محمد جمال باروت محمد جمال باروت

الإحصاء الاستثنائي في سورية وجروح الهوية الوطنية السورية (1 - 2)

قامت الحكومة السورية إبان ما يعرف في التاريخ السوري بمرحلة «الانفصال»، في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1962 بعملية إحصاء استثنائي للسكّان في (منطقة) الجزيرة، نتج عنها «تجريد» أو «حرمان» ما لا يقل عن 28% من سكان المحافظة من الجنسية، وتصنيفهم تحت بند «أجانب تركيا» في البداية، ثم تحت بند «أجانب الحسكة» لاحقاً.. وقد قصدت الحكومة بذلك «متسلّلين أكراد» من جنوبي تركيا إلى هذه المحافظة بطريقةٍ غير شرعيةٍ..

تفتقد مدرسة التاريخ السوري إلى أيّ توثيق أكاديمي موضوعيّ لعملية «الإقصاء» هذه، التي تمّت تحت عنوانٍ قانوني «حيادي» هو «الإحصاء العام». لم يبقَ إذاً سوى «التوثيقات» الإيديولوجية التي تصلح في مجال المقاربات السوسيولوجية والأنتروبولوجية للتعّرف على اتجاهات الرأي العام، لكنّها لا تصلح لمقاربة حقيقة المشكلة وسيرورتها. وقد كان مشروع «سورية 2025» أوّل من قارب هذه القضية بشكلٍ شديد الوضوح والموثوقية العلمية، عبر الاستناد النقدي إلى البيانات الموثقة، التي وإن لم تكن متاحةً للعموم لكنها أتيحت للمشروع. تحاول هذه المقالة، وهي ملخّص لبحثٍ أكبر وأشمل، أن تضع مقاربة جديدة تنطلق من قراءة المشكلة في سيرورة نشوئها وتشكّلها وتبلورها وتشخيص نتائجها، بصورة أكثر اتساقاً مع التاريخ كسيرورةٍ حية.

 

فصول المأساة..

في أواخر آب/أغسطس 1962، أي في أواخر مرحلة ما تطلق عليه الأدبيات التاريخية اسم «عهد الانفصال»، وعلى خلفية أزمةٍ حادةٍ ذات اتجاهاتٍ مركّبةٍ وشديدة التعقيد طوّحت بحكومة بشير العظمة اليسارية ذات الاتجاهات الوحدوية، والتي اتخذت موقف «الحياد» في الحرب العربية الباردة بين الرياض والقاهرة (16 نيسان/إبريل - 13 أيلول/سبتمبر 1962)، شكّل خالد العظم حكومته الجديدة (17 أيلول/سبتمبر 1962 - 7 آذار/مارس 1963). وكانت هذه الحكومة خامس حكومة وآخرها في مرحلة «الانفصال»؛ ودشّنت في تاريخ تطوّر الأدوار السياسية لخالد العظم ما يمكن تسميته بـ«مرحلة العظم الثالث» المحافظ في السياسات الاجتماعية، والتسلّطي في ممارسة السلطة، والباحث عن الرعاية الأمريكية، والمتهرّب من دفع ديونه الباهظة التي كفلتها الدولة لمصرف سورية والمهجر، وكانت مع فوائدها يومئذ تصل إلى 430 ألف ليرة سورية، وهي صورة مختلفة عن صورة العظم الباشا التقليدي المستنير الأول (1940-1950) التي ارتبط بها إنجاز أوّل قانون عصري للعمل في تاريخ البلدان العربية، ومحاولة مأسسة الدولة الفتيّة؛ كما أنّها مختلفة بشدةٍ عن صورة العظم الثاني أو صورة «المليونير الأحمر» في الخمسينيات، ولاسيما في أواسطها التي توّجها العظم بخطوته التاريخية في إبرام اتفاقية التعاون الاقتصادي والتقني مع الاتحاد السوفياتي في ذروة الحرب الباردة.

قامت حكومة العظم الثالث في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1962، ولمّا يمضِ على تربّعها في الحكم أكثر من ثلاثة أسابيع بإجراء «إحصاءٍ عام للسكان في محافظة الحسكة»؛ وكانت وزارة الداخلية قد استغلّت شلل حكومة بشير العظمة التي باتت منذ أواخر آب/أغسطس 1962 في وضعية الحكومة المستقيلة نتيجة الضغوط الهائلة والضارية التي مارستها ضدها الرياض وغرفة تجارة دمشق ووكلاء شركات النفط، وجبهة النوّاب السابقين بقيادة خالد العظم وعصام العطار وأكرم الحوراني، وقرّرت في أيلول/سبتمبر 1962 القيام بهذا الإحصاء. وقضى قرار وزارة الداخلية التفصيلي بإنهاء كافّة سجلات الأحوال المدنية السابقة المتعلقة بسكان المحافظة، وإجراء إحصاء عام جديد لسكان المحافظة سوريين و«أجانب».

اعتمدت عملية الإحصاء مؤشراً أساسياً في تثبيت الجنسية يقوم على اعتباره سورياً كلّ من كان مسجّلاً في قيود الأحوال المدنية قبل العام 1945، ومقيماً في سورية منذ ذلك الوقت وحتى إجراء الإحصاء. لكن وزارة الداخلية أمهلت كل شخص مسجل في سجل الأحوال المدنية أن يستحصل خلال مدة شهر من تاريخ صدور هذا القرار على صورة عن قيده وقيد عائلته لإبرازها إلى موظفي الإحصاء المزمع إجراؤه في المحافظة، كي يتم تثبيت تجنيسه. كان الهدف من ذلك التمييز بين السكان هو حصر سكان الحسكة غير المسجّلين في قيود الأحوال المدنية، إذ أن عدد السكان السوريين المقيّدين في سجل الأحوال المدنية مثبّت ومعروف.

ولكن لم يكن مؤشّر التسجيل في قيود الأحوال الشخصية واقعياً؛ لأنّ ظاهرة المكتومين غير المسجّلين كانت منتشرةً لدى العرب والأكراد على حدٍّ سواء في ذلك؛ وهي ظلت منتشرةً بدرجاتٍ أقلّ خلال العقود القادمة التي تلت عملية الإحصاء، وماتزال منتشرة حتى الآن بمعدّلاتٍ مرتفعةٍ نسبياً في محافظات المنطقة الشرقية في سورية. هكذا لم يكن الهدف من الإحصاء هو توثيق المسجّلين، بل توثيق من تمّ وصفهم بـ«المتسلّلين» أو ما سيطلق عليه اسم «أجانب تركيا»، ثمّ «أجانب الحسكة» بعد اعتراض السلطات التركية على استخدام هذا الوصف.

ولهذا قامت سلطات الإحصاء بالتوثق من الهوية الاثنية لـ«المكتومين». وكان التوثّق يتمّ وفق نمط علاقات السلطة والمجتمع يومئذ عن طريق موظّفي جهاز الدولة، ومخافر الشرطة ومفرزة الشعبة السياسية، والوجهاء وزعماء العشائر الذين لم تكن مصالحهم تخلو من التضارب. وتمّت عملية الإحصاء برمّتها تحت إشراف عرّابها الحقيقي الذي دفع بها من ألفها إلى يائها: سعيد السيّد محافظ الحسكة؛ وكان السيّد يصف نفسه في سيرته الذاتية بأنّه «قومي عربي متطرّف، واشتراكي المذهب غير متطرِّف، يعمل للوحدة العربية بكل جوارحه، وهي شغله الشاغل، وأمله الوحيد في الحياة». وكان السيد شقيقاً لجلال السيد أحد مؤسّسي حزب البعث الذين انشقوا عنه مبكراً بسبب نزعاته الاشتراكية وموقفه من مسألة الوحدة مع العراق، لكنه لم يكن بعثياً، بل أقرب إلى الجيل القومي التقليدي الذي كان بعض رجاله متأثّرين بالفكر القومي المتطرِّف والشوفيني. ولعبت اتجاهات السيد هذه دوراً حاسماً في تقرير نتائج واتجاهات عملية الإحصاء، بسبب إحكامه السيطرة على مركز السلطة في المحافظة.

 

النتائج

نتج عن عملية الإحصاء تسجيل 85 ألف مقيمٍ في محافظة الحسكة في يومٍ واحدٍ بصفة «أجانب أتراك»، وكانت الأغلبية الساحقة من هؤلاء من بين «الأكراد»، اتّهموا بـ«التسلّل» من تركيا إلى سورية، في حين كان عدد السكان من العشائر العربية والسريان الذين شملهم «التجريد» قليلاً. وقد شكّل هؤلاء «المكتومون» الذين وضع لهم سجل خاص مانسبته 28% من إجمالي عدد سكان المحافظة المسجّلين والمقدّر يومئذ بـ302 ألف نسمة، في ضوء نتائج التعداد العام الذي تمّ في العام 1960، والذي كان أول تعداد عام يجري في سورية وفق الضوابط العلمية للتعدادات العامة.

قلّص إذاً هذا التصنيف من عدد الأكراد ونسبتهم إلى المجموعات الثقافية- الاثنية الأخرى؛ وترتّب عليه إخراجهم من عملية الملكيّة والسياسة والانتخابات، وإضعافهم عموماُ مع قياداتهم في توازنات القدرة، والسلطة، والثروة والتوزيع الإثني، لصالح منافسيهم الأشدّاء «الآشوريين» الذين استوطنت موجتهم الحديثة في القرن العشرين في المحافظة خلال سنوات 1933- 1936 بموجب اتفاقية فرنسية-عراقية برعاية عصبة الأمم وتمويلها، بعد الأزمة التي حصلت لهم في العراق.

لم يكن عدد سكان الجزيرة يومئذ كبيراً بسبب أنها كانت لاتزال في مرحلة «التوازن السلبي» في مراحل التطوّر الديمغرافي للمجتمع السوري، أيّ المرحلة التي يكون فيها معدّل النمو السكاني صفرياً بسبب حصد الوفيات للولادات، بينما كانت المناطق الأخرى في سورية قد دخلت في مرحلة النمو السكاني السريع.

من هنا كانت المحافظة تحتلّ يومئذ المرتبة السادسة بعدد السكان بين المحافظات السورية، وتتّسم بما تطلق عليه أدبيات السكان والتنمية بـ«التخلخل السكاني»؛ في حين أنها كانت قابلة أن تحتلّ المرتبة الثالثة على الأقلّ. وكانت تصورات خطط التنمية ترشّحها لاستيعاب أعدادٍ كبيرةٍ من السكان بسبب الثورة الزراعية الحادثة فيها، وتوسّع مشاريع الري واستصلاح الأراضي (بحيث دعيت تلك المنطقة حينها «كاليفورنيا الشرق»)؛ والأهم في عوامل زيادة الاهتمام هو ارتفاع وتيرة العمل لتصميم بناء سد الفرات الذي خطّط له أن يضاعف المساحات المروية من الأراضي القابلة للاستصلاح والاستثمار والزراعة، واكتشاف النفط فيه بكميات تجارية.

 

إعادة تعريف منطقة الجزيرة: مفارقات أولى

كان تعريف منطقة الجزيرة يتمّ دوماً منذ نهاية الأربعينيات بواسطة مفهوم الزراعة التي تشكل المصدر الأساسي للناتج المحلّي الإجمالي السوري؛ لكن اكتشاف النفط الثقيل فيها بكميات تجارية أخذت تتنافس على استغلالها الشركات النفطية الأوروبية والأمريكية المتوسطة في العام 1962 على وجه التحديد، أضاف مصدراً ثانياً أساسياً لتعريفها، وهو تعريفها بواسطة أهميّة النفط. إذ كانت الحكومات السورية الخمس المتتابعة في مرحلة «الانفصال» قد باتت مقتنعةً أشدّ الاقتناع بأنّ سورية قد باتت قابلةً للتحول إلى منتجٍ «صغيرٍ» للنفط.

برز تعريف منطقة الجزيرة من خلال النفط في اعتبار حكومة العظم أن «عملية تسلّل الأكراد الأتراك إلى سورية بأنها تشكّل مؤامرةً تهدف إلى توطين بعض الفئات غير العربية ضمن المثلث البترولي في سورية»، وأن الحكومة عازمة على «بناء خط الأنابيب بين حقول النفط في الجزيرة وبين مصفاة بانياس، وبين مصفاتين جديدتين تعتزم الحكومة بناءهما». وكان ذلك مرتبطاً بإتمام حكومة العظم الثالث مفاوضاتها مع شركة كونكورديا الألمانية لاستغلال النفط السوري الثقيل الذي بات يومئذٍ قابلاً للإنتاج بكمياتٍ تجاريةٍ، سواء في حقول التي استكشفتها كونكورديا في السويدية أم في حقول الهيئة العامة للبترول في كراتشوك.

وتكمن المفارقة في أن عملية الإحصاء قد جرّدت مالا يقل عن 28% من سكان المحافظة من الجنسية، وجعلتهم عديمي الحقوق، وبالتالي فاقمت من مشكلة مايسمى في أدبيات السكان والتنمية بـ«التخلخل السكاني» بينما كانت تنمية الجزيرة على أسس الزراعة ومشروع سد الفرات من جهة، وكذلك استغلال النفط من جهة ثانية يفترض اتباع سياسات توسعية تقوم على «التركّز السكاني»، والبحث عن زيادة عدد سكان الجزيرة لتوفير اليد العاملة الضرورية للمشاريع الجديدة.

 

*باحث ومفكر سوري

 

 

 

لوموند ديبلوماتيك العربية / عدد آب 2009