التداعي الأمريكي:الانقسام الألماني 3/4
جملة الأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية والمآزق الجيوسياسية لأوروبا تركت أثارها الجلية على وحدة الصف الأوروبية، البينية والداخلية، حول المعالجات المطلوبة وكيفية توزيع التكاليف بين الأطراف المختلفة. تكتفي هذه الحلقة بمعالجة ارتدادات الأزمة الأوكرانية على الاصطفافات الداخلية لألمانيا، كالقائد الأبرز لدول الاتحاد الأوروبي، وتحديداً فيما يخص الموقف من روسيا، وبالتالي من موقع السياسة الخارجية الألمانية ووظائفها داخل التحالف الأطلنطي (الأميركي-الأوروبي).
صراع الهوية السياسية الألماني
تلخص مقالة منشورة في مجلة دير شبيغل الألمانية المرتبطة بوزارة الخارجية أجواء النقاش الجاري في ألمانيا حول العلاقة مع الغرب وروسيا بالقول «لا عجب أن الجدل حول دور روسيا في الأزمة الأوكرانية يدفع نحو استقطابات داخلية أكثر من أية قضية سياسية أخرى في ألمانيا. بالنسبة لألمانيا، فإن الأزمة الأوكرانية ليست مشكلة بعيدة مثل سورية أو العراق– إنها تمس قلب مسألة الهوية الألمانية. أين نقف عندما يتعلق الأمر بروسيا؟ وبالتالي: من نحن كألمان؟ استعاد هذا السؤال أهميته في ألمانيا مع تنامي خطر الصراع بين الشرق والغرب الجديد وقد يجبرنا في نهاية المطاف أن نعيد تحديد موقعنا[..] كلما ازداد عدد الأصوات التي تهاجم روسيا لانتهاكها القانون الدولي في شبه جزيرة القرم، ازدادت أصوات الألمان ضد الغرب[..] واحدة من الاتهامات الأساسية هي أن الغرب والناتو رفضا روسيا بازدراء عبر سياساتهم التوسعية في الشرق الأوروبي».
في نهاية ٢٠١٤ نشرت دير شبيغل مقالة بعنوان «ارتسام تصدعات في برلين حول الموقف من روسيا» تقول «فكّر الألمان في السابق بلعب دور الجسر بين المعسكرين. لكن في هذه الأيام بدأ يظهر اختلاف كبير في تقييم الوضع داخل التحالف الحكومي[..] خلاف يضع قيادات مسيحيين ديمقراطيين مثل ميركل وهورست سيهوفر الذي يترأس الاتحاد الاجتماعي المسيحي، في مواجهة وزير الخارجية شتاينمر وزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ووزير الاقتصاد سيغمار غابريي». تورد المقالة جانباً من تعبيرات الصراع الداخلي، ففي الوقت الذي هاجمت فيه ميركل بوتين في قمة العشرين في سيدني قائلة: إن على الغرب ألا يكون «مبالغاً بنفوره من الصراع»، رد شتاينمر من بروكسل بالقول: إن على الغرب أن يكون حذراً «باستخدام العبارات في اللقاءات العامة، من أجل أن لا نقصي فرصنا بالمساهمة في تخفيف التوترات وحلحلة الصراع». ولم ينف الوزير لاحقاً في مقابلة مع دير شبيغل أن كلامه كان موجهاً لميركل، لا بل أنه أكد ذلك بصياغة دبلوماسية. لم تكن المرة الأولى التي خرجت فيها الخلافات الرسمية إلى العلن، إذ سبق وعبر نائب ميركل سيغمر غابرييل عن تأييده لـ«الفدرلة الذكية» في أوكرانيا (بالإشارة للطرح الروسي) في اليوم ذاته الذي كانت تزور فيه ميركل كييف في نهاية آب الماضي، قبل أن تصرح الأخيرة بأن ما قصده وزيرها بالفدرلة هو تخفيض مستوى المركزية. في جلسة حكومية في آخر شهر كانون الأول، صرح سيهوفر حليف ميركل "أريد موقفاً واضحاً من سيغمار غابرييل، هل يدعم الحزب الديمقراطي الاجتماعي جهود رئيسة الوزراء ميركل؟ مضيفاً بأن على الغرب ضبط صفوفه، وأن أكثر من يحتاج ذلك هي الحكومة الألمانية، مضيفاً أنه حتى داخل حزبه هناك الكثير من مشاعر الصداقة تجاه روسيا، مؤكداً «أن الأمور ستصبح خطيرة جداً إذا اتبع شتايمنر دبلوماسيته الخاصة بشكل مستقل عن رئيس الوزراء». أكثر من ذلك دعا بلاتزيك أحد أبرز قيادات الحزب الديمقراطي الاجتماعي إلى الاعتراف بانضمام القرم إلى روسيا.
في المضمون يجري الحديث عن تبني أوساط في برلين لما يسمى «بالسياسة الشرقية الجديدة» (New Ostpolitik) المصطلح الذي جرى إطلاقه على سياسة بون اتجاه الاتحاد السوفيتي في مطلع الثمانينيات، والتي تقوم على مبدأ التغيير عبر التقارب والاحتواء. عملياً ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية وحتى منتصف ٢٠١٤ تبنت ألمانيا موقفاً أميل لإيجاد تسوية بين روسيا والغرب، الأمر الذي تغير نسبياً فيما بعد، لتبقى تلعب الدور «الكابح» لبعض الطروحات كإرساء قوة دائمة للناتو في شرق أوروبا، في نفس الوقت الذي تصد فيه بعض المواقف التي تعتبرها «رخوة».
تجدر الاشارة إلى أن مايسمى بالسياسية الشرقية الجديدة تجد لها صدى داخل المؤسسات الأوروبية العليا. ففي الورقة المقدمة في 19 كانون الثاني 2015 من مجلس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي لتقييم الموقف الأوروبي تجاه روسيا في سنة 2014، تتم الدعوة للانتقال من المعالجات قصيرة ومتوسطة الأجل مع روسيا إلى معالجات طويلة الأجل تقوم على الحوار مع موسكو لإيجاد أرضية مشتركة للتعاون المتدرج والمشروط في مسائل السياسة الخارجية (سورية، ليبيا، إيران، فلسطين، كوريا الديمقراطية) والتجارة (التحرير التجاري مع روسيا) والتعاون القطاعي (طاقة، نقل، تكنولوجيا، مجتمع مدني.. إلخ)، مؤكداً على أن الهدف هو إيجاد روافع لأوروبا على روسيا تمكنها من تحقيق مصالحها.
لم يفت الاستراتيجي الأمريكي زبينغيو بريجنسكي في واحدة من مقابلاته التعبير عن امتعاضه من تردد وإعاقة برلين لجهود تسليح أنصار الغرب في أوكرانيا مقابل عدم ترددها في إرسال الأسلحة للأكراد العراقيين «رغم بعدهم»، حسب تعبيره. كما كتب مستشار الرئيس البولندي للشؤون الخارجية «بسبب العلاقة الخاصة بين برلين وموسكو، لا يمكن علينا الإعتماد على ألمانيا في شؤون الأمن الإقليمي»، مضيفاً أن ألمانيا «تعامل روسيا كطفل ذي احتياجات خاصة يتوجب تربيته دون توتر»..!
في معنى الصراع ومآلاته
الصراع الجاري في ألمانيا اليوم هو مجرد محطة من محطات عملية آخذة بالتبلور منذ مطلع القرن، إذ سبق ورفضت ألمانيا المشاركة في حرب العراق، وتغيبت عن التصويت في مجلس الأمن حول التدخل في ليبيا. بكل الأحوال فإن ما يرشح إلى السطح حتى الآن يشير إلى أن موضوع الاختلاف الداخلي الألماني هو حول أسلوب التعامل مع موسكو وليس الهدف، فأنصار «السياسة الشرقية الجديدة» يرون أنه «عبر تكثيف الدبلوماسية والتجارة تستطيع ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون تحويل موسكو إلى شريك لا غنى عنه، الأمر الذي يعطي ضمنياً لأوروبا أن تكون رافعة للتأثير على موسكو وتغيير اتجاهاتها». إذاً لا مجال للخلط هنا، فالصراع ليس بين أطياب وأشرار وإنما بين مناهج استعمارية مختلفة للوصول للهدف ذاته.
بعيداً عن التفاصيل، يمكن القول: إن التحولات الألمانية محمولة على أرضية موضوعية ومن المرجح أن تستمر وتتعمق تحت تأثير ثلاثة عوامل مترابطة ومتفاعلة:
- رغم أن طرفي الأطلسي محمولان على مركب الرأسمالية بتشابكاتها المعاصرة، إلا أنّ تباين مواقع أوروبا وأمريكا من النظام الدولي بشكله الحالي يشكل أرضية متينة لتصاعد الشقاق فيما بينهما. فأمريكا يستند استقراراها الاجتماعي ووحدة أراضيها إلى الحفاظ على موقع المهيمن الدولي، الأمر الذي زالت مقوماته الاقتصادية والسياسية، في عجالة رعناء من أمرها، الأمر الذي يدفع واشنطن للتوظيف السياسي الجائر لحلفائها وأتباعها من وجهة نظر مصالحهم.
- تباين المواقع الجيوسياسية لأمريكا وأوروبا من نقاط الاشتباك المشتعلة حول العالم، فمعظم التكاليف الاقتصادية والسياسية والأمنية المباشرة للأجندة التي تدفع بها واشنطن تقع على الكاهل الأوروبي. فألمانيا هي الشريك التجاري الأوروبي الأكبر لروسيا، إذ تقول التقديرات إن ٣٠٠ ألف فرصة عمل في ألمانيا تعتمد على العلاقة مع روسيا، الأمر الذي يفسر موقف رئيس المجلس الألماني للعلاقات الاقتصادية مع شرق أوروبا (والذي يمثل مصالح ٢٠٠ شركة تستثمر في روسيا) من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من الاتحاد الأوروبي، إذ يؤكد أنها «خاطئة»، كما قدر المجلس خسائر التوظيف في ألمانيا نتيجة العقوبات بحوالي ٦٠ ألف فرصة عمل حتى الآن. يذكر في هذا السياق الزيارة التي قام بها رئيس شركة سيمنز للرئيس بوتين بُعَيد استعادة القرم، مؤكداً له بأن علاقة شركته بروسيا «لن تتأثر بالأزمة الحالية».
أكثر من ذلك تبرز مشكلة توزيع تكاليف «إسناد» الاقتصاد الأوكراني المنهار بين أوروبا وأمريكا وصندوق النقد الدولي الذي حذر مؤخراً من أن خطة الإنقاذ على أبواب الانهيار بسبب نقص التمويل، فأمريكا لم تسهم بشكل جدي وأوروبا تتهرب من إعطاء المزيد، الأمر الذي دفع وزير المالية الألماني لسؤال روسيا المساعدة!
- تعمّق وتراكب الأزمات السياسية والاقتصادية الأمريكية الداخلية والخارجية يشكل رافعة لحلفائها تسمح لهم بالدفع نحو رفع مستوى استقلاليتهم النسبية في علاقتهم مع أمريكا والمطالبة بإعادة تقاسم التكاليف والأرباح بشكل مختلف.
إنّ العوامل الثلاثة السابقة تفعل فعلها في علاقة أمريكا مع كل حلفائها، وليس أوروبا فقط، كما أنها تشكل تعبيرات مختلفة لواحدة من الصفات الجينية للتطور الرأسمالي، أي الصراعات الرأسمالية البينية، والتي يشتد مفعولها لحظات الأزمة الاقتصادية، تحديداً تلك التي تنضوي على أزمة هيمنة ناتجة عن إعادة توزيع عوامل القوة بين اللاعبين الدوليين.
إذاً، يظهر الصراع الداخلي الألماني كمثال حي على توافر أرضية صلبة لنجاح الاستراتيجية العاملة على قسم التحالف الغربي الامبريالي كضرورة لتفكيك المكونات المادية لعالم الهيمنة الأمريكية بشكل نهائي وتثبيت ميزان القوى الدولي الجديد، فالإنقسام والشرذمة سمت القوى المأزومة والمتراجعة.