عملية الإحصاء. لكن صراع المصالح الضاري أدى إلى نتائج «مفاجئة»، فقد جرى تصنيف كثيرٍ من العائلات على مستوى الأسرة الواحدة نفسها إلى مواطنين ومكتومين ومتسرّبين. حتّى أنّ عائلة نظام الدين نفسها كانت منقسمة أشدّ الانقسام حول الملكية، وصلت منازعاتها إلى القضاء، بل إلى محاولة التحكيم بالقبضات. بحيث شملها من اعتبره الإحصاء أجنبياً متسلّلاً ومن اعتبره مواطناً. وانطوى ذلك على فضيحة تمثلت في أنّ النائب والوزير السابق عبد الباقي نظام الدين بذاته، وشقيقه اللواء المتقاعد توفيق نظام الدين الذي كان رئيس هيئة أركان الجيش السوري في العام 1955 وأحيل إلى التقاعد، وكان يقبض راتبه التقاعدي قد اعتبرا من «أجانب تركيا»، بينما لم يجرّد آخرون من عائلة نظام الدين من الجنسية.
لم يكن الأمر مدفوعاً بسياسة نظامية مركزيةٍ من حكومة العظم الثالث لـ«إبادة» الزعامات، بقدر ماكان نتاج حرب «الإبادة» بين هذه الزعامات. هكذا سمحت فوضى الصراع لسلطة السيّد حتّى بتجريد أبناء إبراهيم باشا الملّي وأحفاده من الجنسية، وهم الذين كانوا سادة الجزيرة خلال الفترة العثمانية وحتى أواخرها، وحاربوا الانتداب الفرنسي ليس لدواع وطنيّة وقومية، بل للدفاع عن سلطاتهم التاريخية الكبرى التي كانت لهم بالفعل. وقد تمكّن هؤلاء بيسرٍ من استعادة الجنسية.
الجزيرة.. نهر الذهب
في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 1962 استكملت حكومة العظم وضع مبادئ برنامج إصلاح منطقة الجزيرة، وتولّى سعيد السيد محافظ الحسكة واللواء عزيز عبد الكريم وزير الداخلية صياغته الأخيرة في ضوء المداولات البينية مع الوزراء.
لم يكن هذا البرنامج في حقيقته إلا ستاراً لعرقلة تطبيق وتنفيذ الإصلاح الزراعي تحت اسم مواجهة المؤامرة «المشبوهة» لـ«المتسللين». فطموحاته التنموية كانت «فارغةً» من المعنى، لأنّه لم يكن هناك في الموازنة العادية والاستثمارية المعتمدة ما يساعده، سوى في بند قوى الأمن الذي كان حصيلة البرنامج الفعليّة. أمّا اهتمام جهاز السلطة في مرحلة العظم الثالث بمنطقة الجزيرة، فقد أتى من أنّ التركّز الأكبر لكبار الملاّك المشمولين بالقانون هو فيها؛ فقد بلغ عددهم في الحسكة 1036 ملاكاً يشكّلون 32% من إجمالي عدد الملاكين الشمولين البالغ 3240 مشمولاً. كما كان التركّز الأكبر للأراضي المشمولة بقانون الإصلاح الزراعي هو أيضاً في الحسكة، إذ بلغ 37.6% من إجمالي الأراضي المشمولة بالقانون، تشكل الأراضي المروية منها مانسبته 20.7% إلى إجمالي الأراضي المروية في سورية، أو ما يفوق خمسها المشمول.
إضافةً إلى ذلك، بلغت نسبة الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها فعليّاً حتّى حينه النسبة الأكبر في سورية: 56.6% من مجمل الأراضي المشمولة مقارنةً مع 38% لمجمل سورية، و28.2% من مجمل الأراضي المروية المشمولة مقارنةً مع 15.2% لمجمل سورية.
لقد شكّلت هذه الوضعية مصدراً للأطماع بـ«نهر الذهب»، والتمتّع على الأقل بحريّة بالنصف الثاني منه، بينما يتمّ عرقلة استفادة الفلاحين من نصفه الأول ضمن دوامة «أغنية الشيطان» التي اقترحها سعيد السيّد. لقد كان بؤساء الـ85 ألفاً عشية ذلك اليوم «الجهنّمي»، يوم الإحصاء، هم ضحايا طمع سادة السياسة والسلطة في سورية بـ«نهر الذهب»، بمن فيهم الزعامات الكرديّة. بحيث كانت عملية الإحصاء الاستثنائي فاتحة عمليّات حكومة العظم الكبرى، زرعت هذا الندب والجرح في الهوية الوطنية السورية.
هكذا تمّ تغريب أبناء محافظة الحسكة في سورية داخل مسقط رأسهم، والذين لم يعرفوا سوى سورية وطناً لهم، في أواخر عهد جمهورية الانفصال التي قلّصت السلطة لمصلحة أصحابها. أمّا اليوم، فقد آن لهذه المأساة أن تنتهي بضربةٍ واحدةٍ أي بقرارٍ واحدٍ يعادل وزنه قوّة خطّة إقصاء ثنائي السيّد- العظم لهؤلاء عن الدولة/الوطن.
ففي الدروس المنهجيّة لعلم السياسة نعرف أن موضوع العلم هو دراسة القدرة، لكن غاية العلم نفسه هي الحرية. لقد آن لفضيحة العظم الثالث- السيّد التي «تخجِّل» تاريخ أي دولةٍ في العالم أن تنتهي، وأن تكون الدولة بالفعل لجميع مواطنيها.
* باحث ومفكر سوري
لوموند ديبلوماتيك العربية
عدد آب 2009