«أفغانكستان».. ورقعة اللعبة الكبرى الجديدة في أوراسيا..
بيبي إسكوبار بيبي إسكوبار

«أفغانكستان».. ورقعة اللعبة الكبرى الجديدة في أوراسيا..

منذ سنوات تسع، قبل يوم واحد من مقتل زعيم «تحالف الشمال» أحمد شاه مسعود على يد اثنين من جهاديي تنظيم القاعدة ادعيا أنهما صحافيان، وقبل ثلاثة أيام من 11/9، مَن كان يظن أن تبقى أفغانستان عالقة في حرب مائة وخمسين ألف جندي أمريكي- أطلسي ضد خمسين أو ستين جهادي من تنظيم القاعدة، وإلى جانبهم جمعٌ من وطنيي البشتون الملتئمين على نحو مبهم في حركة «طالبان»؟ لا أحد.

أعوام مرت، والحرب ذاتها تستمر في أفغانستان. لعلها لم تعد «الحرب على الإرهاب» بعد أن أعادت إدارة باراك أوباما وصفها بأنها «عمليات مكافحة العصيان في ما وراء البحار»، ولعلها أمست «الحرب الصح» في «أفغانكستان» بكلفة 100 مليار دولار سنوياً (قابلة للزيادة)، إلا أن أوباما، في جميع الأحوال، ما زال يتقلب في أطيان ارتهانه لحروب جورج دبليو بوش. وكيفما تسلت واشنطن بأوهام سيطرتها على الأمور، يبقى حامد كرزاي رئيس أفغانستان الماكر، المسيطر الفعلي الذي يلعب بخطة هجومية، في الشوط الأخير من اللعبة الكبرى الجديدة في أوراسيا.

 

ترجمة: موفق إسماعيل

لملمة المشبوهين المعتادين

لابد أنه قد اتضح من حيث الجوهر، أن باكستان منشأة عسكرية- مخابراتية بعباءة دولة، وأن ثنائي الجيش والمخابرات كان وسيظل نصيراً لحركة طالبان، وواهم من يعتقد أنه سوف يقوم بالـ«إصلاح»، سواء بمليارات المساعدات الأمريكية أو من دونها.

ورغم أن هدف الجيش الباكستاني الأهم هو جمع أكبر كمية من الأسلحة النووية لتنفيذ النسخة الجنوب-آسيوية من «أرماجيدون»، في حربِ «ابدأها أو مت» ضد العدو الهندي اللدود، ما زال «العمق الاستراتيجي» مبدأ ثابتاً تنطلق منه باكستان لتحيل أفغانستان حديقة خلفية فُضلى تحت سيطرتها (تماماً كما كانت منذ عام 1992، حين اندلعت حروب المجاهدين فيما بينهم، وحتى سقوط «حكومة» طالبان عام 2001).

حينما مُنح قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق برويز كناني، حبيب البنتاغون الأمريكي، تمديد خدمته في موقعه لمدة ثلاثة أعوام، سارع كرزاي إلى التنويه بما هو معلوم: «لن يهدأ كناني قبل أن يغدو أهم شخص في كابول»!

وبفضل خبثه الخارق، أصاب كرزاي باستنتاجه أن قاذفات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وعمليات الجنرال ديفيد بترايوس، مجتمعة، لن تهزم طيف قوى «مقاومة الأجانب»، الدارجة تسميتها «طالبان»، مثلما أصاب بفهمه هشاشة استراتيجية أوباما في أفغانستان. فجمهوريو الولايات المتحدة الطامحون إلى السيطرة على الكونغرس بانتخابات الشهر القادم، سوف يتشددون أكثر في تصوير الرئيس كغرّ في الشؤون العسكرية، فيما يدفعه البنتاغون للنكث بوعده بدء سحب القوات من أفغانستان في تموز/2011، في حين يروج بترايوس للتعزيزات العسكرية باعتبارها «نصراً»، كما فعل في النسخة العراقية، وبالتالي يلمّع سيرته الذاتية بما يكفي لضمان دخوله البيت الأبيض في عام 2012.

وبما أن لا أمر يعني كرزاي أكثر من أمر تخليد نفسه حاكماً، مال حيث تميل الريح، وقرر الاعتناء بمزرعته الخاصة عبر تحسين علاقاته مع جارتيه الشرقية والغربية باكستان وإيران، متطلعاً إلى مستقبل يعقد فيه صفقة شراكة سلطوية في كابول، لا تشمل الأمريكيين. وبشكل أساسي، يسعى كرزاي لإغراء قواعد طالبان بالمال وبعروض التشغيل ضمن الماكينة الحكومية، وقادة الحركة بتأمين ملاجئ آمنة لهم في بلدان إسلامية ملائمة. ولذلك، أعلن رسمياً منذ أسابيع قليلة، عن تشكيل «مجلس أعلى للسلام» يكلف بعقد مفاوضات مع حركة طالبان، الفكرة التي وافق عليها قبل ثلاثة أشهر اجتماع الـ«جيرغا» في كابول، بحضور ألف وستمائة زعيم ديني وسياسي وقبلي من عدة أقاليم أفغانية.

ولابد أن يتوقع المرء من هم المشبوهون المشاركون في مهزلة عضوية مجلس السلام التي تضم زعيم المجاهدين السابق برهان الدين رباني (الذي كان يخضع له مسعود)، والمجاهد السابق ذي الصلات الوثيقة مع السعودية، عبد الرسول سياق (المشتبه بتورطه حتى اليوم باغتيال مسعود)، وبالتأكيد، شخصية كبيرة من «الحزب الإسلامي» الذي كان يتزعمه المجاهد السابق قلب الدين حكمتيار رئيس الوزراء الوحيد في التاريخ الذي قصف عاصمته (في أواسط التسعينيات).

الأجندات المغْفلة

رغم انعدام الثقة بين الحزب الإسلامي وحركة طالبان، إلا أنهما يقاتلان من أجل الهدف ذاته، وهو طرد الغزاة الأجانب. وبينما حركة طالبان أكثر انتشاراً وسيطرة، بشكل خاص في المناطق التي تتواجد فيها القوات الأمريكية والأطلسية بكثافة، في إقليمي هلمند وقندهار، يبسط الحزب الإسلامي نفوذه على الأقاليم الشمالية والشرقية.

لكن ما غفلت عنه مهزلة كرزاي هو أجندة حركة طالبان. فزعيمها «مُلا عمر»، المتواري في مكان ما من «كويتا» عاصمة إقليم بلوشستان الباكستاني، يطالب بخروج الغزاة فوراً واستعادة كامل سلطته، ومن المحال أن يقبل الاشتراك مع كرزاي في تناول وجبة رأس ماعز محشو بالرز الكابولي.

إضافة إلى أن كرزاي لن يحاول إغراء ما تبقى من تنظيم القاعدة، مع العلم أنه لا يوجد أكثر من ستين عنصراً من عرب وأوزبك وأتراك وشيشان القاعدة في منطقة وزيرستان القبلية بباكستان، وخمسين عنصراً عبروا الحدود إلى أفغانستان، أكثر أو أقل ببضعة أنفار، حسب تصريح ليون بانيتا رأس هرم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل نحو شهرين. أي أن واشنطن تنفق أنهاراً من الأموال لتحارب بضعة مرشدين جهاديين عرب. والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، يواجهان سوية نسخة محدّثة من خليط المقاتلين الساعين للتحرر من الغزاة الأجانب.

وفوق هذا وذاك، تعقيد عامل طالبان باكستان، إذ لا يكاد يمر يوم وإلا ويصدر تهديد عن كبير متحدثيهم، قاري حسين محسود، الذي سبق له قبل أسابيع مضت، أن تبنى تفجير كويتا الانتحاري (راح ضحيته 50 شيعياً)، معلناً أن «الأهداف» لن تقتصر على «الغزاة الأجانب»، بل ستشمل الشيعة، وتنفيذ عمليات داخل الولايات المتحدة وأوروبا. ومن المؤكد أن الهجمات ستشتد في بيشاور وكويتا ولاهور (التي تمثل لطالبان باكستان ما تمثله نيويورك لتنظيم القاعدة).

بالنسبة لإسلام آباد، تكمن المعضلة في كيفية تفكيك هذه الشبكة الجامعة بين تنظيم القاعدة، وطالبان باكستان، والمعادين للشيعة (Lashkar-e-Jhangvi)، و«جند اللـه» المتمركزة في بلوشستان الإيرانية. أما كرزاي فليس مهتماً بكل هذا، إيماناً منه بأنه يملك الخطة المُحكمة «لتأمين» أفغانستان!

القضية «بايبلاينستان»

يتعارض ما تريده إسلام آباد لأفغانستان مع مصالح الهند. ولذلك لا غرابة في شن الأخيرة هجومها المضاد عبر تمتين علاقاتها مع روسيا وإيران.

ترى روسيا في عمليات تهريب الهيروين الضخمة، المفسدة والمدمرة للشباب الروسي، خطراً على أمنها القومي، أكبر من انتشار حركة طالبان في آسيا الوسطى. ومن جهة أخرى، بدلاً من أن تقف شامتة لرؤية الولايات المتحدة تغوص في مستنقع أفغانستان، كفييتنام ثانية، قررت روسيا أن تطلق نسختها الخاصة بإعمار أفغانستان، مستثمرة في البنى التحتية والموارد الطبيعية، محققة، بطريقها، بعض الأرباح المالية.

أما بالنسبة للتقارب الهندي الإيراني، فهو حتمي رغم تصاعد عقوبات الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد طهران، فيما تشجع نيودلهي الشركات الهندية على تعزيز الاستثمار في قطاع الطاقة الإيراني، وضعت وزارة الخارجية الهندية تعزيز العلاقات الديبلوماسية مع إيران على سلم أولوياتها، مع العلم أن الشركات الروسية والهندية والتركية تتجاهل العقوبات الغربية كلياً، وتستمر بعلاقاتها التجارية مع إيران.

في هذه الأثناء، تقوم مؤسسات ما يشبه الفريق 2، كـ«مجموعة الدراسات الأفغانية»، ببذل مساعيها لإيجاد مخرج من المستنقع الأفغاني. لكنها، رغم كل قدراتها التعبوية الفكرية، لا تتطرق ولو بكلمة، في تقريرها الصادر حديثاً، إلى السبب الرئيسي للوجود الأمريكي في أفغانستان: «بايبلاينستان»، أرض خطوط أنابيب النفط. (والسبب الآخر، طبعاً، رغبة البنتاغون بالحفاظ على قواعد متقدمة لمراقبة منافسيه الاستراتيجيين، روسيا والصين).

مرة أخرى، نعود إلى «الحرب» بين أراضي خط أنابيب «TAPI» مقابل أراضي خط «IPI»؛ الأول هو امتداد خط أنابيب الغاز الطبيعي من تركمانستان عابراً أفغانستان إلى باكستان، ثم الهند. والثاني هو خط إيران- باكستان- الهند.

من المفترض أن يكون القائمون على خط «TAPI»، من البلدان الأربعة، قد عقدوا اجتماعاً في عشق آباد، ووضعوا أسس العمل بإنشاء الخط (إذا لم يصل إلى الهند فسيكون بطول 2000 كم، وبكلفة 7 مليار دولار). وبينما يتم إنهاء مد خط الحلم الخالد «TAPI» أو «TAP» بدون الهند، يتم تجهيز خط إيران- باكستان «IP»، الذي أعلنت الدولتان أنه سيوضع قيد التشغيل في عام 2014. وهذا يثبت من جديد أن العقوبات الغربية ضد إيران لا تعني شيئاً لباكستان، وأن تأمينها حاجاتها من الطاقة هو مسألة أمن وطني، أهم من خطط واشنطن.

والأمر ذاته ينطبق على الهند. ومن الضروري ذكر أن خط إيران- باكستان (IP) حين كان يضم الهند (IPI) اشتهر في جنوب غرب آسيا باسم «خط أنابيب السلام»، وانسحبت منه الهند بسبب الضغوط الأمريكية (وإلا لماذا؟)، لكنها عادت الآن لتفاوض، ليس من أجل عودتها إلى المشاركة في إنشاء الخط فقط، بل أيضاً من أجل بحث إمكانية تمديد خط ثان تحت الماء بين إيران والهند.

سريالية الخيار

تعرف نيودلهي حق المعرفة أن الصين تطمح إلى تمدد خط إيران- باكستان شمالاً، بمحاذاة طريق كاراكورام السريع، باتجاه زينغجيانغ غربي الصين، كما سبق لوزير الخارجية الباكستاني، شاه محمود قرشي التصريح أنه إذا استمر تردد الهند فسوف يصل خط الأنابيب بين إيران وباكستان والصين.

ستصبح الخطوط على رقعة اللعبة الكبرى الجديدة في أوراسيا مُلكاً لمن سينتصر في حروب «بايبلاينستان» هذه التي تضم آسيا الوسطى، وجنوب آسيا، وجنوب غرب آسيا. ونظراً لتراكم الحظر- العقوبات- الحصار الغربي على إيران، يتحتم عليها التغلب على كل المصاعب وتطوير تقنياتها، وإنشاء خط أنابيب إيران- باكستان، أو إيران- باكستان- الهند، وضمان تدفق الغاز الطبيعي عبره بلا توقف.

عندها، كل تحرك ضد إيران سيُنظر إليه باعتباره هجوماً على شبكة أمن الطاقة الآسيوية كلها؛ وحرباً تشنها واشنطن ضد الوحدة الآسيوية. ونظراً لسريالية خيار المنافسة، من ذا الذي يصدق أن كرزاي سيتمكن من إقناع حركة طالبان بالتخلي عن حصتها من خط الأنابيب ذاته الذي كان الأمريكيون يرغبون بإنشائه سابقاً، قبل اتخاذهم قرار الإطاحة بسلطة طالبان بالقاذفات؟؟.

* بيبي إسكوبار: مراسل آسيا تايمز الجوال.