لا انتظارَ بعد اليوم ولا انكفاء
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

لا انتظارَ بعد اليوم ولا انكفاء

ما إنْ بدأ الشهر الماضي بالانتهاء، حتّى بدأت تخرج من أروقة الاتحاد العام واتحادات المحافظات تصريحات غير رسمية تطلب من الموظفين والعمّال التي طالتهم القرارات الحكومية المجحفة بالتريُّث والانتظار حتى قدوم الحكومة الانتقالية الجديدة المرتقبة، والتي حسب فحوى التصريحات ستعيد النظر بالقرارات بطريقة أو بأخرى، وعلى المتضرّرين تثبيتُ مظلوميّتهم حاليّاً وانتظار الحكومة الجامعة والخبيرة، وهذا ما تماشى مع توجيه النصائح للاحتجاجات من بعض المدراء والموظَّفين الكبار بعدم جدوى بقائهم في الشارع، وبأنّ الأمر مرهون بالحكومة الجديدة، وبالفعل فإنّ جانباً من هذه التصريحات والنصائح تبدو موضوعيّة، وهذا الجانب بالذات يتمثل بأنّ الحكومة الانتقالية القادمة على طاولتها هذا الملف حكماً، نظراً لفشل الحكومة الحالية بمعالجته وهي المتسبّبة فيه أصلاً (خربطت الدني ببعضها) ولكن فكرة توقف الاحتجاجات والخروج من الشارع والانتظار فهذا الجانب تحديداً ليس فيه من الصواب شيء.

قضت الطبقة العاملة عقوداً من الانتظار، فهي تنتظر كل شيء؛ تنتظر القرارات وتعديل القوانين ومنحة العيد وتعويضات المحروقات وزيادة الأجور و«المكرمة الرئاسية»، وحتى رسالة الخبز والغاز ودور الصراف الآلي. وكذلك فعلت النقابات من خلفهم، وكانت مميَّزة أيَّما امتياز بانتظارها الإعجازي لردود الحكومة على كُتبِها الخجولة الممهورة بأسمى آيات الشكر والامتنان للسلطة والقيادة، وأيضاً بانتظارها للسماح لها بمداخلة في مجلس الشعب أو في مؤتمراتها نفسها، وكأنّ القَدَر كَتبَ على هؤلاء العمّال الانتظار لا غير، وكأنّه لا يكفي خروجهم من دائرة صناعة القرار ودخولهم معتقل تنفيذها رغماً عنهم، وعكس مصالحهم الطبقية والأساسية والتي كانت مرتبطةً بكرامة عيشهم ولقمة أولادهم، ليأتي مَن يطلب منهم الانتظار والانكفاء من جديد، وهم الحالمون بالتغيير المنشود والأشدّ احتياجاً له، والراغبون بطَيّ العقود العِجاف، والتقاط الفرصة المتمثِّلة بسقوط سلطة النظام البائد، وانفتاح أفق التغيير والبناء والحرّيات والعدالة، فمِن دَرَك اليأس الممزوج بالإنهاك والعجز بدتْ بوادِرُ المستقبل الذي انتظروه طويلاً، فالتقطوها بهمّة العائد من الموت، باحثين عن دورهم ومصالِحهم بآنٍ معاً؛ دور حقيقي وكامل في بناء الوطن الذي ضحّوا لأجله بأغلى سنين حياتهم، صابرين على المرّ والفقر والقهر والخوف.

لا وقت نضيعه بالانتظار

إنّ الخروج من ردّ الفعل إلى الفعل، والخروج من السكون إلى الحركة، ومن الانتظار إلى المبادرة هو ما تحتاجه الطبقة العاملة اليوم، وهو ما ستسعى إليه بعزم وحزم ودراية، ومِن المؤكَّد بأنّ ذلك سيأخذ وقتاً ليس بقليل، نظراً لشدّة الإنهاك وتراكم الخوف، والتعوّد على انتظار الوعود الخلّبيّة والحلول الحكومية وغيرها، إضافة لعدم استقرار الوضع بشكل عام في طول البلاد وعرضها. ولكن هذه المرة لن يذهب الوقت بالانتظار بل بالعمل والنضال وتراكم التجربة، فالخوض في المعترك الحاصل على المسار الاقتصادي للبلاد مثلاً ليس محسوماً بعد، ولن يحسم قريباً، وما زال الوقتُ كافياً كي تدخلها الطبقة العاملة بقواها المجتمعية الحيّة، خاصةً إنْ استطاعتْ صناعةَ طليعتها الواعية المرشِدة القادرة على صياغة برنامجها المصيريّ، المبني على مصالحها الوطنية والسياسية والمعيشيّة، ورسمت مسارها المنسجم مع تطلّعاتها. وإنّ نجاح ذلك مرهونٌ بصمِّ آذانِها عن نصائح الانتظار والانكفاء والتروّي.

أين برنامج النقابات؟

الفرصة التاريخية المتمثّلة بسقوط سلطة النظام البائد لم تكتمل بعد، ولن تكتمل بالانتظار بل بالجرأة والإرادة والنضال. ومن يتأخر اليوم عن الصعود سيفوته الركب كلّه وسيكون عليه الانتظار من جديد، لذلك على نقابات العمال اليوم التخلّي عن العقلية السابقة والانطلاق من واقع الطبقة التي يمثلونها، وتحفيزها على انخراطها بأشكال العمل المطلبي والطبقي كافّةً، بل وتنظيمه وتوجيه حركته بالاتجاه الصحيح، وهي قادرة على ذلك إنْ امتلكت الإرادة لذلك. وعليها ملاقاة عمّالها في ساحات الاحتجاج ودعمه بكلّ الوسائل التي كفلها القانون والمجتمع، وعليها الاستفادة من فضاء الحريّات الذي اتّسع لحدود جيّدة مقارنةً بالماضي القريب، وأنْ تصنع تجربتها الخاصة بها لتكون حاضرة بالقضايا الكبيرة قبل البعيدة، فحاملو رايات الخصخصة والسوق الحرّ واقتصاد الأغنياء يحومون بالأفق، فاتحين أذرعتهم لسياسات صندوق النقد الدولي، يمَنّون أنفسهم باقتصادٍ على مقاس مصالحهم، يسبقهم خطابهم الدعائي الزائف بـ«بحر طحينة وجرار عسل»، يسوّقون له بين صفوف العمال والكادحين، وكأنها وصفة لعلاج فقرهم وضيق أحوالهم. كل ذلك يجري في ظلّ غيابٍ لبرنامجٍ للتنظيم النقابي يقدّم فيه رؤيته لمستقبل البلاد بشكل عام، والنهج الاقتصادي بشكل خاص، ويوضّح لمن يمثلهم خطورةَ نهج الأغنياء ودعايته المسمومة.

نكون أو لا نكون

مع انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، والمدّة المعلنة لحكومة تصريف الأعمال، تستمر الاحتجاجات العمالية المطالبة بإلغاء قرارات التسريح والفصل والإجازات القسرية، وغيرها، بالتزامن مع الحديث عن اقتراب تشكيل الحكومة الانتقالية، ممّا يرفع أهمية وجودها واستمرارها، كونها تشكل مع عمل النقابات الحضورَ الأفضل المعبّر عن وجودها كطبقة لها مصالحها وحقوقها الموضوعية والمشروعة، وغياب التحرك العمالي أو النقابي سيغيّبها عن المشهد القادم، ويجعلها خارج دائرة الحسابات من جهة، ولن يلقي أحد لها بالاً، ولا لمطالبها بإلغاء القرارات، وإعادة دراسة واقع القطاع العام على قواعد علميّة ومعايير احترافية وقانونية، تضمن تخلّصه من الفساد الكبير قبل الصغير، وإعادة استنهاضه وتحديثه بشكلٍ يضمن صناعته ليكون عماد الاقتصاد السوري، وروافعه المعتمدة، وبالتالي فإنّ احتمال ذهابنا بالاتجاه المغايِر تصبح أكبر، ممّا سيودي بنا إلى التهلكة. وتسوء ظروف الطبقات الأشد فقراً لمستويات أشد سوءاً ممّا هي عليه ممّا يهدد الأمن الاجتماعي بشكل عام وخطير. فإذا تمت خصخصة الكهرباء مثلاً مَن سيكون قادراً على دفع سعر الكيلو واط المسعَّر من قبل الشركات الخاصّة؟ ومن سيكون قادراً على شراء ربطة خبز بسعر السياحي؟ ومن أين سيأتي العامل بتكاليف معيشته؟ وهل سيكون قادراً على دفع تكاليف دوائه وتعليم أطفاله وغيرها من الضرورات الحياتية؟ أم ستكون البلاد حِكراً على أسياد المال كما كانت وكما هي الآن؟ حينها فعلاً لن يبقى أمام الكادحين والعامين بأجر غير انتظار المعجزات أو الموت، فلا انتظارَ بعد اليوم ولا انكفاء، بل وحدة إرادة وعمل ونضال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1216