عرائش الخوف

على رصيف وكالة سانا كان الشرطي يزيد من حركة يده الممسكة بالعصا، وينفخ في صفارته من هواء صدره ما يجعل السيارات لا تتلكأ في العبور، وأما المعترضون فهم سائقو السرافيس الذين يريدون أن يملؤوا مقاعدها وممراتها، وأما من يحسب له حساب فهو شرطي الدراجة الذي يمسك بدفتر المخالفات الذي يمثل قانون السير بقوته وغراماته الثقيلة.

بالأمس غير البعيد كانت سيارات شرطة محافظة دمشق تملأ سياراتها بما تيسر من بضائع الناس المنشورة على الأرصفة، وحتى بعض العناصر التقطت لهم صور وهم يأكلون (على كل ضرس لون ) من التفاح والموز والخليط الذي تضمه سياراتهم.

قبل شهور قريبة كان المعوم هو من يقف على هذه الأرصفة، هو من سمحت له المحافظة بترخيص كشك لبيع الدخان والبضاعة السريعة، أو من كانت له مهمة خاصة، أو من لديه قدرة على الهرب والجري السريع.

منذ وقت قريب كان التسول مظهراً منفراً، وغير اعتيادي، وكان منظر طفلة متسولة يثير تساؤل المارة واستغرابهم، وأما محافظة دمشق فكانت تعد لمشروع كبير، واقترحت خطاً ساخناً للإخبار عن المتسولين.

من جديد لا تسكنني الدهشة التي خسرتها في معركتي منذ أن قررت أن أكون صحفياً،  وودعتها مع عقم السياسات الحكومية السابقة في جعلنا مواطنين نسكن حيّاً هادئاً ونظيفاً، وخسرتها ورفعت راية استسلامي عندما توجت الحكومة السابقة (لأن الحالية معذورة بالظرف الراهن) انجازاتها بافتتاح سوق جديدة لنا نحن السوريين تحت مسمى السوق الاجتماعي.

من جديد أعلن هزيمتي أمام ما تشهده الأرصفة من قبح وغياب لأي منظر حضاري عن أقدم مدينة مأهولة في العالم، واليوم يسكن الشام الباعة غير مبالين بمروري في وسط الشارع، وفي الوقت  نفسه يسكب بائع التمر هندي الماء البني بعد غسل حوضه الوسخ في الطريق، وأما بائع الصبار فيرش الماء من حوله حتى يُشعر المارة برطوبة ثمره المعروض، وكذلك بائع الدراق والمشمش والكرز، وأما ما يثير الحنق فهو بائع الفجل والخس والبقدونس الذي افترش جدار (سانا) بصوته الرمضاني العريض.

مظلات كبيرة نصبت أمام جامعة دمشق ليستظل باعة الأحذية الرخيصة، وشبه سوق جديدة صارت حاضرة، ومكتبات تختلط مع الأحذية في كرنفال لا يمكن أن يكون إلا في مدينة لا لغة لها، ولا أحد ينتبه إلى خليطها العجيب، ولا أعتقد أن محافظ المدينة أو أحد أعضاء المكتب التنفيذي قد مروا في الشوارع التي صارت أسواقاً رغماً عنها، ولا أحد يحاول أن يعد قليلاً من المنطق للأشياء هنا..هنا رصيف لنا، وهناك سوق للباعة، وهذه مواقف للسيارات والمنتظرين، وهنا لا يجلس المتسول مع أبنائه ويمدون جميعاً أيديهم وألسنتهم، وهذا الرصيف ليس سريراً لمن شاء أن ينام، والجدار ليس للتبول.

أما من يبرع اليوم في تسويق بضائعهم فهم إخوتنا الصينيون، وبعض الروسيات، وقليل من منتجي مشتقات الحليب والأشجار المثمرة في ريفنا الساخن.

في المقابل يجد أصحاب المحلات الكثير من الوقت للتفكير، وقراءة القرآن الكريم في رمضان خصوصاً، ويحلمون واقفين على أبواب محلاتهم بيوم قريب دون بسطات، وحتى دون أرصفة، ويتذكرون وهم يجتمعون أمام محل أحدهم تلك الأيام الخوالي عندما كانوا سادة شارع الحمراء والجسر الأبيض والصالحية، وكان أصحاب البسطات يتوسلون لهم من أجل ساعة بيع قبل المساء.

السؤال البغيض من يسمح لكل هذه الفوضى أن تسكن، ولمصلحة من تستطيل البشاعة، وكم من الوقت يلزم لإعادة ترتيب حياتنا بعد كل هذا السعار..اللغة اليوم لسوق جديدة ليست مفتوحة وليست ظلاً لسوق حقيقية...لغة تشبه اللغة التي نتحاور بها في حل معضلتنا الكبرى..لغة معطلة تجتاح البلاد.