الاغتراب والتموضع.. تفريق ضروري (1/4)
«جاء زمانٌ أمسى فيه كلّ ما كان يعتبر غير قابلٍ للتغريب موضوعاً للتبادل، للمتاجرة، ويمكن تغريبه (بيعه وشراؤه). إذ باتت كل الأشياء التي كان ممكناً حتى ذلك الوقت تشاركها دون تبادلها، وإعطاؤها دون بيعها، واكتسابها دون شرائها – الفضيلة، الحب، القناعة، المعرفة، الضمير، إلخ.. باتت جميعاً، وباختصار، خاضعة للإتجار. إنّه زمن الفساد الكلي، والارتشاء الشامل، أو، لنتكلم بلغة الاقتصاد السياسي، الزمن الذي أمسى فيه كلّ شيء، أخلاقي أو جسدي، قيمةً سوقية، تُعرَضُ في السوق ليقرر قيمتها الحقيقية». (1)
بهذه الكلمات يوجز لنا ماركس واقع ما يسمّى بالاغتراب (alienation) (أو الاستلاب estrangement)، وهو واقع يستطيع جميع النّاس، وخاصّةً المنتجين منهم، أنْ يشعروا به، لأنّهم ببساطة يعيشونه يومياً. واقعٌ لا إنساني يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وخاصّة مع اشتداد جرائم اقتصاد السوق الرأسمالي، بنسخته الليبرالية الجديدة، المعَولَمة والمفروضة على بلدان العالم ومن ضمنها بلدنا سورية.
فالعالم-السوق هو عالم الاغتراب، و«البيع هو الجانب العملي للاغتراب»(2)، ووساطته المال، ذلك «القَوّاد بين الحاجة وموضوعها، بين حياة الإنسان ووسائل حياته»(3)، ذلك «..الإله المرئي! الذي يصهر المستحيلات معاً، ويجعلها تتبادل القبلات!.. حتى تكون للوحوش إمبراطورية العالم!».(4)
يعيش الناس غرباء حتى في أوطانهم. العالم غريب عنهم وهم غريبون عنه. يعملون فقط للبقاء على قيد الحياة، أو كما يقال يعيشون لكي يعيشوا، عملهم بحدّ ذاته مجرّد وسيلة وعذاب، وليس غاية ومتعة. فالعامل لا يجد في عمله إشباعاً إنسانياً لأنّه «ينحَطٌّ روحياً وجسدياً إلى دَرَك آلة، ويتحوّل من كونه إنساناً إلى نشاطٍ مجرّد ومَعِدَة».(5)
لكي نتعرف أكثر على مفهوم الاغتراب/الاستلاب سنبدأ أولاً من مفهوم التموضع ثمّ نوضح علاقته بالاغتراب كما فسّرها ماركس تفسيراً صحيحاً، لنرى كيف مكّنه ذلك من وضع برنامج عملي لنفي الاغتراب وتجاوزه نحو انعتاق إنساني حقيقي.
ما هو التموضع؟
التموضع (objectification) هو الوجود الموضوعي لكلّ شيء مادّي، الشكل الضروري لوجود كلّ شيء في الطبيعة، وحالة ارتباطه مع الموجودات خارجه: «الكائن الذي لا تكون طبيعته خارج نفسه ليس كائناً طبيعياً ولا يلعب دوراً في نظام الطبيعة. الكائن الذي ليس لديه شيءٌ خارجه ليس كائناً شيئياً.. بل كائن فكري مجرّد، غير حقيقي، وغير محسوس».(6) ولذلك يُستَخدم مصطلح آخر ليفيد معنى التموضع، وهو التخارج (externalization). والتموضع هو السّمة العامّة لكلّ كائنٍ طبيعي سواءً أكان جماداً أم حياً أم إنساناً: «الشمس هي موضوعٌ للنبات، شيءٌ لا غنى عنه لإثبات حياته، تماماً كما أنّ النبات موضوعٌ للشمس، تعبيرٌ عن طاقتها الباعثة للحياة وطاقتها الجوهرية الموضوعية»(6)، لكن ما هي الميزات العامّة للكائن الحيّ ؟ يجيب ماركس أنّه «من جهة مزوّد بطاقات طبيعية، بطاقات حيويّة.. توجد فيه كميول وقدرات، كدوافع. ومن جهة أخرى، هو كائنٌ حيّ مشروط ومحدود ويعاني، أي أنّ مواضيع دوافعه توجد خارجه، كأشياء مستقلّة عنه؛ لكنّ هذه الأشياء هي مواضيع لحاجته، أشياء ضرورية لا غنى عنها لتظاهر وإثبات طاقاته الجوهرية»(6). الكائنات الحية إذاً: تجد تموضع قدراتها في مواضيع حاجاتها، لكنّ هذا التموضع عند الحيوانات والنباتات إمّا أن يوجد في مواضيع طبيعية جاهزة (الغذاء، والماء، والهواء، إلخ..)، أو تقوم بإنتاجه عبر نشاط غريزي، فالحيوانات تنتج أيضاً ولكنّها «تُنتِجُ فقط عندما تُجبِرها الحاجة الجسدية المباشرة على فعل ذلك»(7)، فالعصافير مثلاً تبني أعشاشاً فقط استجابة للحاجة الغريزية لحفظ النوع، وهي «لا تُنتِجُ إلا وفقَ مقاييس وحاجات النّوع الذي تنتمي إليه»(7)، كأن تبني مساكن على مقاس أجسامها فقط. أمّا النشاط الإنتاجي للإنسان، فهو تموضع للطاقات الجوهرية البشرية، يتميّز بخصوصية أنّه نشاطٌ واعٍ، أي تموضع واعٍ لعمله، فالإنسان ينتج «حتّى عندما يكون حرّاً من الحاجة الجسدية، بل لا يُنتِجُ بحقّ إلا في الحرية من هذه الحاجة»(7)، فهو لا ينتظر أنْ يجوع حتى يزرع، أو يبرد حتى يصنع الثياب، بل يخطط لأعماله مسبقاً وينفذها، ولا يستطيع ذلك إلا بعد أن يؤمّن حدّاً أدنى من إشباع الحاجات الجسدية المباشرة، ليتحرر منها ويتفرّغ نسبياً لعمله العضلي والفكري. ويكون الإنسان «قادراً على الإنتاج وفق مقاييس كلِّ نوع وأنْ يطبِّقَ على كلِّ موضوع المقياس النّوعي الملازم لذلك الموضوع. وهكذا فإنّ الإنسان يُنتِجُ كذلك وفقًا لقوانين الجمال»(7). مثلاً يستطيع إضافة لبناء مسكنه، صنع أيّ نوع من مساكن الحيوانات (للماشية، للنحل..). هذا هو مفهوم ماركس عن الإنسان بوصفه «الكائن-النوع»، وذلك «ليس فقط لأنّه عملياً ونظرياً يشكّل النوع – كلاً من نوعه وأنواع الأشياء الأخرى، أي أنواع موضوعه – ولكن أيضاً.. لأنّه يتطلّع إلى نفسه ككائن شامل وبالتالي حرّ»(7). فالعمل هو شرط عام مطلق لا غنى عنه لوجود الإنسان، ولا يمكن أنْ يتحقق العمل واقعياً إلا بأنْ يتموضع، بشكل منتوجات، أشياء تلبي حاجات الإنسان المادية (كالغذاء)، والروحية (كالأدب، والفن)، لأنّ «منتوج العمل هو العمل مجسداً ومحوّلاً إلى شيء مادي في موضوع، إنّه تموضع العمل».(7)
علاقة الاغتراب بالتموضع؟
يبين ماركس أنّ الاغتراب هو حالة خاصّة من التموضع، تتجلى في أنّ «الموضوع الذي ينتجه العمل، أي منتوجه» – أي تموضعه – «يقف ضدّه مثل شيء غريب، كقوة مستقلة عن المُنتِج»(7)، وأنّ «الحياة التي وهبها للموضوع تواجهه كشيء عدواني وغريب»(7). وماذا يعني أن يكون عملك ومنتوجك غريباً عنك؟ يعني أنْ «يظهر التموضع كفقدان للشيء بحيث أنّ العامل تُسلَبُ منه المواضيع التي يحتاجها بشدّة ليس فقط من أجل الحياة بل من أجل العمل أيضاً»(7)، ولذلك يطلق على الاغتراب أيضاً تسمية الاستلاب. وقد خلص ماركس إلى هذه العلاقة على أساس منهجه المادي الديالكتيكي، الذي كان ينضج ويتطور عبر المخطوطات، وعبر نقده لديالكتيك هيغل المثالي، الذي خلط بين هذين المفهومين، وطابق بينهما، إذ اعتبر هيغل أنّ تموضع الإنسان هو اغتراب، بوصفه نفي لوعيٍ مجرّد (للفكرة المطلقة). وبذلك سلّم بأن الاستلاب، أي التموضع اللاإنساني القائم في ظروف الرأسمالية، والمجتمع الطبقي عموماً، هو الشكل الوحيد الممكن للتموضع، وبذلك طابق بين العام والخاص، تدفعه في ذلك رغبته في الحفاظ على النظام الرأسمالي وجعله أبدياً. وكيما يظل منسجماً مع ديالكتيكه المثالي، تصوّر هيغل تجاوزاً وهمياً للاغتراب، يتمّ من خلال نفي كلّ تموضع – نفي النفي- لترجع الفكرة المطلقة من تموضعها إلى ذاتها الروحية المحضة.
إذن ما يشكّل ماهية الاستلاب هو أنّ جوهر الإنسان يُمَوضِعُ نفسه بطريقة لاإنسانية، في تضادّ مع نفسه. ويعدد ماركس أربعة جوانب لتظاهر الاستلاب:
1 - استلاب الموضوع: أو اغتراب الإنسان عن الطبيعة، ويعبر عن ذلك باستلاب العامل في موضوعه، حرمانه من منتوجه: «كلما أنتج العامل أكثر، اضطر أنْ يستهلك أقلّ، كلّما خَلق قيمة أكثر، صار هو عديم القيمة أكثر.. كلما زاد تحضّر موضوعه، زاد العامل بربرية.. كلما زاد العمل ذكاءً، زاد العامل بلادة، وزادت عبوديته للطبيعة.. العمل يُنتِجُ الأعاجيب للغني، لكنّه يُنتِجُ الحرمان للعامل».
2 - استلاب الذات: «الاستلاب لا يتظاهر فقط في نتيجة الإنتاج، بل وكذلك في فعل الإنتاج، ضمن نشاط الإنتاج بحدّ ذاته. إذ كيف يمكن لمنتوج نشاط العامل أنْ يواجهه كشيء غريب لو لم يكن العامل حقيقةً في فعل الإنتاج يَستَلِب نفسه من نفسه؟».
3 - استلاب الإنسان من الكائن-النوع : ويتجلّى في اختزال النشاط الحياتي الواعي للنوع البشري من غاية إنسانية حرّة وممتعة إلى عمل قسري يكون مجرّد وسيلة لتحقيق غاية، هي الوجود الجسدي للفرد، «فبالنسبة إلى إنسان يتضور جوعاً، لا يكون شكل الطعام الموجود هو الشكل الإنساني للطعام .. ويكون مستحيلاً عندئذٍ تفريق هذا النشاط التغذوي عن نظيره لدى الحيوانات».
4 - استلاب الإنسان من الإنسان: وهي نتيجة لجميع الجوانب السابقة، لأنّه عندما يقف الإنسان ضد نفسه، فهو يقف ضد البشر الآخرين أيضاً، ويكون مستلباً من الآخرين، والجميع مستلبون من الجوهر الإنساني.
الهوامش:
1 - ماركس، بؤس الفلسفة، الفصل الأول (اكتشاف علمي)، القسم الأول (التضاد بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية).
2 - ماركس، حول المسألة اليهودية، الفصل الثاني.
3 - ماركس، مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية. المخطوط الثالث/الفصل الرابع ( المال).
4 - من اقتباس ماركس عن شكسبير، مسرحية «تيمون أثينا»/ الفصل الرابع، المشهد الثالث.
5 - ماركس، مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية. المخطوط الأول/ الفصل الأول (أجور العمل).
6 - المصدر السابق، المخطوط الثالث/ الفصل الخامس (نقد ديالكتيك هيغل وفلسفته ككل).
7 - المصدر السابق، المخطوط الأول/ الفصل العاشر (العمل المُستَلَب).
