إيكولوجيا ماركس: تنمية إنسانية مستدامة منسجمة مع الطبيعة
وصلت العلاقة القائمة بين الكائن البشري وكوكب الأرض إلى لحظة انعطافٍ يتهدد فيها وجود البيئة البشرية برمتها، فإما أن تكون آمالنا بمستقبل هذه العلاقة ثورية، وإما أن يتلاشى المستقبل كما تتلاشى سرابات الأوهام.
ولعل الماركسية هي أفضل من قدم مقاربة موضوعية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وهو ما تؤكد عليه معظم المؤلفات الإيكولوجية الحديثة، وآخرها كتاب «إيكولوجيا ماركس» لبروفيسور علم الاجتماع في جامعة أوريغون «جون بيلامي فوستر»، وهو صاحب الكتاب الشهير «الثورة الإيكولوجية»..
الماركسيون والإيكولوجيون..
يقول فوستر: أعتقد أنه من المهم لحظ أن الماركسيين والإيكولوجيين ليسوا جماعتين متعارضتين كلياً. بالطبع وُجد حمر مناهضون للإيكولوجية، وخضر معادون للماركسية، ولكن كثيراً ما اتفقت الجماعتان، فالعديد من الاشتراكيين كانوا بيئيين، وكثير من البيئيين كانوا اشتراكيين. وفي الواقع، من المنطقي أن تَخلص الماركسية والإيكولوجيا إلى الاستنتاجات نفسها، قديماً وحديثاً. فقد كان الهدف، بالنسبة لماركس، الوصول إلى مجتمع تنتظم فيه العلاقة الحيوية بين الإنسانية والطبيعة (أي الإنتاج)، وتنضبط عقلانياً على يد المنتجين الأحرار مجتمعين. لذلك، بعد أن كان العنوان الأولي للكتاب المشار إليه «ماركس والإيكولوجيا»، قمت بتعديله إلى «إيكولوجيا ماركس»، ليعكس بشكل أدق، عمق إدراك ماركس للقضايا الإيكولوجية.
أعتقد أن المقاربة الماركسية النقدية، تقتضي رؤية العالم من زاوية إيكولوجية، فيما المقاربة الإيكولوجية النقدية تتطلب جذوراً معادية للرأسمالية، وتوجهاً اشتراكياً أصيلاً (أي ماركسياً)، خاصة في عصرنا الحالي. أما فيما يتعلق بالعمل المشترك الممكن قيامه بين الماركسيين والإيكولوجيين، فأعتقد أنه يتركز في مجالـَيْ تكريس العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة لإنقاذ البشرية وكوكب الأرض. مع العلم أن تحقيق واحد منها دون الآخر غير ممكن، وكذلك يستحيل تحقيق كليهما في ظل النظام الحالي السائد.
وأرى أن أقوى الأصوات المعبرة عن العلاقات الإيكولوجية في عالمنا المعاصر هو صوت إيفو موراليس، الاشتراكي (سليل سكان أمريكا الأصليين)، رئيس بوليفيا. وكذلك يحضرني هنا قول فيديل كاسترو، بعد مؤتمر التغير المناخي الفاشل في كوبنهاغن: كنا نعتقد سابقاً أننا نناضل من أجل تحديد معالم مجتمع المستقبل، ولكننا اكتشفنا مؤخراً أننا نصارع من أجل البقاء فقط. لقد وصلنا إلى مرحلةٍ يحدد فيها الماديون التاريخيون حاجات البشر الإيكولوجية.
تحديات التغير المناخي.. و«البروليتاريا البيئية»
أزمة الكوكب الإيكولوجية الأشمل، هي أعظم تهديد مادي واجهته الحضارة الإنسانية. وسوف نشهد زوال الأرض ككوكب مأهول بمختلف أنواع الأحياء ما لم نغير السلوك ونعكس الدورة. ولكنه يبدو أمراً مجرداً، لا يشعر به الناس لأن أثره لا ينعكس عليهم بشكل ثابت التواتر في الظروف المناخية اليومية، ولا حتى الفصلية. رغم أن تغير المناخ ليس مشكلة تنشأ بتدرج بطيء، بل تسرع بالوصول إلى ذراها المتنوعة، محدثة تغييرات لا رجعة عنها، ولا يمكن إلغاؤها. وفيما الزمن يسبق الناس، يتطلب فهم أبعاد المشكلة قدراً من التثقف والمعرفة.
وبينما تقوم حفنة من ناكري الاحتباس الحراري النافذين، الذين تم تفنيد كل مزاعمهم العلموية ودحضها مراراً وتكراراً، بتضليل الناس، لا يملك العلماء المجمعون تماماً على واقعية الخطر المحدق خطوط تواصل مباشرة مع الناس. ونظراً لقوة الطبقة الرأسمالية، التي تعتبر كل فعل رامٍ إلى تفادي المشكلة خطراً مباشراً على أرباحها، يتم تضخيم آراء ناكري التغير المناخي وتكرار عرضها في وسائل إعلام الشركات العملاقة السائدة. وبالتالي تُرك الناس العاديين نهباً للتشكيك وعدم اليقين، إضافة إلى غرقهم في مشاكل حياتية أخرى تبدو أكثر إلحاحاً بالنسبة لهم كالركود الاقتصادي، والانكماش الحاد القائم، وآثار السياسات النيوليبرالية التدميرية. فالعمال منشغلون بتردي مستوى معيشتهم وقلقون على أعمالهم، مع ارتفاع أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل. لذلك، يصعب التركيز على أمر مجرّد غير محسوس وضبابي مثل موضوع تغير المناخ.
إذا كنا نتوقع في هذه المنطقة ثورة جماعية شاملة من تحت، فأعتقد أنها لن تنطلق من مركز العالم الرأسمالي بل من محيطه. يتحدث توينبي، في دراساته التاريخية، عن بروليتاريا داخلية وأخرى خارجية (طرفية). أي كما في الثورة ضد الرأسمالية عموماً، تلعب دور القيادة فيما يتعلق بالتغير المناخي، البروليتاريا الخارجية المتوضعة في محيط عالم الاقتصاد الرأسمالي. وقد أشرت في كتاباتي الأخيرة إلى إمكانية نشوء «بروليتاريا بيئية»، تتحدد هوية نضالاتها من خلال تحسين الظروف البيئية، لا الظروف الاقتصادية وحدها، حيث يعيش أولئك الأكثر تعرضاً للقهر والقمع في بلدان العالم الثالث ويشكلون غالبية سكانه.
ويبرز هذا بشكل واضح في المناطق التي يُلحظ فيها ارتفاع مناسيب مياه البحر، في دلتا غانغ – براهمابوترا في بنغلادش والهند، وفي السهول الخصبة المنخفضة في المحيط الهندي وبحر الصين، مثل كيرالا في الهند، وتايلند وفييتنام وإندونيسيا. وفي بعض المناطق، مثل دلتا بيرل ريفر في الصين، حيث تلتقي التنمية السريعة مع أشد التناقضات الطبقية (كمنطقة غوانغ دونغ الصناعية الممتدة من شينجن إلى غوانغجو). أي من الممكن أن يتشابك شكلا النضال الطبقي والبيئي عالمياً، هذا عدا عن ظهور العديد من المؤشرات على تبدل الأسس المادية للصراع الاجتماعي، وبروز قضايا أعم، مثل حروب المياه والكوكا والنفط في بوليفيا، التي أوصلت إلى سدة الحكم حركة سياسية اشتراكية، أساسها سكان البلد الأصليون.
وحتى في مركز النظام الرأسمالي (البروليتاريا الداخلية)، يستمر تصاعد نضال البيئيين، خاصة حركة «العدالة المناخية» شبابية الطابع. ورغم عدم وجود ملامح ثورة من القاعدة العمالية في الوقت الحاضر، ورغم أن الحركة العمالية تبدو ساكنة في الولايات المتحدة خصوصاً، في ظل تردي الظروف الاقتصادية (والبيئية)، لدينا آمل بأن النضالات الاجتماعية الأساس، العمالية - البيئية سترسم إحداثيات جديدة لعملية التغيير. ولدينا أمل بظهور ما يشبه البروليتاريا البيئية في المركز أيضاً. وإذا ما قرأ المرء المؤلفات الكلاسيكية مثل تحليل أنغلز لظروف الطبقة العاملة في إنكلترا، يتوصل إلى إدراك أهمية النضال البيئي لتركيب الطبقة العاملة الإنكليزية في تلك الحقبة التاريخية.
والحقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بالتناقضات مزدوجة الطابع الناتجة عن فشل النظام الاقتصادي والبيئي، فالاشتراكيون وحدهم القادرون على الجمع بين هاتين الموضوعتين بشكل فعال. الماديون التاريخيون وحدهم يجسدون نظرية - ممارسة وعي أنهما ليستا موضوعتين منفصلتين، وأن لهما أساساً واحداً في النمط الرأسمالي للإنتاج. وأعتقد أننا نشهد تقارب الرؤى الاشتراكية والايكولوجية للمستقبل، أكثر فأكثر، باتجاه ثوري غير مسبوق. لكننا لسنا متهورين في تفاؤلنا، فالأمر يتطلب التنظيم، علاوة على جسامة الأخطار المحدقة، كازدهار بيئة الفاشية، وتكتيكات الإعاقة والتعطيل التي تمارسها السلطات، ويمكنها أن تدمر «الطبقات المقاومة تدميراً شاملاً».
العدالة البيئية والطبقة العاملة
أحد أول الأعمال المتعلقة بموضوعة العدالة البيئية، كان وصف أنغلز لحالة الطبقة العاملة الإنكليزية، حيث سلط الضوء على ظروف حياة الطبقة العاملة المليئة بالتعرض للسموم، بكل ما يعنيه ذلك من عواقب صحية، ومنبهاً إلى أثر هذه الظروف على الاصطفاف الطبقي وتركيبة المدن. فالعدالة البيئية تتضمن أيضاً شروط السلامة الصحية والأمان في المصانع، بمعنى أوسع من فهمها السائد، أي بما يشمل حتى طول مدة يوم العمل، كثافة العمل الساعيّ وشدته... الخ. كل هذه الموضوعات كانت جزءاً من نضال الطبقة العاملة منذ البدايات.
وحدها الحركة النقابية الممثلة لأرباب العمل، بانفصالها عن قضايا الطبقة العاملة الأخرى في ظل النواظم التشريعية-السياسية الرأسمالية المعاصرة، تتحمل مسؤولية دفع الناس نحو الاعتقاد بأن الحركة العمالية خصوصاً، والصراع الطبقي عموماً، يقتصران على قضايا معينة، بعيداً عن العدالة البيئية التي تعتبر مقياساً حقيقياً لمدى تأثير الظلم على الناس في مختلف ميادين الحياة.
طبعاً، ترتبط النظرة إلى اللاعدالة البيئية في الولايات المتحدة الأمريكية بالعرقية أكثر من ارتباطها بالطبقية، نظراً إلى أن الظلم البيئي الأكبر يقع على أفراد ومجتمعات الخاضعين للتمييز العرقي. فالتخلص من النفايات السامة، كما هو معروف، يتم في مناطق تواجد الملونين. ولذلك ينساق بعض الناس وراء الاعتقاد الخاطئ بأن هذه القضية عرقية المحتوى، وليست طبقية. وبالتالي إذا كانت المشكلة تؤثر على حياة الأمريكيين، هنوداً وسوداً ولاتينيين وآسيويين، فهي ليست قضية طبقية! وهذا يحمل في طياته، بشكل من الأشكال، إقراراً ضمنياً بأن الطبقة العاملة بيضاء! ولكن بالطبع تتشكل الطبقة العاملة في الولايات المتحدة من سواد ما يُدعى «الأقليات العرقية». ولا معنى للقول إن الطبقة العاملة بيضاء، حسب المفهوم الشائع (وكل ما تعلمنا إياه تلك الدراسات المبيَّضة عن «البياض» بحاجة إلى تمحيص وتدقيق). أي أن العدالة البيئية موضوعة طبقية وعرقية (وجندرية أيضاً) تطرح مهام وقضايا لا تقوى على معالجتها أية حركة عمالية معاصرة، «تجميعية» الطابع ومحافظة على التقسيمات العرقية، في حين تستطيع تناولها أية حركة طبقية-عمالية اشتراكية ببساطة.
الصناعات الملوِّثة
الحل الوحيد لإنقاذ البيئة يكمن في إزالة الرأسمالية، واستبدالها بمجتمع حر يديره المنتجون المتشاركون. ولكن علينا أن نعترف بحقيقة تسارع تفاقم المشكلة البيئية، بما فيها التغير المناخي، إلى درجة أنها أصبحت مسألة فناء الإنسانية أو بقائها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم أنواع الأحياء. الزمن المتاح لنا للتصرف، إذا كنا نريد منع وصول التدهور البيئي إلى نقطة اللا عودة، زمن جيل واحد تقريباً ننجز من خلاله تغيير السلوك كلياً. هذا على الأقل ما يمليه علينا العِلم حالياً.
في ظل هذه الظروف والأوضاع، نحتاج إلى معالجة جذرية على المدى القصير، وثورة إيكولوجية على المدى الأطول. وعلى الأولى أن تمهد ظروف قيام الثانية. وتتطلب المعالجة القصيرة المدى، حسب قناعتي، فرض ضريبة الكربون تصاعدياً على «رأس النبعة»، كما طرحها «جيمس هانسن»، وإحالة عائداتها المحسوبة شهرياً لمصلحة الناس. كي نضمن تحميل المراكز المنتجة للكربون مسؤولية دفع أعلى الضرائب مباشرة (وهم الأغنياء غالباً)، ونضمن كذلك توزيع العائدات الضريبية على غالبية الناس وانتفاعهم منها، نظراً إلى أنهم الطرف الأقل مساهمة في التلوث بما لا يقاس. ولا يجوز أن يتحكم بالعائدات المخصصة للناس لا رأس المال ولا الحكومات التي يهيمن عليها رأس المال.
ولا شك في صعوبة تطبيق مثل هذا الإجراء في مجتمع كمجتمعنا. لكنه إجراء يتزايد أنصاره وينتشر بقدر ما يرتفع مستوى إدراك الناس لفاعليته، سواء من ناحية إنقاذ كوكب الأرض (من خلال رفع أسعار الكربون)، أو من ناحية إنقاذ الناس الغارقين في قاع المجتمع، واستفادتهم من العائدات.
وفي الواقع، يفرض علينا العيش في مجتمع رأسمالي التحكم بالملوثات من خلال رفع أسعار إنتاجها، كوسيلة رئيسية. ولكن هذا لا يعني عدم اللجوء إلى أشكال أخرى من التشريعات السياسية المباشرة. فنحن بحاجة، مثلاً، إلى حظر بناء المنشآت التي تعتمد على إحراق الفحم طالما أن تكنولوجيا العزل غير موجودة بعد، علاوة على ضرورة منهجة التخلص من المنشآت المماثلة القائمة. وفي كافة الأحوال، يتطلب إنجاز كل هذا، بالمستوى المطلوب، ثورة إيكولوجية شاملة على كيفية إنتاجنا واستهلاكنا، ويرتبط بكيفية إدارة مجتمعنا وتنظيمه.
الحل الشامل
إذاً، لا يوجد حل جماعي شامل ضمن النظام القائم، ولسوف ينبثق المجتمع الجديد من رحم المجتمع القديم، وقد تطرقت بالتفصيل إلى مسألة العلاقة بين النظام الرأسمالي والبيئة، في مقالات سابقة، كانت فكرتها الرئيسية، التي تحتاج إلى تطوير بالطبع، هي أن نظام حكم رأس المال هو نظام القيمة المتنامية. فبقاء الرأسمالية واستمرارها مرهونان بما تقتضيه من إدامة النمو الاقتصادي وتراكم رأس المال. ويمكن لمثل هذا النظام أن ينجح في تحفيز الإنتاج والتنمية الاقتصادية، إلى حد ما، لكنه في الوقت ذاته، نظام شديد الاستغلالية يؤدي إلى تدمير ظروف بيئة الوجود. بينما الحل الوحيد إيكولوجياً واجتماعياً يكمن في إقامة مجتمع لا يعتمد على التراكم والنمو الاقتصادي بل يركز على تنمية إنسانية مستدامة.
في هذا السياق، لا يهم على أي معيار نستند لعصرنة الرأسمالية إيكولوجياً، طالما أن النظام يفرض نمواً متزايداً مع كل إعادة روتينية للإنتاج. فربما يكون مفيداً أن نستعيض عن وسائل النقل الخاصة بالعامة، ونستخدم وسائل الطاقة المتجددة، وأن نتبنى معايير بيئية أشمل، غير أن كل هذا، بحد ذاته، محكوم بتحقيق التراكم، هدف النظام القائم. من الهام، مثلاً، الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، لكنه يتطلب نظاماً يستخدمها إلى حد معين يضمن ديمومة تجددها، رأس المال يحطم هذا الشرط.
ولا يعني هذا الكلام أن نتخلى عن تشجيع الحلول الاجتماعية، الشاملة، العامة. وإنما إدراك أن ثبات سيرنا في هذا الاتجاه يعني سيرنا ضد منطق النظام السائد، مما يتطلب وجود تنظيم راديكالي. ما نتحدث عنه ونحاول إيجاده، جزئياً فقط، ضمن الرأسمالية هو البنية التحتية لمجتمع مغاير نوعياً. يمكن تحقيق بعض الأهداف بالضغط من تحت، طالما أنها لا تصطدم بالدافع المحرك للنظام، أي التراكم. لكن عندما يتهدد التراكم ذاته، يلجأ رأس المال إلى الهجوم، وغالباً تنكسر الانتصارات الصغيرة التي سبق إحرازها. الحل الوحيد (ولم يعد الأمر يتعلق بالعدالة وحدها بل بالوجود ذاته) يكمن في الذهاب إلى أبعد مما يقبله النظام السائد، أي تلبية حاجات الإنسانية جمعاء بأبعد مما يسمى «نظام السوق». في هذه الحالة يمكننا التحدث، في نهاية المطاف، عن إجراء تغيير حقيقي، عن ثورة إيكولوجية واجتماعية، والتحوّل إلى مجتمع مغاير.
دور الحركات الاجتماعية
كان الاشتراكي الأمريكي «سكوت نيرينغ»، واحداً من قادة حركة الاكتفاء الذاتي والعودة إلى الأرض. لا شك أن هذا الشكل من الانفصال عن منطق النظام ونتائجه (كنوع من أنواع العيش بعيداً عن الرأسمالية) هو شكل من أشكال المقاومة السلبية (يبقى مقاومة). عبر التاريخ، في مواجهة الأنظمة القهرية، عاد الناس إلى الأرض، لحراثة حدائقهم الخاصة، إذا صح التعبير، كنوع من أنواع التعافي، أو إعادة التجمع، وإلى ما هنالك. وغدا العديد ممن ذهبوا بهذا الاتجاه رواد أنماط الزراعات البديلة، بما فيها الزراعات العضوية، والتعاونيات الزراعية. ويتعين علينا عدم الاستخفاف بما يمكن أن تحرزه هذه النشاطات من ناحية ابتكار بدائل ضرورية لتنمية المجتمع الجديد، خلال مختلف مراحل تطور النظام الرأسمالي القائم.
لكن النضال الحقيقي في سبيل إبداع المجتمع الجديد يتطلب مقاومة إيجابية فعالة وتنظيماً سياسياً: ثورة مباشرة على علاقات الإنتاج القائمة. فالقوى والمقدرات الجديدة التي تم اكتسابها في فترة الجزر والارتداد يجب أن تصبح مكوناً من مكونات مقاومة فعالة. أما التفكير بإمكانية الانسحاب من رأسمالية معولمة والانفصال الكلي عنها فهو محض خيال ووهم. ومن المثير ذكر كيف دمج سكوت نيرينغ ذاته بين الشكلين، الاكتفاء الذاتي مع المقاومة المستمرة الفعالة، كيف أمسك بطرفي الخيط. اليوم نحن أحوج إلى الناس النشطين الفاعلين في مقاومتهم. وكلما كانوا قادرين على عملية الدمج بين مختلف أشكال تحرير أنفسهم من القفص، كانت النتائج أفضل.
الرأسمالية موجودة من أجل التراكم. إنها نظام «النمو أو الموت»، بمقاييس متعاظمة كوكبياً. عندما يتوقف النمو الاقتصادي، خاصة نمو الأرباح، يدخل النظام في أزمة كأزمته الحالية، مما يؤدي إلى بطالة شاملة.
نحن أحوج إلى بنية اقتصادية تركز على إنتاج الكفاية، لا أكثر. فإذا تم الانتقال من الفردية التملكية إلى الجماعية - الإنسانية اللاتملكية، يمكن أن يترافق التخفيض الاقتصادي العام عالمياً، خاصة في البلدان الغنية، مع تقدم التنمية البشرية المستدامة، مُحسّناً الظروف المحيطة بوجود البشرية. ولكن هذا كله يتطلب اقتصاداً اشتراكياً يجعله ممكن التحقيق.
يحضرني تحذير ماركس في «رأس المال» من خطأ محاولة رسم مخطط مسبق عن المجتمع الاشتراكي المستقبلي، وهذا يشمل القضايا البيئية. وقد أوضح بول بوركيت، في مقال ألمعي كتبه في عام 2005، بعنوان «رؤية ماركس للتنمية الإنسانية المستدامة»، نظرة ماركس للشيوعية كنظام تنمية بشرية مستدامة نوعي، وبهذا المعنى فقط يمكننا إدراك مفهوم ماركس عن قيام المنتجين الأحرار المتشاركين بتنظيم علاقتهم الحيوية مع الطبيعة.
فحسب ماركس، تتكون الاشتراكية من: 1- الملكية الاجتماعية. 2- تنظيم الإنتاج من قبل العمال. 3- تلبية حاجات المجتمع. ويمكننا، برأيي، أن نشتق اعتماداً على ماركس «مثلث الأساس الإيكولوجي» الذي ينقل النضال إلى مستوى أعمق. ويمكن تحديده كالتالي: 1- الاستفادة الاجتماعية من الطبيعة، لا امتلاكها. 2- تنظيم المنتجين المتشاركين العقلاني للعلاقة الحيوية بين الإنسان والطبيعة. 3- تلبية حاجات المجتمع، سواء الأجيال الحالية منه أو اللاحقة.