ترجمة : جوزف عبدالله، في ٨ تموز ٢٠١١ ترجمة : جوزف عبدالله، في ٨ تموز ٢٠١١

تقرير أوروبي: ليبيا.. «ثورة» مريبة ومستقبل غامض

قامت بعثة من الخبراء الدوليين بتحقيق ميداني في ليبيا حول مجريات وملابسات «الثورة» هناك، وأصدرت خلاصة تحقيقها في أواخر أيار ٢٠١١ ضمن تقرير بالفرنسية بعنوان «ليبيا: مستقبل غامض».. ولما كان هذا التقرير يشكل عملاً فريداً من نوعه حول الأزمة الليبية، وجدنا من المفيد ترجمته إلى العربية، فلعل ما فيه يصحح الصورة عن مجريات الأمور في ليبيا.

 تمهيد

قامت بعثة دولية من الخبراء بزيارة إلى ليبيا على مرحلتين: الأولى إلى العاصمة طرابلس من ٣١ آذار حتى ٦ نيسان، والثانية إلى بنغازي ومنطقة برقة من ١٩ نيسان حتى ٢٥ منه. وكان غرض الزيارة تقويم الوضع في ليبيا بكل استقلالية وحيادية، وبمقابلة ممثلي الطرفين المتنازعين. وهذا المسعى فريد في سياق كل هذه الأزمة الليبية. وقد تم تنظيم هذه البعثة بمبادرة من «المركز الدولي للبحث والدراسات» و«المركز الفرنسي للبحث حول الإرهاب ومساعدة ضحايا الإرهاب»، وبدعم من «المنتدى من أجل السلام في المتوسط».. ضمت البعثة الشخصيات الآتية:

-1 السيدة سيدة بن هابيليس/الجزائر، وزيرة التضامن سابقاً، عضو مؤسس في «المركز الدولي للبحث والدراسات حول الإرهاب»، حاصلة على جائزة الأمم المتحدة للمجتمع المدني.

-2 السيدة روميانا أوغارتشينسكا /فرنسا- بلغاريا، باحثة وصحفية تحقيقات.

-3 المفوض إيف بونيه/ فرنسا، مدير فخري في الأمن، نائب سابق، مدير سابق في المخابرات الفرنسية ورئيس «المركز الدولي للبحث والدراسات حول الإرهاب».

-4  السيد ديرك بورجبيه/ بلجيكا- خبير مستقل.

-5 السيد إريك دونيسيه/ فرنسا، مدير «المركز الفرنسي للبحث حول المعلومات».

-6 السيد أندريه لومينيين/ فرنسا، خبير مستقل، نائب رئيس «المركز الدولي للبحث والدراسات حول الإرهاب». 

ملخص التقرير

ليس هناك ضرورة أبداً للتركيز على الطبيعة الديكتاتورية التي فرضها معمر القذافي على مواطنيه منذ ١٩٦٩ لشدة ما هي مثيرة للنقد، فبمواجهة حالة مماثلة، ليس من أمرٍ أكثر شرعية من التطلع إلى مزيد من الحرية والديمقراطية.

ومع ذلك، فإن دراسة الوقائع تؤدي إلى التأكيد على أن «الثورة» الليبية ليست ديمقراطية ولا عفوية. إنها انتفاضة مسلحة في الجزء الشرقي من البلاد، في نطاق فكرٍ انتقامي وانشقاقي، تحاول أن تندرج ضمن حراك «الربيع العربي» الذي، بكل الأحوال، لا تنتمي إليه. لذا، فإن الحراك الليبي لا يمكن أن يقارن بالثورتين الشعبيتين التونسية والمصرية.

وما هو مقلق أكثر أن المجلس الوطني الانتقالي يؤكد على أنه ليس إلا ائتلاف عناصرٍ متباينة ذات مصالحٍ مختلفة، تجمعها سمة واحدة مشتركة ألا وهي معارضتها الحثيثة للنظام. فالديمقراطيون الحقيقيون لا يشكلون ضمنه إلا أقلية، وعليهم التعايش مع مقربين سابقين للعقيد القذافي، ومناصري عودة النظام الملكي ومؤيدي إقامة حكم الإسلام الأصولي.

وبالتالي لا يقدم هذا المجلس أي ضمانة للمستقبل رغم إصرار الديمقراطيين، ذلك أن الأطراف الأخرى تنوي توجيه مجلس الائتلاف باتجاه أهدافها.

يصح ذلك خصوصاً أن ليبيا هي البلد الوحيد في «الربيع العربي» الذي يتزايد فيه الخطر الإسلامي، فإقليم (برقة) هو من بين مناطق العالم العربي المنطقة التي أرسلت أكبر عدد من المجاهدين لمحاربة الأمريكيين في العراق. لذا يبدو أن القوى الغربية قد أظهرت نزعة مغامرةً مفرطة بانخراطها في هذه الأزمة، وما كان ينبغي أن يكون فوزاً سهلاً قد أصبح شبه فشلٍ بسبب تخاذل القوات المتمردة، فتوقف عمليات المتمردين لم يترك لها سوى احتمالين: إما التراجع غير المشرف، وإما الانخراط أكثر في النزاع، تحديداً بإرسال وحدات برية.

لقد خلق التدخل الغربي مشاكل أكثر مما حل منها، ومن المحتمل أن هذا التدخل يعرض بقوة إفريقيا الشمالية والساحل والشرق الأوسط إلى زعزعة استقرارها وإلى تشجيع ظهور بؤرة جديدة للإسلام الأصولي، أو حتى للإرهاب في إقليم بنغازي (برقة) .

قد يتمكن التحالف من القضاء على الزعيم الليبي. ولكن على الغرب أن يكون حذراً من أن يتم استبداله بزعيمٍ آخر أكثر تطرفاً وأقل ديمقراطية. 

بنية الدولة الليبية

ليبيا دولة على بنية قبلية، حيث السلطة المركزية هي فقط من يوحد البلاد، والتوزيع العشائري يشكل قاعدة المجتمع، وهذا ما يميز هذه الدولة عن جارتيها تونس ومصر، فالولاءات القبلية تلعب دوراً أساسيَا في السياسة الليبية، ويستند نظام القذافي على تحالف بين قبيلة صغيرة قذافا- التي ينتمي إليها- واثنتين من أكبر قبائل البلاد: رفللا، القائمة أساساً في إقليم طرابلس، ومغرها في فزان..

ورغم أن أربعة عقود من حكم القذافي قد سمحت ببلورة إحساسٍ بالانتماء الوطني، إلا إن الليبيين يعرفون عن أنفسهم قبل أي شيء بانتمائهم القبلي.

وتنتشر القبائل الآن في كل البلاد نتيجة امتزاجٍ متواصل للشعب. وهكذا نجد أعضاء من قبائل بنغازي في مدن غرب ليبيا. وقد يفسر هذا الحراك الاجتماعي حدوث الانتفاضات ضد النظام

وليبيا القذافي هي نظام استبدادي.. ٤٢ عاماً من الظلم والحرمان من الحرية..

في شباط ٢٠١١ ، كان الوضع في البلاد جامداً. وعلى نقيض تونس ومصر، لم يكن هناك مكان للأحزاب السياسية وللنقابات وللإعلام المستقل، ومؤسسات المجتمع المدني كانت شبه معدومة. لم يكن هناك أي معارضة.. كان البلد يعيش تحت مراقبة مشددة مترافقة مع اعتقالات تعسفية، مع أن الحاجة إلى الإصلاح كانت صارخة، وهذا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى انفجار العنف.

كان نظام القذافي يقود البلاد بلا هوادة للانغلاق على نفسها مسبباً انعزالاً عن الواقع، وكان الإنفتاح على العالم يقتصر على السفر، وبشكلٍ ملحوظ، على تعليم اللغات الأجنبية التي تتكلمها قليلاً الأجيال الشابة، باستثناء الليبيين المقيمين في المهجر.

وفي السياق نفسه، تعرقل تطور المجتمع المدني إلى حد كبير.. 

النموذج الاجتماعي - الاقتصادي

إذا كان الزعيم الليبي ديكتاتوراً دون منازع، وإذا كان السكان لا يحسدون على وضعهم فيما يتعلق بممارسة حرياتهم الديمقراطية، فإن الوضع الاجتماعي الاقتصادي في البلد استثنائي، ولقد طور القذافي بلاده بعكس طغاة إفريقيا الصحراوية، بالرغم من أنه والمقربين منه قد أثروا بشكلٍ كبير منذ وصوله إلى السلطة. فإعادة توزيع الدخل، بالرغم من عدم المساواة فيها، سمحت بضمان السلام الاجتماعي.

في عام ١٩٦٩، عندما استلم العقيد القذافي السلطة بانقلابٍ أطاح بالنظام الملكي، كان الشعب الليبي من أفقر الشعوب في العالم مع أقل من ٦٠ دولار كدخلٍ سنوي للفرد الواحد. حالياً، وبفضل الثروة النفطية، تعرف ليبيا واحداً من أعلى مستويات المعيشة في العالم العربي والأعلى في إفريقيا. فغالبية العائلات الليبية تملك منزلها الخاص والغالبية تملك سيارة أيضاً. ونظام الصحة العامة المجاني هو من أفضل الأنظمة في العالم العربي، وكذلك الأمر بالنسبة للتربية فهي مجانية أيضاً ومشرعة على مصراعيها للنساء.

المستشفيات والمستوصفات مطابقة للمعايير الأوروبية، والخدمات الصحية المقدمة داخل أو خارج البلاد مدعومة من الدولة. وذلك حتى في السياق المؤلم لقضية ٤٧٥ طفلاً مصاباً بالسيدا في بنغازي، والمعروفة بقضية «الممرضات البلغاريات»، فقد تكفلت الحكومة الليبية بتغطية كامل تكاليف علاج الأطفال في المستشفيات وتكاليف انتقال العائلات (سفر إلى الخارج، أدوية). ولكن حالياً، فإن المستشفيات تقول إنها لا تملك الوسائل اللازمة لعلاج الأطفال. وبالنسبة لمرض السرطان، فالعلاج الذي كان مجانياً لم يعد كذلك.

تملك البلاد مرافق عامة وحضرية على مستوى عالٍ من الجودة، فالطرقات جيدة ومنازلٌ كثيرة كانت قيد الإنشاء قبل اندلاع الثورة كما يتضح من ورشات البناء التي توقف العمل فيها. وهذا النظام كان أيضاً داعما لتطور صناعة النفط، مثل مصفاة بريقة. وأطلق أيضاً خططاً مهمة لإنشاء مرافق تأسيسية في مجالي الزراعة والصناعة، لدرجة إنشاء مشروع «النهر الكبير» وهو مشروع ضخم جداً تم إنجاز قسمٍ كبيرٍ منه، وهو استثنائي في «العالم العربي».

الوضع الاجتماعي- الاقتصادي في ليبيا، مترجماً بإحصاءات وملخصات، هو التالي: في ظل النظام الملكي، كانت البلاد من أفقر دول العالم. حالياً، فإنها تأتي بالمرتبة ٥٣ عالمياً بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية– قبل روسيا والبرازيل وأوكرانيا وفنزويلا. فهي تعتبر الدولة الأكثر تطوراً في إفريقيا.

تمرد الشباب في تونس ومصر لعدم وجود فرص عمل. بينما في ليبيا، فقد استخدمت القطاعات الاقتصادية ثلاثة ملايين عاملٍ مهاجر. فالبطالة معدومة ومستوى المعيشة متناسب مع المعايير العالمية. 

دعم البلدان الإفريقية

ثمة أمر مجهول غالباً، وهو أن ليبيا كانت العامل الأساسي في نمو واستقلال القارة الإفريقية.. لقد مكن القذافي إفريقيا من أن تشهد ثورة تكنولوجية فعلية بفضل تمويله لأول قمر اتصالات إفريقي، وهذه التقنية سمحت بربط مجمل القارة بالهاتف وتوفير برامج البث التلفزيوني والإذاعي، وكذلك الكثير من التطبيقات التقنية مثل الطبابة والتعليم عن بعد. وبفضل تقنية أقيمت شبكة اتصال قليلة الكلفة عبر كل القارة، بما فيها المناطق الريفية.

بدأ ذلك في العام ١٩٩٢ عندما أسست ٤٥ دولة إفريقية «المنظمة الإقليمية الإفريقية للأتصال» ليكون لهذه القارة قمرها الخاص بها.

قبل ذلك كانت الاتصالات الهاتفية من وإلى إفريقيا هي الأغلى في العالم، لأنها كانت تتم عبر أقمار الاتصالات الأوروبية بكلفة مرتفعة.

بعد ١٤ سنة من الجهود الفاشلة التي بذلتها الدول الإفريقية للحصول على قرض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والولايات المتحدة وأوروبا، قام الزعيم الليبي بالمبادرة وقدم ٣٠٠ مليون دولار ليتحرك المشروع. وأضاف بنك التنمية الإفريقي ٥٠ مليون دولار وبنك تنمية إفريقيا الغربية ٢٧ مليون دولار. وبذلك تمكنت إفريقيا من الحصول على أول قمر خاص بها للاتصالات في ٢٦ كانون الأول ٢٠٠٧ . عندها قبلت روسيا والصين وضع ما لديها من تكنولوجيا بتصرف إفريقيا، ما سمح بإقامة الأقمار في إفريقيا الجنوبية والنيجر وأنغولا والجزائر. وتم وضع القمر الثاني في مداره الإفريقي في تموز ٢٠١٠.

وعلى صعيد المؤسسات فإن موازنة الاتحاد الإفريقي تم تمويلها بنسبة ١٥ % من ليبيا، ما يفسر تردد الاتحاد بإدانة معمر القذافي، بعكس الجامعة العربية التي يكره قادتها الزعيم الليبي.

ولقد امتدت عطاءات القذافي من إفريقيا الجنوبية إلى ليبيريا مروراً بمدغسقر وبلدان المنطقة الساحلية، فمول المراكز الإدارية والفنادق والمطاعم والشركات من شتى الأصناف ومنظمات إسلامية، وشبكة لتوزيع البنزين (عبر شركة نفط ليبيا أويليبيا)، ومؤسسات للتجارة وأنشطة ترفيهية... وفي مالي كانت ليبيا تغطي معظم تمويل التلفزيون في الثمانينيات... كما تخصص النظام الليبي في التوسط وفض النزاعات بين المتخاصمين... ولهذا وقف الكثير من المستفيدين من النظام إلى جانبه في أزمته...

تطوير المؤسسات الليبية

انطلاقاً من ملاحظة التفاوت بين تطور ليبيا الاقتصادي الاجتماعي وتخلف مؤسساتها الدستورية يبدو أن القذافي، بضغط من ابنه سيف الإسلام، كان مصمماً في السنوات الأخيرة على تطوير النظام التسلطي، خصوصاً عبر مؤسسة القذافي للتنمية. بدأ سيف الإسلام بالظهور منذ العام ٢٠٠٣ بصورة «الإصلاحي» المجسد للأمل بانفتاح ليبيا على الديمقراطية. وعهد بين عامي ٢٠٠٦ و ٢٠٠٨ بحملة إعلامية تقوم بها الشركة الأميركية، مونيتور غروب، لعرض إرادة النظام بالتطوير. لقد شعرت ليبيا بالحاجة إلى المساعدة لتطوير مؤسساتها باتجاه ديمقراطي وبتحديث اقتصادها. فبعد عشرات السنين من العزلة والجمود بدأت أوساط الأعمال والمواطنون والحكم والنخب المثقفة بالسعي إلى تعميق فهمهم لأفكار وممارسات العالم. وهكذا ففي العام ٢٠٠٩ قام سيف الإسلام بالإفراج عن حوالي الألفين من المعتقلين السياسيين الإسلاميين، كما كشف النظام عملياً عن رغبته بعلاقات شراكة جديدة مع البلدان الغربية:

- تخفيض الهجرة إلى أوروبا بنسبة ٩٠ % بعد اتفاقات بين طرابلس الغرب وروما.

- تدمير أسلحة الدمار الشامل الليبية، الامتناع عن ممارسة الإرهاب، وتعويض الضحايا الفعليين أو المفترضين، الإفراج عن الممرضات البلغاريات.

- تعاون وثيق مع الغرب في مواجهة تنظيم القاعدة، عبر اتفاقات مع الأجهزة الأمنية الأميركية والبريطانية (من خلال موسى كوسى).

- مشروع وضع دستور يختلف جذرياً عن وصفات الكتاب الأخضر، ويشارك في صياغته شخصيات غربية مشهورة (فوكوياما، فرنسيس ني، بنيامين باربر، توني غيدنز).

- هكذا فالنظام الليبي كان في مرحلة تطوير واسع عندما فاجأته «الثورة» بينما القذافي يتهيأ ليعلن إصلاحاته.

- بدأ الأمر كأنه عملية تم إعدادها بعناية. بدأت الحركة في ١٢ و ١٣ شباط ٢٠١١ . وفي ١٧ شباط أعلنت الحكومة عدة إجراءات للتهدئة، زادت مخصصات المواطنين، وأرسلت الموفدين إلى المناطق. وفي ٢ آذار أعلن القذافي إصلاحات تفسح المجال أمام حرية مؤسسات المجتمع المدني، وتقدم بإعلان مبادئ حول التشريعات والقضاء. ولكن الاحتجاجات تصاعدت.

- ويبدو أن محيط القذافي نصحه بالرد بقسوة لإسكات المحتجين، ما يطرح السؤال حول هوية المحيطين به الذين دفعوا بالأمور إلى المزيد من التدهور. 

الجيش الليبي والمرتزقة

لم تهتم ليبيا بتشكيل جيش محترف قوي، بل فضلت إرساء أمن النظام على قاعدة ميليشيات القبائل المنظمة في «اللجان الثورية».

يتألف الجيش الليبي من حوالي ٥٠ ألف جندي، منهم فقط عشرة آلاف على تدريب وتجهيز جيدين، وهم القوات المخلصة للنظام، والموزعة في أربع فرق...

لم يلاحظ في المعارك انشقاقات هامة داخل الجيش النظامي، حتى أثناء التقدم نحو مصراتة وأجدابيا.

قيل الكثير في «المرتزقة» العاملين في الجيش الليبي، ولكن الصحيح في ما قيل قليل جداً، وما هناك من مرتزقة لا قيمة له في العمليات العسكرية.

في نهاية السبعينيات أسس القذافي «الفوج الإسلامي» الذي غرضه التدخل على مجمل القارة الإفريقية تمشياً مع الحلم بتأسيس «إتحاد الدول الإفريقية»، بعد الفشل في تشاد عام ١٩٨٧، تم حل هذا الفوج.

في السنوات الأخيرة تم تجنيد غير الليبيين. ولكن ذلك يأتي في سياق الحياة الليبية عامة، خصوصاً في الاقتصاد حيث نسبة العمال الأجانب مرتفعة للغاية. والمجندون اليوم هم في غالبيتهم من المالي وتشاد والنيجر والكونغو والسودان. المعلومات المعروضة عن المرتزقة من جانب المعارضة متضاربة وغامضة وعرضة للكثير من الشك، فحجم المقاتلين الأجانب كمرتزقة مبالغ فيه كثيراً (حوالي ٦ آلاف)، ويبدو أن هناك خلطاً بين الليبيين من أصل أجنبي والمتطوعين الآتين من الخارج. ومهما يكن من أمر فهم لا يشكلون غير نسبة ضعيفة في الجيش الليبي. 

الثورة.. ظرف خاص

يبدو أن «الثورة» الليبية نشأت من التقاء عدة ظواهر:

السياق الإقليمي الذي يختصر بعبارة «الربيع العربي» الحامل للدعوة إلى المطالبة بالمزيد من الحرية من جهة، والوضع الخاص بليبيا، خصوصاً المنطقة الشرقية من جهة أخرى، والتدخلات الخارجية من جهة ثالثة.

ثمة في ليبيا، بفضل الثروة النفطية توزيع فعلي للثورة، وإن يكن غير عادل. كانت ليبيا تنتج قبل الأحداث ١,٥ مليون برميل يومياً. وما تحصل عليه يعادل ١٥٠ مليار دولار على سكان بحوالي الستة ملايين نسمة. كان لهذه الثروة المقرونة بسياسة اجتماعية طموحة وقع غير مألوف في إفريقيا: يرفض الليبيون القيام بأعمال يعتبرونها «مهينة». فالشبيبة التي تنهي دراستها ترفض المهن الدنيا، وتطالب بوظائف مربحة وبمسكن مرفه وسيارة جديدة، والحكومة ملزمة باستقدام الكثير من اليد العاملة الأجنبية، بمئات الآلاف للقيام بالأعمال التي لا يقوم بها الليبيون.

وعليه لا تبدو الأوضاع الاقتصادية محددة في انفجار الأزمة، ما يدفع إلى البحث عنها في مكان آخر.. ويبدو أن الأسباب محصورة في الشأن السياسي: أي رفض حكم الفرد والمطالبة بالحرية.

وبينما تشدد الدولة بنزعة الوحدة، لطالما كشفت منطقة (برقة، الشرق الليبي) عن رفضها لسلطة إقليم طرابلس (الغرب الليبي) ولحكم القذافي. وذلك باستمرار تأثير العائلة الملكية: السنوسيين والإخوان المسلمين.

بنغازي معروفة بأنها مركز التشدد الديني، وفي منطقتها تقليد إسلامي عريق بعكس الغرب الليبي: النساء محجبات تماماً، ولا تقدن السيارات مثلاً، وحياتهن الاجتماعية محدودة. وقد أصبحت بنغازي في السنوات الخمس عشرة الأخيرة مركز الهجرة الإفريقية نحو أوروبا، وهذه تجارة مربحة للغاية تقوم بها مافيات نشأت في هذه المدينة، ويشتغل فيها آلاف الأشخاص بمن فيهم الشرطة والموظفون.

كانت مافيا الهجرة في طليعة تمويل ودعم الانتفاضة الليبية. كما نشأت العصابات التي تهاجم العمال الأجانب، فتقتل البعض وتنهب البعض الآخر. ومنذ بدء الانتفاضة تعرض المئات من العمال السينيغاليين والصوماليين والأثيوبيين والأريتريين لهذه الأعمال. وهذا ما تخفيه بعناية وسائل الإعلام العالمية..

آخر تعديل على الجمعة, 14 تشرين1/أكتوير 2016 12:48