سفينة نوح المعاصرة..
معركة حامية... صخب صخب... الكل ذاهب والكل الآخر مقبل... تناحر بالأكتاف، بالأيدي، وأحياناً بالأرجل... وقد أفلح من لم يتنحّ، أما من فعل فالويل الويل، إذ هناك جولة أخرى أعتى وأشد، لكنها ليست الأخيرة... هاهي سفينة نوح قد أقبلت، سيل من كل شيء يندفع من أحشائها، مثنى وثلاثاً ورباعاً تتقيؤهم، وبنهم تبتلع أشباههم ومثلهم وربما أكثر...
في جوفها، بعضهم جالس ونشوة الانتصار تغمره لأنه ممن رضي الله عنهم وقد وفق بمكان أكثر مما يطمح إليه فيها... وبعضهم متشبث بكل ما فيه من إصرار، بشيء ما هنا أو شيء ما هناك محاولاً ألا يفلت لأن هناك ألف يد يمنى وأخرى يسرى تترقبه منتظرة لحظة مواتية وممتلكة إصراراً أشد لتحظى بشيء مما هنا أو هناك تتشبث به... أما البعض الأخير؛ فهو ريشة في مهب الأقدار، فهؤلاء لم يوفقوا لا بمكان يجلسون فيه ولا بشيء يتعلقون به، فموجة متجهة إلى الخلف تأخذهم، وأخرى بالاتجاه المعاكس تأتي بهم، ولسوء حظهم أنه من ميزات سفينة نوح التي ابتلعتهم وقوف متكرر... وأما من رافقه حظه العاثر فلن يجلس، ولن يتعلق، ولن يترجل إلا في آخر الرحلة...
وسترى إذا ما أمعنت النظر وأعملت فكرك في ملامح تقاسيم وجوههم، الواقع البائس الذي هم جميعاً يشكلون عنوانه، وكل يغني على ليلاه...
هناك ستلمح شاباً ثلاثينياً ممن رضي الله عنهم جالساً على كرسي صار عرشه، وستجده متحداً معه اتحاداً مصيرياً يمارس صراع البقاء فيه، فاتحاً جريدته على مصراعيها ومثبتاً ناظريه في مفاتنها التي لا تفتنه، ولكن ذلك ضروري لأنها إحدى وسائله في البقاء، فهو يعلم أنه لو رفع نظره ولمح بين الجموع فتاة كالصبح جمالاً أو عجوزاً معظم ملامح وجهها غاصت عميقاً في تجاويف أحدثتها الأيام، فالشهامة التي لا يزال يحتفظ بشيء منها ستحرك شيئاً من مكارم الأخلاق فيه، وكثيراً من النخوة، وعندها سيكون لا بد من التنحي عن العرش لتتوج إحداهن عليه، وهذا ما لن يقبل أن يحدث بعد كل تلك المعارك في سبيله...
وستميز إذا ما دققت جيداً، ملامح آخر فوق العشرين أو أقل قليلاً، قد بدأت تحدث منذ اللحظة الأولى بعد أن أيقنت ما هي مقبلة عليه، وستقرأها تخبر، فكل تلك الأناقة التي أمضى ذاك الشاب في سبيلها وقتاً وجهداً ليس بالقليل عساه ينال إعجاب تلك أو ذاك الذي يقصده، أو ربما يصادفه، ستفقد شيئاً من ألقها، فموجة واحدة ذهاباً وأخرى إياباً حاملة معها ثنائيات لا تنتهي من الأرجل ستكون كفيلة بأن تنال من لمعة حذاء يعتبره هو والكثيرون عنواناً للأناقة، وتلك واحدة فقط من همومه الآن، ومثلها ولا تقل أهمية عنها يد شردت محلقة لتنال من تسريحة شعره، ووووو... وهو يحاول جاهداً أن يخرج ما أمكنه بأقل خسارة ممكنة..
وأكثر ما قد يلفت نظرك وسيشدك إليه إن عاجلاً أم آجلاً، ذلك الربان الذي لا يرحم ولا يترك مجالاً للرحمة لتحل على من أقلهم وسيقلهم، بطرف عينيه ينظر باحثاً في المرآة ليفتش عن أي مكان مهما قلت مساحته ليحشر فيه ضحية أخرى وليست الأخيرة، وهو يعلم أن ألف لعنة ستحل عليه، فهو يمارس دوره بمساعدة الأقدار ليزج المزيد في هذه البوتقة، وحتما كل هذا التفاني في محاولة جعل سفينة نوح الملعونة تستوعب أكبر قدر ممكن من المحكوم عليهم بإرادتهم رغماً عنهم، ليس شفقة أو خدمة بدون مقابل، فتلك التذاكر التي يقطعونها منه ليسافروا معه له نصيب فيها، فتخيل كم سيجني وكم سيتفانى...
وإذا ما دقق النظر أكثر، فهناك ملامح لتقاسيم تقسم الأوف، ولكل ليلاه التي يغنيها.
هذا بعض ما يحدث في باصات النقل المؤجرة للقطاع الخاص.. والتي كانت في الماضي القريب تسمى: باصات النقل الداخلي..